الكتاب المسحور - 3
°|•————————•|°
مضى أسبوعان منذ بدأت إيف تدريبها مع بقية الجنود، و في كل يومٍ منذ بداية التدريب كانت تصبح أسوء و أسوء من اليوم الذي قبله و بشكل سريع. ملقاةً على الأرض في الساحة، حيث تم طرحها مجددًا، قررت إيف الإستلقاء -كما لو كان لها خيار آخر- حتى يتسنى لها إراحة عظامها، و بقت على هذا الحال لمدة حتى سمعت خطوات آتية ببطئ نحوها، أصبحت تسمعها كل يوم تقريبًا.
توقف صوت الخطوات عند إيف، لم تحتاج لفتح عينيها لتعرف أنها تيرا، قدمها تضرب الأرض مرارًا تنتظر نهوض إيف و عودتها للتدريب غالبًا. فتحت إيف عينيها، عاذرةً نفسها “كنت أرتاح قليلًا.”
رفعت تيرا حاجبها “كلام كل يوم و لازلت لم أرى يومًا تكملين فيه تدريبك.”
“اه… حقًا؟” كانت سخرية أكثر من سؤال عادي، أرادت إيف إغضاب تيرا بها لمتعة الأمر فحسب “لكن لا يمكنك لومي، أبذل جهدًا كبيرًا بالنسبة لمبتدئة، بالكاد أستطيع تحريك عظامي الآن و أظن أن لدي فشل عظمي..” عبست إيف وهي تحاول رفع يدها.
أدارت تيرا عينيها “لا وجود لشيء كالفشل العظمي.”
“تمامًا! إخترعتي داءً لا وجود له.”
“ليست مشكلتي أنك ضعيفة جدًا!”
فتحت إيف فكها متفاجئة، تاركةً أمر تحريك أطرافها لتحدق في قائدتها بحدة. لا تصدق أن أحدًا أهان عضلاتها التي ظلت تقويها منذ دخلت هذا الكتاب السخيف! “لم تقولي هذا توًا! لست ضعيفة بل يتم تحميلي فوق طاقتي! أنا أبذل مجهودًا أكبر من غيري كمبتدئة و إن كنتي تعرفين هذا ستخففين من التمارين لتري النتيجة المطلوبة.”
قطب وجه تيرا “لن أغير القوانين لفردٍ واحد من أصل ستةٍ و خمسين.”
“من قال أني الوحيدة التي تشكي هنا؟”
“ماذا تعنين؟”
همهمت إيف إستفزازًا لقائدتها، لأنها تستطيع ذلك. “لنرى.. نتدرب ساعتان منذ شروق الشمس على السيف، ساعتان أخرى على الرمح، ثم نمضي ساعةً فوق الساعتين الأصليتين على رمي الأسهم فقط لأنكِ تظنين أن شد القوس و القنص لايأخذ طاقة كبيرة، -خطأ كبير، لن تخمني عدد المرات التي تشنجت أذرعي فيها من الشد-، و نتدرب على الدفاع و التفادي بالدروع، و كل هذا بدون وقت للراحة من بينهم؟ حقًا.. لا أتفاجئ عندما أسمع أن معظمهم يكرهون القدوم هنا كل صباح. مع العلم أن من لم يشتكِ لن يحتاج للكلام لأنه لن يستطيع الحراك و إن أراد.”
حدقت إيف في تيرا التي جلست تفكر بصمت منتظرةً ردة فعل حتى شعرت بالملل و قررت النوم قليلًا إلى أن تعود تيرا للواقع، لم يستغرق الأمر كثيرًا مع ذلك فقد سمعت إيف خطوات تبتعد عنها، حيث ذهبت تيرا إلى مايبدو كمنتصف ساحة التدريب و جمعت كل الجنود أمامها.
حاولت إيف عندها التحرك و الوقوف معهم لكن مفاصلها كانت أضعف من أن تقدر على التحرك، فبقت مكانها تستمع لحديث تيرا “سنحدثُ تغييرًا في الجدول، سنخفض من وقت التدريب، سنبدأ بعد شروق الشمس بساعة، و سيقل الزمن إلى ساعة لكل تدريب بإستثناء رمي الاسهم، و سنأخذ راحة خمسة عشر دقيقة بين كل سلاح.” أنهت تيرا حديثها بالإكتفاء بتدريب اليوم حتى هنا و انصرف الجميع سعيدين لإيجاد وقت لإراحة عظامهم كفايةً لليوم، بينما اضطرت إيف للحصول على مساعدة من أحد المارّين أمامها للنهوض.
—————-
مشت إيف في الممر المؤدي لغرفتها، غرفٌ ممدودة من كل جانب، و ضوء الشمس صادر من نافذة كبيرة في آخر الممر، ضوءها منعكس على عينا تمثال التنين الحجري المستبدلة بالزمرد. كانت إيف لتتعجب من المنظر لو لم تعميها إضاءة الشمس القوية. أثناء عبورها من أحد الغرف سمعت ضجيجًا صادرا من غرفة مجاورة لها لشخصان يتكلمان بنبرةٍ حادة كأنهما في شجار.
قلقةً من أن يكون هناك أمر مريب، إقتربت إيف من الباب و تنصتت، تأنيب الضمير يلاحقها. “-كانت لطيفةً معي، كيف أمكنني معرفة أنها كانت تستغلني طيلة الوقت؟” إشتكى صوت شابٌ يافع.
رد عليه صوتٌ مرهق عميق ميزته إيف فور سماعه كصوت ألفيلدا “كون المرء لطيفًا لا يعني أن تخبره كل شيء تعرفه عما يجري في المملكة، خصوصًا إن كانت من طرف العدو!”
“و أين يقع ذنبي؟ ظننتها تريد عقد السلام بيننا.”
تأتأت الملكة بانزعاج “تريد السلام فتسألك عن خطط جيوشنا؟ يالذكائك يا بني.” رفعت إيف حاجباها، أخداع هذا الفتى سهلٌ هكذا؟ “كفانا من الماضي الآن، علينا التفكير بحل، جد أحدًا يستطيع أن يصبح جاسوسًا لنرسله لمملكة الماء، ولا تعتمد على حدسك!” هددت الملكة قبل أن تتجه نحو الباب بسرعة، صدى كعبها يجتاح الممر. متذكرةً أنها خلف الباب هلعت إيف تبحث عن مكان للإختباء، لم يكن أمامها سوى باب غرفة أمامها لكنه مغلق.
فتحت ألفيلدا باب الغرفة، و التفتت عائدةً لغرفتها تشكي من الفتى، جاهلةً بحضور إيف المختبئة بالجهة الأخرى من الباب.
تنهدت إيف مرتاحة لإختيارها الجانب الصحيح من الباب، و جلست تراقب الملكة حتى اختفت من الممر قبل أن تذهب لتبحث عن تيرا، تحتاج معرفة معلومات عن هذا الشاب لتعرف كيف تجعله يختارها.
وصلت لغرفة تيرا و جلست تخبرها بما حدث. جلست تيرا سارحة في مكتبها، مشغولةً بعدة أوراق متراكمة على سطح المكتب قبل أن ترد على إيف “مم، سيكون هذا الأمير في الغالب، إن لم تعين الملكة مراقبًا معه فمهمتك أسهل مما تظنين. فقط كوني ودودة و أظهري ثقتك أثناء تحدثك، و تظاهري بخبرتك وذكائكِ في التعامل مع من حولك.”
“أكون نفسي إذًا؟” قالت إيف مبتسمة بثقة.
همهمت تيرا موافقة، و عبست إيف من تجاهلها “مالذي بيدك؟”
رفعت تيرا رأسها لتلمح إيف قبل أن تعود لأوراقها “إن كنتي قائدة أسطول كامل فستعرفين. من الأفضل أن تعودي لحجرتك فالوقتُ متأخر.”
“ياله من أسلوب..” تمتمت إيف و هي عائدة لغرفتها معتادة على طرد قائدتها—. في هذا اليوم، نامت إيف حتى ظهر اليوم التالي من ألم عظامها، مضيعة فرصة مقابلة الأمير وقت تمارين الصباح.
————————-
خرجت إيف تبحث عما تفعله لتمضي وقتها حتى تنسى محاضرة تيرا لها لغيابها عن التدريب. مر حوالي شهرين و نصف الآن منذ دخولها هذه الرواية، أي شهرين و نصف دون هاتفها أو أي نوع من أنواع القهوة، لم تعلم إيف أن بإمكانها الصمود يومًا دون هذان الاثنان، و الآن لا تعلم ما سيحدث إن شربت كوب قهوة واحد بعد خروجها.. قررت إيف نسيان الأمر حتى تركز بما هي فيه حتى وقتها، و اتجهت نحو رعاة الإسطبل، حيث تعرفت على -سِديولِس-، فتاة تعمل منذ زمن في الإسطبل، أحبت إيف محبتها للأحصنة أكثر من محبتها لأصحابها، كما بلوغها العقلي رغم سنها. دخلت إيف الإسطبل تبحث عن صديقتها، حين مرت بشاب غريب متكئ قرب أحد الأحصنة يحدثها.
تعجبت إيف من وجود أحدٍ غريب داخل اسطبل النبلاء، فاتجهت بسرعة نحو مهرِ صديقتها المفضل حيث دائمًا تمضي وقتها. صافحت إيف سِديولِس فور وصولها، و أجابت صديقتها قبل سؤال إيف “غريب وجوده أليس كذلك؟” أعطته الفتاة ظهرها لتطعم مهرها “هذا الأمير تايمر إن لم تعرفيه، لم يخرج منذ مدة طويلة من حجرته، أتسائل مالذي أخرجه الآن..”
“الأمير؟ ألن تذهبي لمعرفة مايريده من الإسطبل؟”
سخرت سِديولِس هافَّة “أقترب من الأمير و هو بمحادثة عميقة مع دويست؟ -خيله إن لم تعرفيه- إنتظاري حتى ينتهي أفضل لي من فظاظته.”
كررت إيف اسم حصان الأمير من غرابته، بالها ضائع بكيفية هروبه من القلعة دون إنتباه أحد، فمقابلته لأحد من مملكة أخرى داخل القلعة شبه مستحيل مع كم الحرس داخلها.. إبتسمت إيف مستأذنةً نفسها “سأذهب لأتحدث معه.” و مشت ترتب ماستقوله للأمير المنغمس بالحديث مع حصانه، جاهلًا لنظرات العاملين حوله. وقفت إيف أمام مقاطعةً حواره، حيث عبس بوجهها كأنها أهانته لتوها “أعتذر يا سيدي على المقاطعة، أهناك ما أساعدك به؟”
إعتدل تايمر بوقفته، كل التعابير التي أظهرها لحصانه مختفيةٌ دون أثر “أنتي من عمال الإسطبل؟” نظرت إيف لساحة الإسطبل، كل من يعمل يرتدي زيًا تسهل الحركة به إلَّا هي، من أتته بدرعها كاملًا، هزت إيف رأسها متعجبة من سؤاله، فأخذ حركتها كإجابة.
“إن لم تكوني فليس من أمرك.”
أنزلت إيف حاجباها في حيرة من وقاحته، أهذا من أرادت تيرا أن تعامله إيف بوِد؟ حاولت مجددًا “ربما، لكني أستطيع أن أنادي أحدهم ليجيبك يا سيدي.”
اشتد إنزعاج الأمير و رُفِع صوته، يعاتب من مازال يتجاهله خوفًا من مواجهته “و ما فائدة أعينهم إن لم يعلموا الفرق بين المنادي و السائح دون هدف؟” بحثت عينا إيف عن صديقتها لتراها تحدق بها، تشير لها أن تترك الفتى وشأنه.
التفتت إيف مجددًا للأمير الغريب أمامها مصححة “بل يعلمون، هم ينتظرون ندائك فق–”
“إن لم يكن هناك ماتريديه مني فاذهبي لأعمالك.”
تعجبت إيف من أمر الشاب، يرفض الكلام و يتحدث بوقاحة لمقاطعة حديثه مع حيوان؟ تركت إيف أمر مهمتها جانبًا، ناسية صبرها معها رغم خفتِ صوتها “كيف تريد خدمتهم و أنت تثرثر مع خيلك أفضل مما تُحدِّث شعبك؟ إن أردت أن يقتربوا منك أساسًا نادهم أو أخّر نقاشاتك مع صديقك هذا حتى ينتهوا من عملهم دون مشقة… يا سيدي.”
ضحك الأمير متعجبًا “أتركتِ مكانًا للسيادة؟” نظر حوله مركزًا بأوجه رعاة الإسطبل عندها، لم يسمعوا توبيخ إيف له فقد تأكدت من خفض صوتها جيدًا. لكنهم مازالوا قلقين من إزعاجه فوق تعكير إيف لمزاجه. إتكأت إيف على باب أحد حجرات الأحصنة الفارغة حتى تحدث الأمير مجددًا، يفرك رأسه متأسفًا “أعتذر على أسلوبي يا آنسة، لم أراقب أفعالي جيدًا.. هل أنتي جديدة هنا؟”
“نوعًا ما.” ردت إيف، و دخلت بالموضوع مباشرة “أنا هنا منذ أسبوعان تقريبًا و لم أركَ يومًا، كما لم يركَ أحد منذ فترة، لمَ قررت الخروج الآن؟”
ضحك الأمير “لم أكن محبوسًا في حجرتي أو ماشابه.. إلى حدٍ ما.” شرح الأمير ” في الحقيقة، زاد هجوم مملكة الماء على مناطقنا الخارجية في الفترة الأخيرة؛ فطالبت والدتي بحجري بعيدًا عن أي معركة و معي أحد جنودها ليدربني، لكني مللتُ مع مرور الوقت فبدأت أتسلل كل يومين للغابة قرب الحدود.”
رفعت إيف حاجبها تدعي الإهتمام “استطعت المرور بين كل هؤلاء الحراس؟”
“و بسهولة!” تفاخر تايمر “كأمير فأنا مسؤول عن توزيع مسارات الجنود، أستطيع المرور دون عناء بالتأكيد.” أومأت إيف تظهر استماعها. أضحت تعرف كيف جمع الأعداء معلوماته بسهولة—. لم تركز معه حتى زالت ابتسامة الأمير، ملامحه نادمة و مترددة، كأنه خائف من قول شيء. وقف الأمير معتدلًا عندها، “إعذريني للحظة.” استأذنَ قاطعًا طريقه بين سياج الإسطبل و الأحصنة حتى وصل لأحد العاملين، أمره بشيء إنطلق العامل لينفذه، وقف الأمير يدعي أنه يحتريه، لم يعلم أن أنفاسه العميقة واضحة للجميع. عاد بعد فترة و كان قد خف قلقه، لكنه مازال مترددًا فطرح موضوعًا آخر، تاركًا هروبه الأهم جانبًا “لمَ تريدين أن تعرفي على كل حال؟ الأمر كأنك تجمعين المعلومات عني..”
أرادت إيف أن تعرف ماحصل معه أثناء حديثه مع الفتاة من المملكة الأخرى بشدة “لا أهتم كثيرًا، أردت فقط التعرف عليك، فقد شعرت بالشفقة على حصانك.”
“اوه..” تنفس تايمر، و انخفض كتفاه إثر راحته.
“إعذرني لكن— لدي سؤال يحيرني.” هذه فرصة إيف الأخيرة لتعرف تلك الفتاة، لتجدها و توقفها قبل أن يحصل شيء. “إن كنت قد هربت لما بعد الحدود، ألم يحدث و أن قابلت أحدًا من الممالك الأخرى؟”
التفت تايمر لها، عيناه واسعة و بدأ يتلعثم ناكرًا “عدو؟ خارجًا؟ أبدًا! لم يسبق أن قابلتها- قابلت أحدهم! كانت رحلات ممتعة مسالمة فحسب!”
أطبقت إيف على شفاهها، لم تعرف كيف ترد. أتت سِديولِس بعد ثوانٍ حاملةً سرج دويست في يدها، لابد أنها بادلت المهام مع زميلها، بدأت تحدق بإيف أثناء سيرها تريد أن تعرف مايحدث هنا “أتيتُ لأُخرج دويست يا سيدي كما أمرت.”
أفسح الأمير مجالًا لسِديولِس و صافح إيف مودعًا “أستأذنكِ إذًا يا آنسة..؟”
“إيف سيدي، جندية بالأسطول الثالث.”
“إيف.. متطوعةٌ بأمر القائدة تيرا؟”
إشتدت قبضة إيف على كف تايمر، آملة أن تمسك ضحكتها “نعم سيدي..”
“من الجيد وجودك يا إيف.” أمضى تايمر في طريقه يسحب حصانه خارجًا، ضحكه مسموع من بعيد على تطوعها.
خرج تايمر و انطلقت إيف فورًا لرؤية تيرا، تخبرها بكل ماحدث بينها هي و الأمير، تركز على ذكر خدعة التطوع الواضحة، بينما عاد تايمر بعد زوال الشفق بتقرير عن المرشحين، الذين سيكفلون بمهمة جمع المعلومات في الوقت المحدد.
°|•—————————-•|°