شذا الشهداء - 5
5 ذكريات من ورق
……..
في مكان حيث تسرح فيه الذكريات
أرى أشباح أطفال!
أشباح نساء!
أشباح رجال! أشباح كبار وصغار!
ذلك يؤلم، يؤلم جدا، لكن لا وجود لجرحًا ……
إذن لماذا أتألم!؟
قلبي يؤلمني…. أشعر انه يتقطع… لكن جسمي سليم من الخارج؟!
عقلي مشوش…. أنه يريد..، يبحث عن شيئا ما
أنا افتقد أمي…..، أين هي ….. فلمنزل…. صحيح!!… ستكون في المنزل
تنتظرني مع ابتسامة بوجهها….. ابتسامتها التي تريح يومي
نعم هذا ما أريده، هذا ما أحتاجه ……… أمي هي ما أبتغي
لكني لا أجد بيتي
أرى أثره من حجر وشجر وورق وتراب
أرى شبح أمي وهي تعد لي طعامي المفضل
اراها تضيف الملح والفلفل والبيض والنعناع
سألتها ذات مرة: “… كيف تفرقين بين النعناع والبقدونس يا أمي”.
لترد علي:” أنها سر المهنة “… مع تلك الضحكة الدافئة على وجهها
أتذكرها وهي تقصُ علي قصة قريتي
كيف أننا صمدنا… أمام من كان يريد أرضنا
تقول لي عن من فقدنا … في دفاعهم عن أرضنا
تتكلم عن المجازر التي حصلت…..
لا تروي لي هذا بشكل جاف
بل أنها تروي قصة كل من تستطيع تذكره
تكلمني عن المسن الذي حمل سلاحه لكي يدافع عن ابنته
عن الفتاة الذي حملت خنجرا لتدافع عن شرفها
الطفل الذي حمل حجرا ليدافع عن بيته
تروي لي قصتهم على حدى
من بداية وجودهم على هذه الأرض….. حتى نهايتهم بها
أينما كانت نهايتهم
في بلدهم…
في أرضهم…
أو في أرضًا أخرى
……………….
تكلمني عن أبي
الرجل الذي مات دفاعا عن أرضه
لم تكن أمي حزينة على موت أبي لذلك لم أحزن…..
كانت كل ليلة تقصُ علي كيف كان أبي
ليس أني لا أتذكره …..لكنها تعرفه أكثر مني
فأنا أحبُ أن أراهُ من عينيها…
تقول لي كيف تعرفت على أبي
كيف كان شهما وشجاعا
كيف أنقذها من الأسر…
رأته جميلا وقتها … مع أنه قد فقد إحدى عينيه لإنقاذها!
…………..
ذهبت أمي مثلما ذهب أبي قبلها!
ذهبت أمي مع أخي الصغير الذي في داخلها!
ذهبت أمي مع قصصها التي لا أنام إلا عليها!
ذهبت أمي ولم أكتشف سر مهنتها!
ذهبت أمي!
وذهب بيتي!
وذهب جاري!
وذهبت قطتي!
أنا أفتقد كل هذا
أتمنى لو لم يذهب
لكنه ذهب وبسبب من!؟
بسببهم
…………………………………………………………………………………
القائد سيف:”….. أسمع …. إذا كنت لا تريد أن تأتي معنا، لا بأس ….. نستطيع تدبر الأمر”.
أوس:”…… لا، أنا… أريد……..لا، بل أبتغي!… رؤية منزلي” نظر له وعينيه بها شوق لشيئًا ما.
– وأين هو منزلك يا فتى؟
– أعتاد أن يكون بين الأشجار، وجنبها وادي جميل، صوت ارتطام مياهه بالحجر يشكل نوتة موسيقية عذبة، كنت لا أمل من الإستماع لها……. وعلى القرب كان عمي شهاب يرعى الأغنام والأبقار والعديد من الحيوانات، كان هنالك حمل أسميته جواد…… عندما أتذكر هذا أفكر كم كان مضحكا أن أسمي حمل على أسم الخيل………حقيقةٌ ….. لا أظن أني سأجد منزلي فأنا فقط سأجد أثره، هل لا بأس معك في أن تبحث أنت ومحاربيك عن أثار منزلي؟!
– إذا كان يعني لك الكثير لما لا!…. سأسدي لك هذا المعروف وأريد منك شيئًا واحدًا فقط
– وما هو؟!
– أن تغدو أحدى رجالي
– ……………. هل تطلب مني أن أنضم لكتيبتك!!
– نعم فأنا أرى فيك كل ما يلزم لتصبح من أعظم المحاربين في التاريخ…. قالها لها القائد سيف وهو يبتسم ابتسامة عريضة…. لدرجة أن ضرسه الذهبي قد بان.
– أن هذا لشرف عظيم بالنسبة لي!!
قالها أوس وهو غير مصدق لما يسمع، بالكاد منع دموعه من النزول.
…………………………………………………………………………………
بحثوا المحاربين بدون يأس عن منزل أوس، لم يتذمر أحد من هذا ….. لأنهم يعلمون هذا الشعور……… وفي ركن من قرية بانت انها مهجورة، يُرى منزل يشبه الذي وصفه أوس تقريبا
فيصرخ أحد المحاربين بصوتًا محمومًا بالبهجة: ….. أوسس لقد وجدتت المنزللل!!!!!!
ينظر له أوس بعدم تصديق…. ترافقه في تلك اللحظة مشاعرًا جياشه، من حزنًا، لفرحًا، لكرهًا، وندمًا، والكثييير من المشاعر المتناقضة، يركض أوس إلى المحارب الذي نادى عليه ويقول له وما زالت تلك المشاعر تتسلل لداخله….:
– أ-أين المنزل؟!…. قالها أوس بوجهًا قد عجز المحارب عن قرأته.
يشير المحارب بيده إلى المنزل، إلى بيت أوس، البيت الذي فارقه لقرابه لأحدى عشر عاما….. يذهب اليه أوس راكضًا بأسرع ما يستطيع من حنينه إليه.
…………………………………………………………………………
يتكئ أوس على الجدار المتهالك من منزله، الذي فيه شقوق وفُتح على طوله، لكي يلتقط بعضًا من أنفاسه……. بعدها بلحظات يتماسك أوس ويبدأ في السير داخل منزله…… يتحسس الباب الذي نصفه قد تَأَكَل من قبل النمل الأحمر…. وبعدها يلتفت الى المساحة التي بين الباب والجدار….. يرى بعض الخدوش التي تشكلت عل شكل خطوط وكتابة معينة…. يقترب ليجد انها أرقام من الرقم واحد الى الرقم سته …. فيرى اسمه بجانب كل رقم سُجل…. فيلمس هذه الخدوش والدموع تتجمع في عيناه….
– انه……. طولي…. في ذلك الوقت.. قال وهو يشعر بالحنين الى تلك الأيام
يمشي أوس أكثر حول المنزل المتهالك ….. يمشي وهو يتذكر كل ذكرياته هنا…. ذكريات يتذكرها…. وأخرى لم يتوقع حتى أنها موجودة……
يرى رسمه له ولأمه ولأبيه عندما كان لا يزال رضيعًا
يراها أوس…….. وقدماه لا تقوا على حمله…. فترتطم قدماه بقوة على الأرض… يضع أوس يداه سريعا على وجهه … لكي تمسك بدموعه المنهمرة….
فلقد نسى شكل أمه وأبيه….
لقد نسي ابتسامتهما المشرقة والمطمئنة….
نسي ملمس أيديهم الدافئة على جلده…
نسي شكل عيونهم… لونهم…. دفئهم ….
نسي صوتهم العذب على اذنه…. فلم يعد يعلم كيف كان….
يبكي بحرقه على كل هذا…. يريد الرجوع ليراهم فقط…. يتمنى لو يسمع صوتهم لثانية واحدة…… ينهض بصعوبة يصل إلى هذه الرسمة… التي نجت بالذي حدث مع هذا المنزل…
بعد أن يأخذها…. يتجه نحو الخزانة ليرى أن كان شيء فيها….
وفي الطريق يتعثر بشيء قد دفن تحت الأرض… ولكن بسبب الزمن يبدو أن التربة قد انقشعت عنه…..
يشعر بالحيرة قليلا من هذا الشيء الذي في الأرض…. ثم يقرر ان يحفر مكانه قليلًا…
يداه تمتلئ بالتراب والغبار…. بعد أن ينكشف شكل هذا الشيء والذي أتضح انه صندوق صغير… يبدأ بالحفر بشكل أسرع، فيتسبب هذا بجروح وخدوش على يديه.
………………………………………………………………………….
يفتح أوس الصندوق ويداه أمتلئت بالدماء…… تتغير تعابير وجهه إلى مزيج من الصدمة والسعادة…. فقد رأى خاتم أمه الذي قالت له… انه اهداها لها والده إياها عندما تقدم لزواجها….. كان هذا الخاتم مصنوع من الذهب الخالص… وقد زينَ على أطرافه بشكل أزهار الجوري…. فقد كانت تلك الأزهار المفضلة لوالدته….. وعلى الجنب وجد عقد من الفضة.. والذهب…. زينَ بأشكال النجوم والفضاء…. فأنه يعلم أن هذا العقد قدمته جدته لأمه يوم زواجها….. فقد كانت أمه دائمة الحديث عن أمها …. عن قصصها معها…. العبر التي علمتها إياها…. وعندها وجد بجانب هذه الأغراض كتابًا…. وعندما همَ ليفتحه ليرى محتوياته نادى عليه أحد المحاربين ليأتي بشكل عاجل…
………………………………………………………………………….
يتنظر القائد سيف تجمع جميع محاربيه بمن فيهم أوس …. ويبدأ الحديث: ..لقد أرسلت كشافة ليذهب إلى مخيم أو ميتم اللجون قبلنا…. لكي يفحص الأوضاع هنالك بالتحديد…. لكي لا نتفاجأ بالحاصل….. الكشافة عاد… ومعه أخبارًا سيئة للغاية…. يبدو أنه تم أبادة مخيم اللجون عن بكره أبيه…
ينظر له جميع المحاربين في صدمة ويتحدث أحدهم: … ما هذا… بحق الله … هل هم حرفيًا قاموا بقتل الجميع هناك… من كانوا عونًا لهم ومن كان ضدهم… هل هؤلاء لديهم انسانيه حتى او رحمه!!
يقول أخر: أنهم معاتيه هذا الكون!!…. لن أفكر في أي بشرًا أنذل منهم!!!….. على الأقل بسبب ما قاله أوس قبل أن الأطفال بالفعل قد أخذوهم إلى مدارسهم او أماكن تدريبهم … لا أعلم ماذا يجب أن نسميها أساسا… على الأقل الأطفال ليسوا بخطر صحيح أوس؟
ينظر أوس للمحارب وهو متجمد في مكانه….. ولا يرتسم على مُحياه غير تعبير الصدمة …. والفراغ….. ويرتطم الصندوق بالأرض …… لقد أنسحل من يدا أوس