ألف أليف - 0
في بقعة نائية في هذه الأرض الباكية عاش حرف الألف واضعا فوق رأسه المكفهر همزة وجدها ذات يوم مشردة مضطجعة على حافة رصيف رمادي في يوم قسا فيه الزمهرير، فمنذ ذلك اليوم لم يبعد عنها و لم ينزلها أو يتركها هنيهة، أما تلك الهمزة الصغيرة فكانت شاكرة له على فضله و جميل صنعه فكانت كالتاج بل كرأسه الذي لا يحيا بدونه و هو اعتاد وجودها كيف لا و هي كانت تقطع عنه زفات الأنفاس التي قد تودي به و تؤلم مفاصله.
كان الألف مشهورا جدا في تلك المدينة، مجرد وجوده في المدخل يعرف الكلمة بجانب صديقته اللام و من انتشار أخباره في كل شبر انتقلت على بعض الألسنة روايات تقضي بأنه عليل و أخرى تؤكد أن علته رحمة بباقي الحروف، ما أثار بعض الحساد في الجوار.
كان الألف أول الحروف، في الرتبة الأولى دائما، يأخذ كل الأنظار، مامن كلمة مشهورة غالبا إلا و الألف أحد مشيّديها.، غير أنه كان أحسن مثال للتواضع و محبته لغيره أكبر من أن يتصورها إنسي.
في يوم كئيب كما سائر الأيام التي تمضي على هذه الأمة، و في إحدى الدهاليز التي لم يسمع عنها أحد ولم توضع فيها قدم و لم يؤخذ فيها نفس ماعدا أنفاس كائن كان في أسفل سافلين، مع صديقتها تتناول أطراف الحديث تارة و كعكة تارة أخرى، تحدق فيها بعينها الوحيدة السوداء فالأخرى قد أصابها مرض عضال أضطرت على إثره استئصال مقلتها العزيزة، أما الأخرى فترمقها بنظرات يائسة حاقدة ثم تجلس على كرسي خشبي و تنحني نحو الطاولة القديمة قائلة:
ما عاد صبري كافيا لأسكت عن الأمر، لم الألف يأخذ كل المجد وحده أولسنا لا نقل قيمة عنه يا واو؟ ”
-“قدرنا جعلنا آخر الحروف في الترتيب الهجائي، غير أننا لن نقبل بهذا بعد اليوم، على الأقل نستحق بعض الاحترام و الشكر على جهودنا!”
ثم تقطع الكلام هنيهة ريثما ترتشف من القهوة الداكنة كأيامها و لياليها و تضيف بعد وضع الكأس الأبيض كبصيص الأمل في عينيها على الطاولة و تقول:
ياء.. أنت مميزة في شكلك، تعملين عكس ما يفعل تماما، أنت في اليد التي لا غنى لأي واحد منا عنها، و في اليوم الذي نتشاركه كلنا و في اليم مقبرة أحاسيسنا الملتهم لشجننا،أعدك أن اليوم الذين تزينينه و الذي سنحصل فيه على حقنا بأيدينا سيكون قريبا”
في فلق يملؤه رباب داكن يوحي بقرب هطول أمطار ساحقة توجهت الواو و الياء إلى بيت الألف حيث الكل نيام، طرقتا الباب الخشبي بهدوء و مكر غريبين موقظتين الألف من نومه، ففتح الباب بهدوء ليتفاجأ بهذه الزيارة، دعا الزائرتين إلى الدخول فولجتا بهدوء و جلستا في غربة الإستقبال تتأملان لمعان الثريا.
أحضر الألف بعض الشاي في كؤوس بيضاء نقية كما مهجته و بعض الحلوى الوردية ثم جلس حذاءهما قائلا:
“أهلا و سهلا مالذي أحضر بكما في هذا الوقت؟”
و ماقد تفتح الواو فاها للحديث حتى نطقت الياء بسرعة:
“أيها الألف أنا أعتذر منك حقا لا أستطيع.. إتفقت مع الواو أمس على قتلك و فصل همزتك عنك عنقك لأننا نغار منك لكن لا أستطيع!”
و مع شهقة كبيرة من الواو المصدومة جانبها واصلت الياء حديثها بعد أن وجهت نظرها نحو الواو قائلة:
“آسفة.. لا أريد أن أكون مميزة على حساب شخص آخر، أنا أكثر من حسد الألف لأنه الأول و أنا الأخيرة.. غير أني لاحظت في كلمة “يأس” أن القاعدة مقلوبة.. هل هذا ما أشعر به الآن؟ هل أنا يائسة لهذه الدرجة؟”
و مع صدمة الجميع انتشر الهدوء بضع ثواني حتى قطعته ضحكة خفيفة من الألف سقطت على خافق الواو كسهم جارح و على قلب الياء كثلج هادئ بعد عاصفة هوجاء
“لكن لم لم تخبراني عن الأمر منذ بادئ الأمر لكنت بحثت عن حل لكما عزيزتاي”
تردف الياء في دهشة:
“ألست غاضبا منا؟”
-“لا.. كل كائن قد يمر بفترة كآبة و يأس ثم يعود من جديد إلى رشده”
أما الواو حيث بللت دموعها الأرض الخشبية قائلة في أسى شديد:
“آه ماذا كنت سأفعل؟ أي جرينة شنعاء كنت سأرتكبها، ذنب لا يغتفر و إن غفرت لي ضحيتي فلن أسامح نفسي”
و ما كادت تقوم إلا أن عانقتها الياء و الألف بسرعة و حنان قائلين:
“لم يحدث أي شيء.. هذا هو الأهم!”
و تتبع هذه الكلمات عبرات غزيرة كما الأمطار التي تهطل في الخارج.
و هكذا تصالحت الحروف المكفهرة المرقشة على قرطاس أكله الزمان الطويل، غير أنها جميعا لا تدري عما ينتظرها عندما يتم التخلص من هذا الكتاب القديم.