لوحة الربيع - 4
– ” سأذهب قليلًا “.
– ” حسنًا إذًا، سأخمّر الشاي وأنتظركِ بالشرفة “.
بعد دقائق، نزلت يومي وبيدها كرة صوف بنية.
– ” ما هذا؟ ”
– ” صوف “.
– ” أرى ذلك، لكن ما عملكِ بها ؟ “
جلست يومي مقابله وأخرجت خيطًا وبدأت في لفه:
– ” أريد أن أحيك لي شالًا “.
اقترب هارو برأسه وابتسم ابتسامة ممازحًا:
– ” هل تحيكين لكِ شالًا بلون شعري ؟ ”
دُهشت يومي وأجابت:
– ” واااه! كيف عرفت ؟! ”
أرجع هارو رأسه خجلًا:
– ” كنت أمزح، لم أتوقع ذلك.. “
– ” حِكتُ لك وشاحًا بلون شعري، لذا، أردتُ أن أحيك لي وشاحًا بلون شعرك~ “.
تمتم هارو بكلمات غير مفهومة خجلًا، وأنزل عينيه:
– ” أتريدين شايًا؟ ”
– ” أجل لو سمحت، صحيح، أين خالتي وردة ؟ ”
– ” خرجت لتؤمّن حاجيات جد كازو، إذًا وأنتِ تحيكين، حدّثيني عن طفولتك “.
– ” همم، لم أعش طفولة طبيعية، لذا، لست أدري ما الذي يجب أن أحدّثك به “.
– ” حدّثيني عن يومي الصغيرة “.
ابتسمت بحسرة :
– ” يومي الصغيرة.. فتاة تخبّطت بعد موت والدها في الرابعة من عمرها، واستيلاء عمّها على أملاكهم، نُبذت وطُردت هي وأمّها، وقرّرتا الذهاب لجدّيها والدي أمّها، أثناء المسير، مرضت والدتها حزنًا وقهرًا، ما لبثت حتى وصلتا لمنزل والديها وخرّت ميتة في حضن والدتها..
استمرّ جداها بالعناية بها وتربيتها، وصادقت ابن جارها وعاشا كالإخوة، رغم فارق السن الكبير، حتى وصلت السادسة واُخذت قسرًا من جديها وقريتها، واتّضح أنّها قد بيعت حينها..
حالما وصلت لقصرهم المختلط بالذكريات الأليمة، وجدت نفسها في غرفة ليست بغرفتها، وقد تم حبسها تمامًا فيها، رفقة بعض الضرب أحيانًا، والشتيمة دائمًا، ولا ننسى أنّه يتم رسمها سنويًا، حتى وصلت الثالثة عشرة، وتم اعتاقها من الحبس المؤبّد وإخراجها..
ولا زال الرسم مستمرًا..
حينما خرجت من حبسها المحصور بغرفة نومها، اتسع المحيط قليلًا، فأصبح محصورًا بالقصر والحديقة فقط..
لم يكن هناك شيء يبهجها عدى حارسًا اسمرًا بنيَّ الشعر والعينين، ضخم البنية والمنكبين بوجه طفولي قليلًا، كان رفيقها طوال تلك الفترة، حتى وصلت السادسة عشرة، وعلمت أنّه صديق طفولتها ذاته..
يومي كبرت باليوم سنة، يومًا بعد يوم، وسنة بعد سنة، أتاها الفرج؛ ففي النهاية، هربت من العذاب والتقت برفيقين وأمّ حنون أخرى.. “.
– ” يومي فتاة شُحنت بالقوة والشجاعة، أفخر بكِ يا آنسة يومي “.
– ” أشكرك سيد هارو “.
– ” الشاي يبرد، اشربيه “.
– ” ماذا عن هارو كطفل؟ ”
– ” ليست بالقصة المثيرة، فقد كبر هارو – الذي لم يرَ والده قط، واكتفى بتخيّله من حكايا وقصص والدته عنه – رفقة صديقه وأخيه كازو، والجد الحنون الذي كان قد اعتنى بوالدته وردة أيضًا في صغرها، نشأ الطفل هارو بسعادة واستمدوا رزقهم من مزرعتهم التي عملت عليها والدته كثيرًا، ساعده السيد توماس وعلمه الكثير رفقة ابنته .. “.
ابتسم هارو واردف “كان لي خير معلم ووالد ..”.
– ” أوَتدري، إنّها الحياة التي أتمنّاها لأبنائي.. “
وضع هارو كوبه، ثم عقد يديه تحت ذقنه ليسند رأسه، وابتسم ابتسامة عريضة:
– ” لنجعلها إذًا حياة أبنائنا “.
كحّت يومي مختنقة من الشاي، واحمرّ وجهها خجلًا..
قام هارو بسرعة، وضرب ظهرها حتى عاد تنفسها، وضحك عليها بشدّة بينما ركلت قدمه وقالت بخجل:
– ” عـ.. عُد لمكانك وأكمل شايَك “.
احتست يومي شايها خجلة تتقلب نظراتها، ضحك هارو وداعب شعرها بلطف، لمعت عينا يومي والتفتت صوب عينيه قائلة :” أين منزل السيد توماس؟”.
-” قرب المدرسة الابتدائية، في منزل منعزل قليلًا فوق التلة، أتريدين الذهاب له؟”.
-“أود لقاءه كثيرًا، بالمناسبة.. هل خالتي وردة مريضة بشيء؟ ”
– ” كلا، لماذا ؟ ”
– ” لا عليك، لا شيء”.
———————— ✿ ✿
بعد مسير يومين بالعربة، وصل كازو للمدينة وأتمّ أعماله وتجارته.
في صباح اليوم التالي، أخذ رسالة يومي وذهب لقصر عمّها، وضرب حارسًا ليأخذ زيّه وارتداه وأخفى الرجل، ثم دخل وكأنّه من الحراس.
– ” حسنًا، المكان أكبر ممّا اعتقدت.. إذًا، كيف سأجده؟ ”
انتبه إلى حركة سريعة من الحراس، وخادماتٍ يذهبن ويأتين، سأل إحداهن:
– ” أهناك خطب ما؟ ”
– ” ويحك، أيعقل أن تنسى قدوم العائلة النبيلة لليوم؟ ”
– ” أتقصدين قائد الجيش؟ ”
– ” ومن غيره؟؟ لقد حذرونا كثيرًا، إيّاك وأن يسمعك أحدهم وإلا لن تنجو “.
ركضت الخادمة تكمل عملها، استنتج جوابه ذلك من قصة يومي وجرّب حظه، تنهد كازو:
– ” من المؤسف أن أموت بسبب رسالتك، أيّتها الثعلبة الحمراء.. “
عاد للبوابة مع بقية الحراس، يتفحص المكان بعينيه بحثًا عن آلبرت..
دقائق وفُتحت البوابة على مصراعيها، ودخلت عربة فارهة راقية، لفت انتباه كازو شعار العائلة النبيلة ذو الطابع الحربي، فهم حالًا أن من عادات هذه العائلة الموروثة، وجود أفرادها بالجيش، ومحاولة تلقيهم المنصب الأعلى..
– ” قائد الجيش إذًا .. “
خرج رجل ذو ملامح حادة قاسية، ممسكًا بامرأة ذات جمال ووجه ماكر..
وتبعهما شاب وسيم، يبعث على شعورٍ سيء، ذو شعر وعينين سوداوين، أهذا خطيب يومي المجهول؟
استقبلهم رجلٌ ذو نظرات خبيثة؛ يبدو أنّه عمّها، وقد اِدّعى الحب والسعادة لرؤيتهم، وبجانبه امرأة أنيقة، تحرص على أتفه تفصيل، وتنظف أيّ تلوث على ثيابها..
هذا ما حلّله كازو من نظراتهم، تعبيراتهم، حركاتهم ولغة جسدهم ونبرة أصواتهم.
– ” بئس ما وقعت به يومي.. ”
تبعهم إلى بوابة القصر، ومنها إلى الغرفة التي ذهبوا إليها.
واِدّعى للحراس أنّه حارس الغرفة لليوم، اِستمع بحرص من خلف الباب لحديثهم.
– ” مرّ عام بلا أثر لها، ما تفسيرك لذلك ؟؟ ”
– ” لا تؤاخذني سيدي، إنّني أبذل جهدي، ولن يتسلل النوم لعيني حتى أجدها. ”
– ” بقي عام واحدٌ على زواج اِبني منها !! هذه مهلتكم إن لم تجدوها سنوقعكم بمشاكل لا حصر لها ! ”
– ” سيدتي، أرجوك اطمئنّي، أنا وزوجي نبحث عنها بأنفسنا، سنجدها قريبًا. ”
– ” لوي ما تعليقك على الأمر؟ ”
– ” أحب التأكد من كون خطيبتي العزيزة يومي لا تعلم بما يُحاك من ورائها، ولذا هربت.. ”
– ” مـَ ماذا تعني، سيدي !!”
اِعتدل لوي في جلسته، وقال بنبرة مهددة:
– ” إن اِتضح أنّها هربت خوفًا من الزواج منّي، فلهذا شأن آخر… ”
– ” لـْ لـَ لا.. لا تقلق سيدي، إنّه طيش منها لا أكثر، لطالما لعبت الغميضة معنا. ”
– ” سأبدأ في تجهيزات زواج عزيزي لوي بيومي آملة أنّها ستعود قريبًا كونه طيش كما قلت.. ”
– ” أجل، أجل، هذا صحيح.. ”
– ” عن إذنكم، سأخرج قليلًا.. ”
اِعتدل كازو في وقفته وتصنّم، خرج لوي وأغلق الباب، ثمّ حدّق بكازو مليًا، وكأنّه يتفحصه، ثمّ أكمل سيره..
شعر كازو بالضيق الخانق، ذهب مسرعًا يبحث عن آلبرت لإعطائه أمانته وإبلاغه بالخطر المحدق على يومي.
تلفت يمينًا وشمالًا، ليجد آلبرت خارجًا من القصر للحديقة، تبعه وسحب كتفه، ابتعد آلبرت وضربه مدافعًا عن نفسه، ليمسك كازو قبضة يد آلبرت ويراوغه..
– ” آوه! إنّه أنت.. !! ”
– ” لِمَ الضرب يا هذا! ”
– ” آسف.. ماذا تفعل هنا، وأين يومـ- ”
أغلق كازو فم آلبرت.
– ” اخرس ولا تنطق اسمها هنا.. ”
– ” ما الذي حدث؟ ”
– ” خُذني لمكان لا يسمعنا فيه أحد، عليّ إخبارك بأمر “.
– ” لنذهب للإسطبل.. “
– ” إذًا، ما الذي حدث؟ ”
مدّ كازو رسالة يومي لآلبرت، ونظر بصمت.
– ” كم أتوق لأخبَارها.. حدّثني أنت عنها قليلًا.. ”
– ” قبل ذلك اسمع؛ هل لاحظت أمرًا غريبًا في عمّها وزوجته؟ قائد الجيش وابنه المدعو لوي؟ ”
– ” كيف عرفت اسمه؟ “
– ” لا وقت للشرح، هناك الكثير لفعله، أجبني الآن.. ”
– ” كان ابن قائد الجيش يأتي لهنا بين الحين والآخر، يسأل عن وردة يومي المفضلة ويطلب رؤية غرفتها ويتمشى حيث ما كانت تتمشى يومي و.. ”
– ” و؟ ”
– ” كان يأتي قائد الجيش وزوجته وابنهما مرة كل شهرين على غير العادة، لم يسبق أن أتوا في وجود يومي قط، يغلقون على أنفسهم في غرفة بلا حراس أو خادمات، ولا يلبثون طويلًا ثمّ يعودون “.
تجمّد وجه كازو واتسعت عيناه؛
– ” ماذا حدث لك؟ ”
– ” أنا في ورطة.. أقُلتَ بلا حراس؟؟؟ ”
– ” ما الذي فعلته بربّك !”
– ” كنت أقف هناك ممثلًا أنّي حارس.. كلا كلا، إنّني في ورطة، علي العودة ليومي “.
– ” قد يشكّوا بك ويتبعوك لإيجادها! ”
– ” يا لحظي العثر! يا لحظي العثر! “
سكت كازو مفكرًا ثم نطق حالًا:
– ” استمِع آلبرت، أكمل عملك وكأنّك لا تعرفني، وأنا سأبقى هنا حتى يذهب أولئك المقرفون وابنهم المهووس معهم، بعدها سأرحل أنا بسرية قبيل فجر الغد، إن لم أرسل لك رسالة مساء الغد؛ عليك حالًا الذهاب للقرية وأخذ يومي لمكان آخر وإخفاء هارو ووالدته وجدي..
سأعطيك العنوان، علينا الإسراع ! “.
———————— ✿ ✿
في اليوم التالي، خرجت يومي قبل المغيب تقصد تل الزهور قرب المدرسة الابتدائية الصغيرة بغرفة دراسة واحدة، حيث يقطن السيد توماس، أرادت اختلاس النظر ومعرفة أي شخص هو ذاك الذي يقدِّره هارو لهذه الدرجة.
حينما وصلت وجدت تلًا صغيرًا يطل على المدرسة، ومنزل صغير يكاد يكفيه، إقتربت وطرقت الباب لكن بلا مجيب، دفعت الباب فوجدته مفتوحًا .. دخلت لتجد منزلًا غارقًا بالكتب والمجلدات، أثار هذا فضولها فاقتربت من مكتبٍ -بدا عليه القِدم والتهالك- لتجد كتاباتٍ معلقة على الجدران، قرأتها واحدًا تلو الاخر والإثارة تشدها أكثر فأكثر من جمال ما كُتب ..
مرت ساعة ليدخل رجلٌ في أواخر عمره الأربعين، بشعر متوسط الطول بدأ يغزوه الشيب في جذوره قد جمعه بكل عشوائية كذيل حصان أو ماشابهه، نحيف الجسد بارز تجاعيد الوجه، يرتدي نظارات قراءة مستطيلة، تبدو عليه الوسامة في المجمل، يحمل كتبًا بيده، وقفت يومي حالًا وقالت بحرج : “أ أعذر تطفلي ياسيدي .. قد طرقتُ الباب قبيل دخولي وصدفة وجدته مفتوحًا فسولت لي نفسي أن أدخل علَّ صاحب المنزل لم يسمع ..”
-“أيخول ذلك لكِ أن تبقي إن لم تجدي صاحب المنزل فيه؟ فعلًا متطفلة”.
مشى ورمى كتبه فوق مجموعة كتب مهترئة لتتطاير عاصفة غبار تدل على رثاثة المنزل، ثم ذهب لرفٍ وسط مكتبة كتب وانتقى كتابًا قلَّب صفحاته يقرؤه وقال باستخفاف :” من أنتِ ياصغيرة؟”
-” اسمي يومي ياسيدي .. أسكن مع السيدة وردة”.
-“أنتِ الزائرة منذ عامٍ إذًا، آيه ماذا أردتِ أن تنهبي من منزلي المتواضع؟”
-” كلا كلا! أردت رؤيتك شخصيًا”.
رفع حاجبًا والتفت إليها مستفسرًا، ابتسمت مجيبة :”أظنك شخصًا عظيمًا حسب ماقال هارو”.
-“إنه يبالغ، إن كان هذا كل ما أردته فهلَّا غادرتِ لطفًا”.
-” قرأت كتاباتك! وتلك التي على الجدران أيضًا، اعذر تطفلي لكنك كاتب مذهل ومبدع! لامسني شعور كل حرف سُطر في تلك—”.
-“أخرجي!! ألم يعلمكِ والداكِ ألا تتطفلي فيما لا يعنيكِ؟!”.
صُدمت يومي .. انحنت وخرجت بهدوء، تنهد توماس محاولًا بعثرة همومه، نظر للأوراق المعلقة وأقترب منها يلمسها محدثًا نفسه :” لن تعود لذلك ..”، انتبه لوجود دفتر مفتوح عليه كتابة جديدة :
“ذاك الخريف القاتم الكاسر .. عليه أقذف بغضي و إليه أفضي بحزني .. علني أحضَ بربيع آسر”
نظر للباب .. وتنهد بصعوبة.
———————— ✿ ✿
-بعد يومين-
– ” هارو، هل يأخذ كازو كل هذا الوقت في عمله؟ ”
– ” كلا، بالعادة ٤ أيام ويأتي.. لكنّه قارب الأسبوع.. ”
– ” لا تقلقا يا عزيزاي، كازو قويّ، ولن يحدث له شيء “.
-صوت طرقات الباب-
– ” أرأيتم، ها قد أتى.. “.
ركضا يومي وهارو لفتح الباب، لكنّ المفاجأة كانت..
– ” ايييه!! آلبرت؟؟ “
يُتبع..
حساب الانستغرام : @imamy03