لوحة الربيع - 10
غطت شعرها بسرعة وركضت تهرب وتهرب دون أن تُركز إلى أين تذهب، حينما انتبهت وجدت نفسها بوسط حديقة بلا معالم تعرفها، ليس حوله شارع قرب المحكمة، أو مخبز الخباز، أو حتى قصر عمها.
لم تتجول يومي قط بالمدينة ولاتعرف فيها شيئًا، وسط ضياع يومي وهبوب رياح الخريف الباردة، والأشجار المتراقصة التي تودع أوراقها مهيئة جوًا موحشًا، سمعت صوتًا خلفها :
-“أصبحتِ فَتاةً تتلثم؟”.
-“بل صرتُ فُتاتًا متهشم”.
والتفتت لهارو بملامح جامدة توحي بالوحشة وعيناها تحكيان ألف شعور وشعور
ابتسم هارو بكل حب وشوق :
-“لو تعلمين كم يومًا نمت هنآك أنتظرك”.
-“كيف وجدتني؟!”.
-“القلوب تهوى على من أحبت”.
-“وهي ذاتها تهوي بمن أحبت”.
-“ليكن .. لنمت سويًا إذًا”.
مشى بهدوء مسرعًا بخطواته، جرّها لأحضانه حاضنًا إياها بكلِّ ما أوتِيَ من قوة، تمسَّكت به يومي بشدة وهمست : -“ليتنا نترك كُل شيء ونعود”.
-“ولِم لا؟”.
-“ليس قبل أن آخذ بثأري وأنتصر “.
-“يومي .. عليَّ إخبارُك بالكثير”.
أبعدت يومي رأسها عنه ونظرت إليه :
-“ماذا حدث؟”.
أمسك بيدها وذهبا ليجلسا عند مقعد تحت ظل شجرة ضخمة
-“ليت كل شيء يعود كما كان ..”.
-“هارو تكلم مالذي حدث!”.
-“مات جد كازو يايومي وزاد مرض أمي سُوءًا .. كازو رحل بعدما دفن جده ولا أدري أين هُوَ وكيف يعيش ومع من ..”.
سكت لبرهة وكأنه يستجمع أنفاسه المختنقة وأردف : -“عندما أخبرتِني بمرض أمي بدأت أهتم بها وأعتني وحرصت على تعافيها، بقينا لوحدنا حتى ساءت حالها أكثر من الحزن والوحشة”.
امتلأت عيناه دموعًا وبدأت تسقط واحدة تلو الأخرى ثم تنهد بعمق وزفر، رفع بصره للسماء محاولًا إيقاف شلالات عينيه ونظر لعيني يومي :
-“أمي تحتضر .. طلبت مني إعادتك لتوديعها”.
شهقت يومي واتسعت عيناها بشدة، مَرَّ عليها شريط ذكرياتها رفقتها وحياتهم سويًا قبل تفاقم الأحداث، أدركت الآن حجم هم هارو .. ذهبت هي أولًا وتبعها موت الجد ثانيًا ثم رحيل كازو بلا خبر أو أثر، والآن السيدة وردة تحتضر..
عضت شفتيها المرتجفة بمشاعر مختلطة ومدت يديها تضم هارو المتهالك حزنًا :
-“إبكِ ولا تتوقف حتى ترتاح .. “.
لم يَرُدَّ هارو، فدموعه سبقت كلامها حتى.
عادت يومي تخبر الخباز بذهابها وعرَّفَته على هارو بسرعة، ووعدت الخباز أن تعود قبل الجلسة النهائية، نزلا من قطار قرية قريبة ليتبعا مسيرهما بعربة لكنّ هارو أوقف يومي وأشار بإصبعه :
-“انظري مَن هناك”.
صرخت يومي :
-“آلبرت!!!”.
التفت البرت على صراخها ليفاجأ بيومي ويبتسم بشدة : -“أنتِ هنا!!”.
مشت يومي تهرول لآلبرت:
-“أصبحت تعمل بالمحطة إذًا؟”.
-“وليس هذا فقط بل أيضًا “.
أزال قبعته ثم أعاد اِرتداءها وكرر ذلك مرتين مِن خجله
أردف هارو:
-“بل أيضًا وقع بحب جارته وينوي خطبتها قريبًا، علمتُ بكل ذلك حينما كنتُ قادمًا إليك وصادفته”.
-“يالسرعتك!” وضحكت يومي بسعادة
أخذهم البرت ليتحدثوا أثناء ذهابهم لعربتهم قرب حدود القرية، حدثته يومي عن قضيتها وأحدث تطوراتها وكيف أنها ستربحها بالتأكيد، حالما نطقت بهذا سُمع دوي رصاصة خلفهم :
-“لاتظني أنّ مافعلتِه سيمر مرور الكرام !!”.
التفّت يومي لترتجف عيناها خوفًا .. فهذا لوي قد تبعها لينتقم!
-“م ماذا تفعل !!”.
-“سأقتلكِ!!!!!!!! دمَّرتِ حياة عائلتنا بسبب حياتك الرخيصة!! أتظنين حينما أبلغني المحامي بنهايتنا سأضحك وأهنئك؟! “.
ظل لوي يقترب شيئًا فشيئًا والسلاح مرفوع على يومي
-“وكأنني سأسمح لك! آلبرت حالًا علينا إيقافه والهرب!”.
همس البرت :
-“هارو حالما أعد للثلاثة ستأخذها وتهربان للعربة وانا سأتصرف”.
-“إياكما والتهور أرجوكما”.
إقترب لوي وهو يوبخ ويصرخ ويشتم حتى أبقى مسافة المتر بينه وبين يومي وسلاحه نصب جبهتها وُضِع
-“أيُّ كلمات أخيرةٌ ياخطيبتي الحقيرة؟”.
صرخ البرت :
-“ثلاثة!!!!!!”.
أمسك البرت حالًا بقبضة يد لوي وضربه بقدمه مسقطًا إياه أرضًا بينما جرَّ هارو يومي وهي تحاول منعه لكيلا يتركا البرت، وفجأةً .. أُطلقت رصاصة ..
نظرت يومي بسرعة لتجد جسد آلبرت يقطر دمًا، رمت يد هارو وأدخلت يدها تحت فستانها أثناء ركضها لتأخذ خنجرها موجهة إياه بلا وعي لتغرزه في كتف لوي التي يحمل فيها السلاح.
تقَّلب لوي ألمًا، أمسكه هارو ورمى مسدسه بعيدًا وجلس عليه مثبتًا إياه ليمنع هربه حتى أتى الجنود من المحطة لمصدر صوت الرصاصة وسلَّمه إليهم ليُقبَض عليه،
بينما رمت يومي خنجرها الذي لم تُبعِده عنها مذ أعطاها إياه آلبرت من حذرها الشديد، وضعت آلبرت حالًا عليها لتَهمَّ في إسعافه وهو يتنفس بسرعة ويلهث ويكحُ دمًا.
-“آلبرت هل أنت هنا؟؟ أتسمعني ؟؟ إياك والذهاب سأحاول إيقافه”.
ودموعها تنهمر ساقطة على جرح البرت البليغ قُرب قلبه
-“ل لا ت تف تفعلي ش شي شيئًا”.
-“لاتتحدث أرجوك لاتقلق ستنجو !! ستعيش!!!”.
-“ا است استمعي إ اليّ .. -شهقة- ع عي عيشي بسعادة واص أصبحي أمًّا ك كما حلمتِ .. هـ هارو رجل جيد .. س سينتهي ك كل شيء ي يحزنكِ ل لا تق تقلقي .. س سأكون قر قربكِ د دائمًا”.
-“لطالما كنتُ محظوظة كونك رفقتي دائمًا .. أخي الكبير العزيز وصديق طفولتي الثمين وستبقى كذلك لذا إياك والذهاب آلبرت!!!! “.
ابتسم آلبرت ونطق بتعب :
-“ت تعبت من د دور الج الجدار .. أريد الإتكاء قليلًا”.
خفَت بريق عينيه حتى زال تمامًا وبَهُت
-“كلا كلا كلا كلا!!!!”.
حضنت يومي جسده الغارق بدمائه وهي تصرخ وتبكي بحرقة .. فردٌ آخر من عائلتها قد ذهب ورحل
بكت بكت حتى جفت دموعها وبَرُد جسده، بدأت تحدثه كالمجنونة وتخبره عن ماسيحدث وكيف سيراها وقد أصبحت حُرةً أخيرًا من بطش عمها.
سكتت يومي وهدأت بلا وعي، بدأت تلمس خد آلبرت وتتأمل مودعةً هذا الوجه للأبد، عيناه البنيتان قد أُغمِضت لآخر مرة .. بشرته السمراء قد بهتت، جسده الضخم القوي قد بَرُد وجَمُد، كان آلبرت يكره البرد منذ نعومة أظفاره، داعبت شعره البني الناعم وقالت بغصة خانقة :
-” آلبرت .. أخبر والداي أنني أشتاق لهما .. وأعلم أنني أشتاق إليك أيضًا .. “.
منظرها هذا حرق قلب هارو ليقترب ببطئ ويسحبها عن آلبرت الذي تمسكت به بقوة وانهارت باكية تتوسلهم أن يتركوه معها حتى أخذوه منها مجبرةً ودفنوه زملاء آلبرت.
أبعد هارو يومي وذهبا للعربة والصمت يعم بالأرجاء طوال الطريق ودموع يومي لم تتوقف للحظة، ثوبها الملطخ بدماء آلبرت كان تذكارًا لهذا الموقف المرعب.
يُتبع …
حساب الانستغرام : @imamy03