أفكار أمنية اليأس - 2
بعد نصف ساعة تحدثت فيرونيكا مُنبهرةً “سيدتي، أنتِ حقًا جميلة، أيًّا كان ما ترتدينهُ فسيبدو جميلًا عليكِ، لا يوجدُ وصفٌ أستطيعُ وصفكِ به!”
(صوت طرق الباب)
-ميراي: فيرونيكا، هل سيدتي مستعدة؟ الدوقُ ينتظرُها فالخارج…
روبي: أخبريهِ أنني قادمة…
مدّ الدوق يده لروبي حتى تدخل العربة، متفاجئًا من تصرفِ روبي؛ فكانت هذه المرةَ الأولى التي ترتدي فيها شيئًا قد أهداهَا هو إيّاه. فدومًا ما كانت تختارُ الأثوابَ الكئيبة الخاليةَ مِنَ المشاعرِ؛ كراهيةً فيهِ، ومنْ دهشةِ جين نسيَ الكلامَ الّذي أراد قولهُ؛ منْ جمالِ روبيِ الأخّاذ.
كانَ الفُستان البحريُّ المرصّع بالكريستال وتصفيفةُ شعرها المرفوعة قد سحرت عينيه مِنْ شدةِ جمالها، في أثناءِ الطريق، وبينما يتأملُ عينَ روبيِ الناعسةِ وشعرها المرفوع الذي تُداعبهُ أنسمةُ الرياح…
-روبي: إذا طلبَ أبي منكَ المال مجددًا فَـلا تُعطه.
جين: لماذا؟ أليسَ هوَ والدك؟ ما خطبُك؟ لِمَ تتصرفين بغرابة؟
روبي : فقط لا تُعطه!
جين: حسنًا، كما تشائين!
ثم قاطع حديثهم رئيسُ الحرس، سيزار صاحبُ جين الوفيّ، أفضل فُرسان دوقية ميدن “سيدي، لقد وصلنا لقصر الكونت كريستوفر”.
نزلَ جين وروبي من العربة، كانَ جين حذرًا أثناء نزولهم خوفًا من أنْ تتعثرَ روبي… ثم مشيا في مدخلِ قصر الكونت الذيِ زُيّنَ بأفضل الزينة والحلى، من الألماسِ إلى الذهب، الثريا والأضواءُ المشعّة تُذهلُ العين، حتى أن أصواتُ الموسيقى تُسمعُ من على أمتارٍ بعيدة.
تحدث الخادم الذي يقفُ بجانبِ الباب “سيدخُل الآن الدوق جين ميدن وزوجتهُ الدوقة روبي ميدن”.
قالَ الكونت كريستوفر العجوز ذو الشارب الطويل والشعر الأبيض الأملس مبتسمًا ابتسامةَ خُبث “مرحبًا حضرةَ الدوق ميدن، مرحبًا ابنتي العزيزة… لتبدأ الحفلة الآن”.
فجأةً يدخُلُ شابٌّ ذو شعر ناعم بنفسجي اللون، يلفتُ الأنظار من بعيدٍ بتلكَ البدلةِ المُرصعةِ بالزينةِ والأصنافِ المُتنوعة منْ الألماسِ والكريستال الذي يوحي بشدةِ ثرائه، يحملُ بيديهِ زهرةَ توليب، ليتحدث الخادم بخوفٍ ورعبٍ شديد “يدخل الآن الأمير الرابع إيزيك دي فير”…
– فقالَ إيزيك ونظرَ بعينهِ التيِ تُشبهُ الثعالِب فيِ مكرها وذكائها “يا لها من حفلةٍ جميلةٍ تُقام وتبدأُ بدونيِ! فأينَ دعوتيِ حضرةَ الكونت؟ أم أنكَ نسيتني بعدَ زواج ابنتك؟!”
عمَّ الصمتُ جميعَ أنحاءِ القاعة.
-تحدثَ الكونت كريستوفر بنبرةٍ متوترةٍ وخائفة “ماذا تقصد أيهُا الأمير؟ بالطبع أنتَ أول المدعوين، لكنْ يبدو أنَّ أحدهم لم يوصل لكَ الدعوة بالشكل المطلوب، أعدك أني سأُحاسب من تجرّأ على فعل هذا الأمر المُشين! “
ضحكَ الأمير إيزيك بسخريةٍ شديدة مِن الكونت “لا داعي للقلق أيها الكونت، لقد كنت أمزح معك… أكملوا العزف”.
ثُم اتّجهَ إيزيك نحو روبي مُقدًمًا لها تلكَ الأزهار الزاهية… بدت ملامِحُ الارتباكِ واضحةً على هَيْئَة روبي؛ فقد كانت تُمسِكُ يديها بأَزْرٍ شديد، ترتعِشُ مع ارتجِافِ شفتيها مِن الهلع الذيِ أصابها حينما رأت إيزيك.
-إيزيك: مرحبًا جميلتي روبي، تزدادينَ جمالًا يومًا بعد يوم، وكما توقعت هذهِ الألوانُ تليقُ بكِ أكثرَ منْ تلكَ الألوان الكئيبة…
شعرت روبي بغضبٍ شديدٍ منْ تصرفِ الأمير الغير مبالي لِـأفعاله، فكيف يُهديها زهرة توليب؟! ويخاطبُها كما لو أنها مُقربةٌ منه؛ فقالت له ” توقف عنْ ذلك!”
-كانت روبي تحدثُ نفسها بأسى “لماذا؟ لماذا الأمر هكذا دائمًا؟ هل عليَّ أن أعيشَ كُل ذلكَ البؤس والحزن؟ أن أدركَ مُتأخرًا مجددا؟ لماذذذا؟! أنا وحدي فقط! لا أُريد أنْ أخوضَ ذلك ثانية، أريد التغيّر والعيشَ بسعادة بلَا كذب ولا مشاكل، بلا هذه الحرب داخليِ التي استمرت لِـ73 سنة، هذاَ ليسَ قليلاً! تعبتُ من كُل هُذا”.
-ايزيك: لِمَ كُل هذَا الغضب حُلوتي؟ أنتِ تعلمين ذلكَ بالفعل.
أتى جين من بعيد والغضبُ بادٍ على ملامحه…
-جين: حضرة الأمير، تحدث بتهذيب معها، أنا زوجها هُنا.
أمسكت روبي بمعصمِ إيزيك بدون أنْ ترى من حولها؛ فالدوارَ قد اجتاح جسدهَا وعقلها، ضحك الأمير فرحًا ظننًا منهُ أنهَا رسالة للدوق ليبتعد عنهُما، بينما عبسَ جين مما رآهُ فقَدْ ظن أنها قد عادت لعهدِهَا القديم؛ روبي التي تعشقُ الأمير كعادتِها. بينمَا يظنُ جين ما يظنهُ كانَ الدوار يزدادُ أكثرَ فأكثرَ إلى أنْ أصبحت روبيِ تحسُ بحرارةٍ شديدةٍ تجتاحُ جميعَ أنحاء جسدها كالقنبلة الموقوتة.
-روبي: جي..ن…جين…أنفا ….س..
بدأت تصبحُ رؤيةُ روبي ضبابية أكثر فأكثر، حتّى سقطت مُغشيًا عليها…. هلعَ جين من ذاكَ المنظر؛ فقد عادت لهُ ذكرى أخرى، ذكرى مروعة جدًا، ذكرى قَدْ أعادت بداخلهِ ما يهزُ جميعَ أركانه، حينها تحرك بسرعة. انتشلَها مِنْ على الأرض راكضًا بها بسرعة نحوَ الطبيب الذي لا يعلمُ إنْ كانَ متواجدًا أم لَا، وجههُ امتلأ خوفا وذعرًا، بينما صُدم إيزيك بذاك المنظر؛ فكل أفكارهِ كانت عن متى أصبحَ جين يهتمُ لروبيِ؟ ولِمَ هي أصبحت تناديهِ باسمه فجأة؟ فَـلطالما كانت تناديه بالدوق لا أكثر ولا أقل. اشتعلت بداخلهِ نارُ الغيرةِ مُتناسيًا أمرَ روبي التي فقدت وعيها أمامه! أمّا والدهَا كريستوفر كعادتهِ لا يهتم أماتت أمْ عاشت، لكنهُ تظاهرَ بالقلق قائلًا “انتهى الحفل” حتى يكسبَ تعاطُفَ الدوق جين؛ فَـمصلحتهُ أهمُ منْ أي شخصٍ آخر، وإن كانت ابنته هي المعنية بالأمر، بينما بقية الحضور كانوا منشغلين بالقيل والقال. لم يُصدق أحدٌ أنها فقدت وعيها، ظَنَّ الجميعُ أنها مسرحيةٌ خططت لها روبي حتى تلفت الأنظار إليها.
بعد دقائقٍ نُقِلَت روبي لإحدى الغُرف الموجودة في قصر الكونت كريستوفر وأتى الطبيب أليكس – الذي جاء إلى الحفلة صدفة- وبدأ بفحصها، وبعدَ عدةِ ساعات من الانتظار المُقلقة…
-الطبيب أليكس: حضرة الدوق، يبدو أنّ الدوقة تعاني من سوءٍ شديدٍ فيٍ التغذيةِ، وليسَ هذا فقط! فهي تعاني قليلاً من الحمى، لكن لا داعيِ للقلق يجب أنْ تتناول هذا الدواء لمدةَ 5 أيام وعليها أنْ تعتنيِ بطعامها جيدًا.
نظر جين نحو روبي المُلقاة على السرير بعبوسٍ شديدٍ وتذكرَ ذاكَ اليومُ الأدجن…
(عودة للماضيِ البعيد)
في ساحة الحرب
-سيزار: حضرة الدوق لقد وصلت رسالة من القصر، إنّهَا مِنَ الدوقة.
جين:أعطني إيّاها.
ثم بدأ جين في قراءة الرسالة:
إلى حضرةِ الدوق جين، أعني زوجيِ جين الذيِ كانَ حاضرًا معي جسدًا بلا روُح، مُنذُ أن كُنت أبلغُ السابعة عشر من عمري إلى اليوم الذي أنا أصبحت بهِ في الثالث والعشرين لمْ تُعرنيِ أيَّ اهتمام أوْ حتّى تتحدث معي أو تضحك لأسباب لا علمَ لي بها. حتى بينما كُنتَ تتجاهلني بلا سبب كُنت أُحِبك، لا زلت كذلك ولكن يبدو أنهُ لا توجدُ بيننَا لحظةٌ واحدة سعيدة، حتىَ بعدَ أنْ علمت بحملي لطفلنا الأول الذي تشوقتُ لولادتهِ وظننتُكَ ستكونُ سعيدًا بهذا الخبر أيضًا، لكنّكَ لمْ تُعطني أي ردة فعلٍ، سوى قولك: “أخبري رئيس الخدم بكل ما تحتاجينهُ”.
لَمْ تدم سعادتي تلك سِوى شهرين حتى توفي طفلي قبلَ أنْ ألدهُ لأسبابٍ أنت تعرفها. مع َذلكَ أنتَ لم تُبدِ أيّ ردةِ فعلٍ حزينةٍ ولا حتى متأسفة أو متأثرة، ولم تقف بجانبي بلحظةِ ضعفي، هذا مِنْ جهتك فقط…
-جين: ما خطبها مع هذه الرسالة؟!
هذاَ مِنْ جهتك فقط، فخلال الست سنوات مِن زفافنا كانَ والدي يستغلُ جميعَ ما قد حصلتُ عليهِ منكَ وإنْ لم أعطه قام بضربي. وإذا أردتُ أنْ أخبركَ فأنتَ مشغولٌ كعادتك، لا وقتَ لي عندك، أما منْ جهةٍ أُخرى؛ تحرُش الأمير إيزيك بي الذيِ استمرَ لسنواتٍ عديدةٍ وأنتَ لا تعترض ولا تدافعُ عني، كل الذيِ قرأتهُ بالأعلى غيرَ مُهم بالنسبةِ ليِ الآنْ، أنا متشوقةً لعودتك من ساحةِ الحرب بعد الانتصار الذي حققتهُ فقَدْ جهزتُ لكَ هديةٍ لنْ تَنساها من شدةِ جمالها، أنا مُتحمسة لأعيشَ معكَ إلى الأبد! إلى اللقاء الآن.
-جين: سيزار أرسل هذه الرسالة إلى القصر، سنعودُ في غصونِ ثلاثة أيام وأعلم الجنود بذلك.
بعد ثلاثة أيام
– فيرونيكا: حضرة الدوقة، هذا فنجانُ القهوة تفضلي.
ميراي: سيدتي…سيدتي(تلهث).. لقد عاد الدوق، شارفَ على دخولِ باحةِ القصر.
روبي: حسنًا، اذهبوا للاستقبال، سوفَ آتِي بمفردي.
فيرونيكا: حسنًا سيّدتِي.
اتّجهت روبي نحوَ شرفةِ غُرفتها وهي تجبرُ نفسها على الابتسام، وشعرها المُتتطاير يغطّي عينيهَا، كُلّهَا عبوسٌ وهيَ ترَى الدّوق يدخلُ باحةَ القصر والفرسان خلفهُ ممتطين أحصنتهم، نظر إليها جين متفاجئًا لأنّ روبِي طوالَ الستّ سنوات كانت تكرهُ تلكَ الشُرفة ولمْ تدخُلهَا مِنْ قبل. حينها أحسّ بشعورٍ غريبٍ كما لو أنّ مُصيبةً ستحدث الآن، تمتمت روبي بصوتٍ خفيضٍ وهي تقصدُ بهِ جين “شكرًا لك”… ثُمَّ قفزت من شرفةِ غرفتهَا وسقطت على الأرضِ، تناثر دمُها في جميعِ أنحاءِ الحديقة حتّى تغطى جسدها الهزيلُ بالدّم، ارتسمت نظرة الرّعب والصّدمة على وجوه الجميع من هول المشهد، بالأخصّ جين الذِي تمكّن منه اليأس بعد ما رآه؛ فهل منْ طريقةِ تُعيدُ الميّتَ للحياة؟!
ركضَ جين بسرعةٍ نحوَ روبِي الّتي سقطتْ، وبدأ يصرخُ مناديًا باسمهَا…. ثمَّ احتضنهَا وضمّها لصدرهِ ماسحًا على شعرهَا بيديهِ الّتي تلطخت بالكامل بدمِها، ثُمَ قبّلَ جبينهَا منتحِبًا من قنوطهِ الشّديد الذيِ عرف من خلاله ولأوّلِ مرةٍ معنَى الهزيمة بعدَ إنجازاته التي لا تُعدّ ولا تُحصى.
-جين: الطبيب … أين الطبيب؟ بسرعة، أحضروا أليكس! رجاءً فليفعل أحدُكم شيئًا ما…
امتلأت عيناه دموعًا، تفاجأ الجميع من تصرّف الدّوق الّذي يتصرّف علَى غيرِ عادتهِ… جين، ذاكَ الرّجلُ البارد الذيِ لم يهتم قَط بزوجتهِ يبكِي الآن عليهَا!
المُحيّر هُنا حياةُ مَنْ كانتْ الحقيقة؟ روبي البائسة أمْ جين الكئيب؟
(عودة للحاضر)
أمسك جين بيد روبيِ النائمة ثُمَ قال “لنْ أدعَ ذاكَ الماضي يحدث مجددًا، أعِدُكِ بذلك”.