لوحة الربيع - 2
2
عام بعد العذاب
يومي: ” ايييهههههه؟؟ ما الذي تفعله؟! “
كازو بجدية: ” هارو، عليها أن ترتاح “.
هارو ضاحكًا: ” أتحاول الابتعاد عن الموضوع ؟ أهذه الجميلة حبيبتك أو ما شابه؟ “
كازو بصوت خافت: ” هارو، حقًا لا وقت لذلك “.
سكت هارو فورًا، فقد فهم أن هنالك أمرا جدِّيّا.
التفت على سكان القرية وقال متحسرًا: ” يا للأسف، يبدو أنّها مجرد عابرة سبيل لا أكثر، فرصة خائبة أخرى لكازو “.
ابتسم كازو ونظر ليومي – التي ظلّت تشاهد بفراغ، دون أن تفهم ما يحدث – وطلب منها أن تتبعه.
مشى وتبعته يومي بصمت، لكنّها توقفت فجأة والتفتت لسكان القرية وظلت تحدق بهم واحدًا واحدًا، وكأنّها تتعرف على عائلة جديدة.
ابتسمت قائلة: ” شكرًا للطفكم واستقبالكم الدافئ.. سأبقى بينكم لفترة قد تطول قليلًا، اعتنوا بي رجاءً ” وانحنت برقة.
بُهِروا من حُسنها وبهائها، حتى أن بعضهم تداول أسئلة غريبة فيما بينهم؛ فهناك من ترغب بها زوجة لابنها، وهناك من يرغب بتزويجها حفيده الوحيد…
بينما ابتسم هارو ابتسامة ترحيبية، متوقعًا أنّها ستكون فردًا مميزًا لثلاثيهم الجديد.
أمسك بيدها ويد كازو، وسحبهم راكضًا ضاحكًا لمنزله.
عندما وصلوا لمنزل هارو، خرجت امرأة بمنتصف الثلاثين، واندهشت حالما رأت تلك الفتاة الغريبة، فلم يسبق لهارو أن أحضر فتاة قط..
– ” أوه، من هذه الحسناء التي أراها؟ ” ونظرت لهارو بابتسامة كبيرة بعينين ساخرتين.
– ” عذرًا لإزعاجكِ آنستي .. أنا يومي، سعدت للقائك ” (وانحنت)
– ” آنستي؟ يا لكِ من فتاة لطيفة “.
– ” أمي، هلّا أفسحتِ المجال، ضيفتنا ستبقى عندنا لفترة إذا سمحتِ “. قالها هارو وهو ممسك بكتف يومي ليدخلها.
– ” يا إلاهي، أستعيش معنا؟ إنّني بغاية السعادة! ستكون لدي ابنة لطيفة كهذه “.
ضمت والدة هارو يومي وقالت بابتسامة حنونة: ” أهلًا بكِ بيننا جميلتي “.
أدخلتها وطلبت منها الجلوس على أريكة غرفة المعيشة، حتى يتسنى لها تجهيز غرفة مناسبة لتبقى بها يومي.
أثناء ذلك، أراد هارو فهم الأمر برمته؛
– ” إذًا، هلّا شرحتما لي ما حدث؟ ” سأل هارو بعدما تأكد من ذهاب والدته.
أخذت يومي شهيقًا عميقًا ثم زفرت ببطء،
رفعت عينيها بهدوء ونظرت لهارو وأجابت:
– ” أدعى يومي.. نادني بيومي فقط فلست أرحب باسم عائلتي..
اُخذت قسرًا من جداي عندما كنت بالسادسة لسبب مجهول، وحُبست بمنزلهما الكبير من غرفة النوم للمعيشة، ومن غرفة المعيشة للنوم..
لم أقابل أحدًا سوى الخدم، ولا أعرف سوى عمي وزوجته.
يرسمني أحد الرسامين قسرًا أيضًا عندما أبلغ سنة جديدة، لسبب كان مجهولًا وقد اكتشفته قريبًا؛ وهذا ما دفعني للهروب.. “
– ” وما الذي اكتشفتِه؟ ” سأل هارو مرتابًا.
سكتت يومي قليلًا وكأنّها تستعيد ذكريات وصورٌ لا تود تذكرها.
– ” اكتشفت أنّه تمّ بيعها مذ كانت بالسادسة لابن قائد الجيش، وما تلك اللوحات سوى مستجدات لمظهرها، أمر مقرف، صحيح؟ ” أجاب كازو حالًا، فقد فَطِن أنّها لم تتخطى ما حدث بعد.
– ” عذرًا، لكن لِمَ لَم تتحدثي معهم؟ تناقشيهم؟ أيستدعي ذلك الهروب حقًا؟ “
– ” ما الفائدة من العيش إن كنتُ حُبِست لكي لا أقابل أحدًا؟ أحبس لكي لا أحب شخصًا، بدل حبٍ قسري لذاك الاِبن الغبي، لكي أرتبط بشخص لا أعرف عنه شيئًا مقابل أموال لعمي المتسلط وزوجته؟ لكي أضرب وأهان إن لم أبادله الحب بعد الزواج؟ لأعيش في جحيم بدل حقوقي بالحياة؟ ” أجابت يومي حالًا منفجرةً من الغيض.
– ” آسف.. ” (وحك هارو رأسه محرجًا)
تنهد كازو، فلا أمل من هارو حقًا ..
دخلت والدة هارو وطلبت من يومي الاسترخاء بغرفتها، وتمنت لها بقاءً مريحًا.
في صباح اليوم التالي، وصلت رسالة من شخص مجهول لآلبرت، عَجِب قليلًا فلم يحدث قط أن أرسل له أحدٌ رسالة، تفقدها فلم يجد اسمًا عليها، لكنّه علم حالًا أنّها من يومي؛
ضحك بسخرية من طبعة قبلتها كتوقيع خاص، لطالما وبّخها لكي لا تُقبِّل رسائلها لتترك أثر قبلة، وتدعها بدون اسمها، لكنّها دائمًا ما تجيب بمرح:
– ” آلبرت، إنّه غموضي الخاص، إن وضعت اسمي لن يرسلها الحراس، صحيح؟ لذا أضعها مع الرسائل التي ستُرسل من عمي وزوجته، فلا يعلم أحدٌ أنّها منّي، لذا ستُرسل “.
فَهِم آلبرت أنّها إن وضعت اسمها في رسالته أيضًا، قد توقعه بورطة إن علم عمها وزوجته، أو أنّ الحراس لن يسلموا الرسالة له حتى..
ضمّ آلبرت رسالتها بشوق، وقال محدثًا نفسه: ” المنزل خالٍ بدونكِ .. “
مرت عدة شهور، وعمّها وزوجته قلقان، فلم يستطيعا إيجادها بأي قرية ومدينة..
ليس خوفًا عليها، وإنّما طمعًا بالأموال، فإن ذهبت السلعة، ذهبت الأموال معها..
بينما في مكانٍ آخر، يومي تعيش بسعادة رفقة هارو وكازو.. ترسل رسائلًا دورية لآلبرت لتطمئنه عليها، وتحدثه بأجدد ما يحدث، وتشتكيه من هارو وسخريته، ودهاء كازو الذي يُفسد عليها الكثير من الأمور، وعن لطف والدة هارو، وكم أنّها تعاملها كابنتها، وكيف أنها تعتبرها كوالدتها الحقيقية.
لطالما أخبرته عن كوخهم السري وسط حديقة مليئة بالزهور الملونة الزاهية، ولعبهم وحديثهم الطويل..
– ” آلبرت إنّني في نعيم “.
دائمًا ما كتبتها يومي لآلبرت في رسائلها، وكانت تلك الجملة خصيصًا، تُطمئن آلبرت كثيرًا وتسعده.
مضت سنة منذ هروبها، وأتى العاشر من أكتوبر؛ يوم ميلاد يومي..
بدأت والدة هارو بخبز كعك وفطائر، بينما هارو يجهز بعض الزينات، ليأخذها رفقة كازو للكوخ للاحتفال..
وبينما هم بذروة حماسهم ونشاطهم، فجأةً، دوى صراخ من غرفة يومي..
ركضوا مسرعين لغرفتها، حالما فُتِح الباب، كانت يومي تضم وسادتها مُخبِئة وجهها ودموعها المتسارعة.
– ” عزيزتي يومي، ما الذي حدث لكِ؟ ” سألت والدة هارو بقلق..
– ” لست أدري ما السبب، لكنّ حلمًا مقززًا راودني؛ وكأنّني استمريت بالعيش رفقة عمي واستغلاله، وأنّي تزوجت بذاك الغبي، وكيفية حياتي معه بالضرب والتعنيف، وبجانبي أطفال يبكون يستنجدون بي، منادين بـ﴿أمي﴾ ملأى بالنُّدب والجروح.. “
ضمّتها والدة هارو مطمئنة:
– ” لا تقلقي، أنتِ برفقتنا، ربّما راودكِ لأنّ اليوم يصادف رسم لوحتهم العفنة، لكن لا يعني ذلك استمراركِ بالخوف… ما دمتِ معنا فأنتِ بأمان “.
أردف هارو:
– ” لن تعودي لهم ما دمتُ حيًا “. وضرب بقبضة يده على الجدار.
ارتاحت يومي واطمأنت، طلبوا منها التجهز وخرجوا لإكمال استعداداتهم.
بعد الإفطار، أخذوها لكوخهم واحتفلوا سويًا، وعندما حلّ غروب الشمس، نزلوا لبستان الزّهور ليتأملوه.
سأل هارو يومي:
– ” إذًا، ما الذي تمنيته؟ “
أجابت:
– ” وكأنّني سأخبرك .”
ضحك هارو:
– ” لِم لا؟ بالنسبة لي، سأتمنى أن أكون نبيلًا أو غنيًا “
كازو متنهدًا:
– ” أنت غبي.. هارو “. أراد التلميح لهارو بالسكوت، لكنّ هارو أجاب بتعابير تشير بعدم الفهم.
– ” كان أبي رجلًا نبيلًا غنيًا، لكن، ولأنّه أحب فتاة ريفية فقيرة، نُبذ قليلًا من أقاربه في البداية، لكنّهم سرعان ما بدأوا بالنفاق لمصالح مادية تفيدهم. حالما مات أبي – وكنتُ حينها بالرابعة – طردوا أمي فورًا لأنّ أصلها مقرف كما قالوا.. لجأ عمي لتزوير توقيعها لسرقة ثروة أبي، وماتت أمي من حزنها بعد فترة، فاحتواني جداي رأفةً بي، ولأنّي تذكارهم الوحيد من ابنتهم المظلومة؛ أمي.. “
كازو:
– ” هارو الغبي، لا تتمنى مجددًا أي شيء، فلا خير ممّا ترجوه “
قالها كازو كنوع من تغيير الجو، لكن هارو لم يفهم ما يرمي له كازو، فسأل:
– ” كيف علمتِ بذلك؟”
ضربه كازو مباشرة وقال بكل يأس:
– ” أحمق “
ابتسمت يومي بمرارة:
– ” أخبرني عمي بذلك بنفسه “
كازو بغيض:
– ” كنوع من التخويف؟ عذا.ب نفسي إذًا هيه.. “
– ” حان دوركما، حدثاني عنكما قليلًا، على الرغم من اختلاف معنيي الاسمين، إلا أنّهما متشابهان”
– ” أمي من أسمتنا أنا وكازو، فقد وُلدنا بفارق أيام “
ثم سكت ونظر نظرة خاطفة لكازو – الذي لم تتغير ملامحه – ليكمل كازو بكل برود:
– ” على ما يبدو أمي ماتت عندما ولدتني، فكرهني أبي ظنًا أنّني قاتل أمي، وأخذني جدي ورعاني رفقة والدة هارو، والتي بالمناسبة كانت صديقة قديمة لوالدتي “
– ” أوه.. نحن متشابهان قليلًا، هاه “
– ” ربما، لكنّني لا أهتم، فلا ذكريات لي معهما ولا أكنّ لهما شعورًا مميزًا “
– ” لطالما كان كازو ناضجًا عاقلًا، يشعرني مذ عرفته أنّني غبي وأحمق “
– ” لكنّك فعلًا كذلك “
– ” يا لكِ من متحيزة، أيتها الثعلبة الحمراء “
– ” ايييه؟؟ ” وضحك هارو وكازو ساخرين على لقب يومي الغريب.
يومي:
– ” على كلٍ، انظروا للشمس، جميلة صحيح؟ أخبرني أحدهم عندما كنت صغيرة أنّ الشمس تُنسي الهموم، وتنير القلوب “
كازو:
– ” يعني ذلك يا هارو؛ كفاك حماقة، وشاهد بصمت “
هارو:
– ” أيها الـ … “
يومي:
– ” يبدو أنّك لم تجد لقبًا جديرًا به “
وضحكوا ثلاثتهم معًا.
لاحقًا، ذهب كازو لينظف بقايا حفلتهم بالكوخ بينما ظلّت يومي تراقب القمر بهدوء وتفكر، فلمحها هارو وقال ضاحكًا:
– ” رحلت الشمس، فما الذي تبادلينه للقمر؟ “
ضحكت يومي:
– ” يبدو أنّك تستمتع بإزعاجي “
– ” لأنّكِ ممتعة؛ إذًا، أهناك شيء يشغلك؟ “
– ” فقط أشتاق.. “
– ” أهو نفسه من أخبركِ بالنظر للشمس؟ “
– ” أجل، يُدعى آلبرت، صديق طفولتي وحارسٌ عمل لدى عمي لحمايتي، أسمر البشرة، وسيم ذو شعر بنيّ مثلك، وعينين بنيتين أيضًا، إنّه ضخم عريض المنكبين، مظهره يبث الهيبة والأمان… كنت أتمنى لو أتى معي أيضًا. “
– ” أتحبينه ؟ ” (سأل مترددًا)
– ” لـَ-.. ليس كذلك! إنّه كأخ لا أكثر. “
ضحك هارو:
– ” حسنًا حسنًا، فقط رغبت بإزعاجكِ قليلًا. “
– ” لِم تبقى واقفًا؟ اجلس. “
فجأة، شعرت بدفء جميل من الخلف، وسمعت صوتًا هادئًا على غير عادته:
– ” إذا شعرتِ بالحزن أو احتجتِ لأحد، دعكِ من الشمس وتعالي إليّ، فإنّني دائمًا هنا.. هارو بجانبكِ ما حييتِ “
– ” إذًا أحضانه مفتوحة دائمًا لي؟ “
ضحك وأجاب:
– ” دائمًا “
ابتسمت يومي وخالجها شعورٌ غريب ما بين السعادة والخجل، التفّت قليلًا لتعكس اِتجاهها وتبادله الحضن،
كازو من الكوخ يراقب مبتسمًا؛ أنّى لطيري الحب خاصته عيش لحظة كتلك دون أن يراها وهو من عرّفهما.
” لن أسمح بتفريقكما إطلاقًا. ” أخذه عهدًا على عاتقه، وراقبهما بفخر وسعادة غامرة.
في الصباح، تلقى آلبرت رسالة قصيرة جدًا على غير عادة يومي.
فتحها ليجد ٤ كلمات جعلته يشعر بشعور غامر مليء بالسعادة والاطمئنان؛
– ” آلبرت… لقد وقعت بالحب “.
يُتبع..
حساب الكاتبة : @imamy03