لوحة الربيع - 11
في ليلة اليوم التالي وصلا أخيرًا لمنزل هارو، شعرت يومي بالحنين وهي تتأمل حديقة المنزل التي عفا عليها الزمن وشرب، وكأن يومي الآن كهذه الورود الذابلة بالحديقة المهملة، وعلى مَدِّ بصرها رأت حقل السيدة وردة مقبلًا على نهايته، احتضر بجميع نباتاته والذكريات تفيض وتنبعث من كل مكان، حتى طغت الوحشة والكآبة على الجو المحيط.
تبعت يومي هارو الذي فتح الباب وقال بصوت خانق يدَّعي البهجة المعتادة :
-” أمي .. أنظري من أحضرتُ بعد غيابي عنكِ لإسبوعين “.
دخلت يومي بهدوء لتجد السيدة وردة وقد ذبلت ملامحها وأصبحت جلدًا على عظم من سوء حالها وتفاقم مرضها، وبجانبها الممرضة كايو قد اعتنت بها طوال فترة غياب هارو رفقة السيد توماس.
-“أمّاه .. لقد عدت”.
مالت السيدة وردة رأسها ببطئ وابتسمت إبتسامة ذابلة ضعيفة ودموعها تتصبب :
-“أهلًا بعودتك يابنتي”.
ركضت يومي وأمسكت بيدها وقبلتها تبكي
-“مال صغيرتي تبكي؟ إحكي لي “.
-“أمّاه .. لقد قُتل البرت”.
-“هوّني عليك يابنتي كلنا سنتبعه، استمعي إلي ياعزيزتي، رُزِقتُ بهارو ومات والده فورًا، ورزقني الله حينها بكازو ليجتمع لدي طفلان اعتنيت بهما كعينيّ، وقبل عامين تقريبًا رزقني الله بكِ أيضًا يابنتي لتضيفي بهجة فوق بهجتي رفقة ابنائي ..
أنتِ مضيتِ في حياتكِ لتبدأي إطفاء جمرة قلبكِ وتنتقمي .. أوحسبتِ أنني لم أنتبه لنار قلبك المتوهجة ياصغيرتي؟، كازو مضى في حياته بعد موت جده والذي عشتُ طفولتي تحت أحضانه وفي كنفه وبين أشجاره.
أمّا الآن فقد حان دوري في المضي فسأرحل اليوم يابنتي .. أضع هارو في أمانتكِ وأضعكِ في أمانته، كازو يابني لا تظنني لم انتبه لقدومك”.
التفت هارو ويومي للباب حيث دخل كازو محمرّ الوجه يكاد يبكي وأقترب جالسًا بجانب هارو عند فراش السيدة وردة.
اخذ السيد توماس بيد كايو هامًّا بالخروج ليتركهم يودعونها كما يودون، نادت السيدة وردة :
-” أشكرك جزيل الشكر على ماقدمته لأبنائي أيها المعلم القدير، وابنتي الجميلة كايو أتعبتكِ معي طوال الأسبوعين الماضيين وطوال تلك الفترة السابقة في طيش أبنائي، اعذراني لكنني أود منكما الإستمرار في رعايتهم بعد ذهابي”.
-“إنهم أبنائي أيضًا، لاتشغلي بالكِ أرجوكِ”.
خلع قبعته واضعًا إيّاها على صدره لينحني باحترام مودعًا ثم خرجا بهدوء.
-“يالسعادتي .. أبنائي الثلاثة بجانبي يودعونني -وابتسمت بعطف وسعادة- أوصيكم ببعضكم، إيّاكم والتفرق مجددًا يا أبنائي .. إنني دائمةُ القلق عليكم .. آههٍ ليتني أستطيع إبقاء حبي الكبير لكم ليحوم حولكم ويحميكم دائمًا ..”.
-“أمّاه لكِ حق في أن تعلمي سبب ذهابي .. فكما قلتِ كنتُ أحاول إطفاء جمرة قلبي والإنتقام وهذا ماحدث .. بعد شهر من اليوم محاكمتي النهائية وسأصبح حرة رسميًا -بكت يومي وأردفت- سأبقى أحبكِ كحبي لأمي ولن أبرح عن هذه القرية التي عشتُ فيها بحبكِ وحنانك .. عهدًا عليَّ لن أترك حقلكِ يذبل ولن أترك بئركِ يجف ولن أترك أبناؤك يتفرقون مجددًا وأيضًا وأيضًا .. “.
وظلت تبكي وتبكي بحرقة
-“أمّاه لكِ علي فضل كبير، امتناني وحبي لك لم أستطع توفيته .. كُنتِ لي أُمًّا وأبًا عن والداي وابنةَ جدي الذي أحبكِ كحبكِ لي .. سامحيني لذهابي طيلة ذاك الوقت عنكِ فقد كُنت تائهًا في حزني لكن أرجوكِ كوني مطمئنة بعد الآن فالأحمقان هارو ويومي أنا من سيتكفل بهما و..”.
خانته عيناه فدموعه المتمسكة خرّت أخيرًا وسقطت
-“أمي العزيزة يامن حملتني في جوفك حتى نشأت ووضعتني في قلبك منذ خُلقت، أرجوك كوني مطمئنة فهارو لن يخيّب آمالكِ فيه .. أمّاه إنني أُحبكِ كثيرًا وممتن لأنك أمي ..”.
رفعت السيدة وردة رأسها وابتسمت بسعادة :
-“ياااه كم سرّني سماع ذلك”.
أمالت برأسها ناظرة لوجوههم للمرة الأخيرة :
-“هارو .. كازو .. يومي .. كونوا سعداء .. دائمًا ..”.
فارقت السيدة وردة الحياة أخيرًا بعد عناء مع المرض مبقية إبتسامتها مرسومةً عليها وسط بكاء يومي وكازو، ليقف هارو بكل ثبات ويغلق عينيها برفق ثم حضن والدته للمرة الأخيرة باكيًا عليها كما لم يبكِ قط.
خرجا يومي وكازو لإتمام إجراءات الدفن والعزاء وإبلاغ القرية بوفاة السيدة وردة، حالما أتمّا كل شيء عادا للمنزل ليجدا هارو لم يتزحزح عن مكانه شبرًا واحدًا .. لازال حاضنًا لجسد والدته ووحيدته لآخر لحظة ..
اِقتربت يومي ببطئٍ ووضعت يدها على كتف هارو :
-“هارو .. لقد حان الوقت “.
رفع رأسه بكل وهن ونظر لعينيها بكل بؤس، ثم حمل والدته وفي جسدها البارد ثقل يوازي ثقل الجبال،
مشى خارجًا ليقترب موعد الفراق لأول مره وللأبد، حالما خرج وجد أهل القرية وقد إجتمعوا أمام منزلهم باكين مساندين لهارو وفي أصواتهم أنين الم الفقدان.
أكمل هارو سيره قاصدًا المقبرة وخطواته الثقيلة تتباطأ شيئًا فشيئًا وهو يقترب أكثر فأكثر حتى كاد يسقط من وجع قلبه من فراق غاليته، حينما كادت قدماه تخوناه من ضعفهما أسنداه كازو ويومي فورًا و أعاناه .
وضع هارو جثة والدته الباردة وسط دفء الأرض؛ وأردم فوقها بالتراب، ثم طبطب على قبرها ليكون هذا وداعهما الأخير .
إنهال الناس عليه بالتعازي والمواساة ثم ذهبوا باكين،
ليبقى هارو بمفرده يتأمل إلى أين آل بهم الحال، مع محاولات كازو ويومي لإعادة هارو معهما للمنزل إلَّا أنّه أبى العودة فتركاه وشأنه، ذهب كازو للغابة بينما قصدت يومي المنزل .
حينما وصلت يومي وجدت رسالة أمام الباب، تناولتها لتجدها من السيد توماس موجهةً لها، فتحتها لترى عبارة مختصرة لامست قلبها بشدة :
“عليكِ الكتابة، لم يكن هيّنًا ماحدث”
انتبهت لدم آلبرت على ثوبها ومرَّ شريط الأمس، انهارت يومي باكية، لطمت الارض وهي تصرخ من ألمها، فلا آلبرت ولا السيدة وردة موجودان مجددًا.
إنتصف الليل وأمطرت السماء لتختلط بمطر أعينهم الواهنة وتغسل قلوبهم المنفطرة من الألم ..
عاد هارو للمنزل خالي المشاعر فارغ القلب، دخل ليرى أمامه سرير مرض والدته قد أُزيل، غاص في أفكاره وتاه حتى قادته قدماه لغرفة والدته وردة، رفع نظره وابتدرت عيناه حالما فتح الباب وكأنه رأى خيال والدته في يومي التي كانت تأخذ ثوبًا وتضمه باكية، وضعت يومي الثوب مع بقيته في الصندوق ثم أخذت وشاحًا كبيرًا لطالما استخدمته السيدة وردة ووضعته على المنضدة، التفّت مقابل هارو وسألته بنبرة تتظاهر بالتماسك والقوة :
-“كيف حالك الآن ؟”.
مشى هارو بنظراتٍ تصرخ باحتياج وجلس على سرير والدته يتأمله ويلامسه بينما جلبت يومي وشاح السيدة وردة وجلست بجانب هارو، وضعت الوشاح على حضنه وقالت : -“دعنا لانعذبها أكثر بحزننا ياهارو .. لتبقى راقدة بسلام بعد عناء طويل”.
أمسك بوشاح والدته وقال بصوتٍ خانق :
-“إنني أتخبط ألمًا يا يومي .. “.
-“لا السيدة وردة ولا آلبرت سيسرّان إن رأونا هكذا، أرجوك يا هارو فلنعن بعضنا لنتخطى كل هذا”.
وعاودت عينيها البكاء مجددًا فتمسح دموعها بسرعة، ثم حضنت هارو ومسحت على رأسه حتى هدأ تمامًا وكاد يغفي، أسندته ووضعته بخفة لينام على سرير والدته وسط رائحتها الحنونة وغطته بوشاحها وجلست قربه على السرير تبكي بهدوء وتغني تهويدة والدتها التي أعادت مشاعر فقدها الأحداث الأخيرة.
لم تلبث طويلًا حتى قامت لتخرج صناديق السيدة وردة، ثم عادت لغرفتها، جلست على سريرها واخذت كتابًا لتحاول تنفيذ نصيحة السيد توماس، كتبت الكثير وبكت، حتى نامت تلك الليلة المريرة وسط أوراق كتاباتها المرمية.
يُتبع ..
حساب الانستغرام : @imamy03