لوحة الربيع - 7
تجمّدت يومي في مكانها وسقط المفتاح من يدها المرتجفة خوفًا.
– ” إيّاك ولمسها!”
-” وكأنّ بيدك شيئًا لتفعله أيّها المسجون. “
-” مـ.. من أنت ؟ “
-” أوه، ألم تعرفيني؟ يا للحزن. “
صمت لبرهة وابتسم بخبث:
-” توقّعتك تذكّرتني عندما رأيتكِ وجدتِ غرفة التّعذيب الخاصّة بي. “
-” أنت ذاك الطّفل كما توقعت! “
-” رااائع تذكّرتني إذًا. شعرت بالأسى الآن، فعلى ذكرنا للأمر، كانت زيارتك السّابقة رفقة والدك المغدور. “
-” كيف علمت بذلك!! “
-” يا للمسكينة، ألم تعرفي سوى أنّك ستتزوجين بي؟”
ضحك ضحكة هستيرية مخيفة وأردف:
-” كلّ شيء قد خُطط له منذ أتيتما لهنا. اِجلسي براحة أرجوكِ، سأحكي لكِ قصّة صغيرة؛
كان والدكِ نبيلًا قويًّا ذا نفوذ وقوّة، ولذا، زارنا حينها لأمر
سياسيّ، لكنّني ومنذ اللّحظة الأولى أردتكِ لي! لذا طلب والدي من والدكِ القدوم
لزيارته في منزلنا رفقتكِ، أخبره برغبتنا بكِ حينما أخذتكِ حول القصر، يبدو أنّ
والدك اِنفعل ورفضنا بشدّة، وقطع علاقته وإمداداته لنا، لذا اتّفقنا مع عمّك وحدث ما حدث. “
-” عمّي طرد والدتي!”
-” كان أحمقًا لذا أعادكِ لاحقًا، لأنّه شرطٌ من شروطنا لدعمه. “
-” أنتم مقرفون !”
-” سأقتل صديقكِ هذا إن لم تأتِ وتعودي إليّ. “
-” لن تلمسه!”
-” وأنتِ ستبقين هنا !”
-” يومي إيّاكِ ! إيّاكِ والبقاء!! “
-” حسنًا سأعود لك، لكن دع كازو يذهب.”
-” تعالي إليّ وأثبتي لي بقاءكِ بجانبي.”
مشت يومي إليه وهي تمدّ يدًا نحوه والأخرى أخفتها خلفها. مشت بهدوء حتّى أتت نحوه، مدّت يدها لرأسه وقد ذاب حبًا حالما لمست خده، أشارت بيدها التي أخفتها
لكازو أن يأخذ بيده المحرّرة المفتاح ويفكّ وثاق يده الأخرى.
وفجأةً، بحركة سريعة، أخرجت خنجرها وطعنت فخذ لوي طعنات كثيرة، وركلته
بشدّة بين ساقيه، فـخرّ يتلوّى من ألمه، وينزف من دماءه.
-” الآن كازو، هيّا!! “
خرجا راكضَيْن بسرعة قاصديْن باب القصر، فلا يوجد الكثير من الخدم؛
والشّكر لـلوي الذي قُلبت خطّته عليه وهو يصرخ مناديًا للحرس والخدم لمساعدته
وإيقافهما. ركض كلّ من كان بالقرب لـلوي، ممّا ساعد أكثر يومي وكازو للهروب.
خرجا أخيرًا وتوجّها لمحطّة القطار راكضين بلا توقف…
وبعد فترة، وصلا
للمحطّة ويا للصّدفة ! فقد لقيا أمامهما هارو وآلبرت وقد وصلا أخيرًا.
-آلبرت: ” أنتِ حيَّة !!! حمدًا لله! وكازو برفقتك، يا لسعادتي. “
-يومي: ” ايييه! هارو وآلبرت، ماذا تفعلان هنا ؟ “
-هارو: ” بل أنتِ ما الذي أوصلك لهنا! ألهيتنا بحجّة المستوصف حتّى تهربي !!”
-كازو: ” جميعًا، أهلًا برؤيتكم مجددًا، لا وقت لذلك علينا الهروب. “
آلبرت: “يا للسّخرية، سنعود للقطار حالًا إذًا. “
ضحك هارو وأجاب:
– ” أترى يا آلبرت، أهلًا بك يا سيّد قطار نحن عائدون لنصعد مجددًا. “
– ” يالك من سخيف يا هارو. “
– ” لِمَ تُفسدين حالي الممتع أيّتها الثّعلبة الحمراء؟ “
– ” يا سادة، هلّا أكملنا رحلة هروبنا؟ جروحي تريد البكاء إن سمحتم. “
– ” ااييييه !!! نسيت جروحك بسبب غباء هارو. “
– ” أن تكون وسيمًا وغبيًّا خيرٌ من أن تكون عاديًّا. “
– ” هدفٌ جيدٌ يا هارو، لكنّه في مرماك. “
– ” الثّعلبة الحمراء لا تنوي خيرًا عليَّ اليوم. “
– ” اِركب، اِركب، وكفاك كلامًا. “
ركبوا جميعهم قطار العودة إلى القرية؛ يومي تلفّ جروح كازو المجلود ثمّ تنتقل لتبدل ضمادة آلبرت المغدور، وهارو يحاول تلطيف الجوّ الممتلئ برائحة الدّواء والمطهّرات التي استطاعوا الحصول عليها من مُضيفي المقطورة ببعض النّكت السّخيفة، ورغم سحق يومي لجهود هارو، إلّا أنّها أوّل من يضحك على نكته، ثمّ تتصرّف وكأنّها لم تضحك.
وصلوا أخيرًا بداية فجر اليوم التالي، عادوا جميعًا للمنزل وانطلق هارو حالًا ليعيد والدته وجدّ كازو إلى القرية بطلب من يومي التي قالت بكلّ يقين ’’ لا عليك، لن يحدث شيء ‘‘.
ذهبت يومي المُتهالكة ألمًا وتعبًا تخلد للنّوم. عندما همّت بخلع ثوبها، علق جزء منه ببعض الدّماء المتجمدة على الخرقة التي لفّتها على جرحها.
– ” الجرح يسوء حاله ! “
حاولت بخفّة أن تُبعِد ثوبها عن الجرح دون أن يزيده سوءًا. شيئًا فشيئًا، حتّى خلعته تمامًا، ثمّ فكّت الخِرقة وتصبّبت بعض الدماء. أخذت حالًا بعض المطهّر والضّماد من درجها، وبدأت تحاول تطهيره متألّمة بسرعة، ثمّ لفّته جيّدًا واِرتدت قميص نومها ونامت أخيرًا في فراشها على بطنها متأمّلةً عودة السيّدة وردة قريبًا.
~~~~~~~~~~~~~~~
أشعّة الشّمس المنسابة من بين النّافذة تدغدغ وجنتي يومي معلنة بداية صباح جديد.
استيقظت يومي بإرهاق شديد.
– ” أنا متعبة.. ليتني أنام لسنوات وأهرب من كلّ شيء. “
– ” أمنِّي أيضًا تهربين؟ “
رفعت رأسها ونظرت للباب.
– ” ما الذي أتى بك؟ “
– ” كنت خارجًا من غرفتي ورأيت بابكِ مفتوحًا، خِلت أنّكِ هربتِ مجددًا. “
– ” هاها، لا تثق كثيرًا، من يدري ما قد يحدث. “
أخفض هارو عينيه بضيق ومشى بخطواتٍ خفيفة نحو سريرها وجلس.
– ” أنتِ تتألّمين مرّة أخرى. “
– ” أنا بخير ..”
– ” أنتِ كاذبة. “
جلست يومي مُخفية ألمها مقابل هارو:
– ” مالي أراك جديًّا على غير عادتك؟ “
مدّت كفها ولمست خدّ هارو:
– ” أنت بخير؟ “
– ” أنتِ من تسألين؟ انتِ جيدة في ملاحظة مايؤلم الاخرين، لكنك لاتلاحظين مايؤلمك سكفاكِ قلقًا عليّ واقلقي على نفسكِ قليلًا. “
– ” أنا بخير، لا داعي للقلق. “
– ” بالأمس.. خفتُ كثيرًا حينما لم أجدك، شعرت وكأنّكِ ذهبتِ للأبد المؤبّد. “
– ” الأبد المؤبّد؟ “. وضحكت يومي.
– ” الضّحك يليق بكِ.. اضحكي بسعادة هكذا دائمًا. “
حضنها وكأنّ حضنه يقول الكثير والكثير، لم تتحمّل يومي الألم النّاتج عن ضغط هارو على جرح ظهرها. شعر هارو برأسها ثقيلًا على كتفيه.
– ” يومي؟ “
– “…….. “
بدأ يُحرّكها رويدًا رويدًا :
– ” أُوي يومي، ماذا حدث لكِ؟ “
انتبه لدم برز على ظهرها.
حملها وهو يسند رأسها عليه، وركض ذاهبًا لمستوصف القرية مناديًا بخوف:
– ” أيّها الطبيب، أيّها الطبيب.. كايو .. أيُّ ممرّضة أو ما شابه، أحدكم! فليساعدني.. يـ… يومي! أنقذوا يومي…! “
أدخلها حالًا لأحد الأطبّاء، وركضت كايو حالًا لتقصّ ثوب يومي من جهة ظهرها ليبدأوا في علاجه. أغمض هارو عينيه لكي لا يرى شيئًا من جسد يومي، وأبقاها عليه يسندها بمنكبيه.
عقّم الطّبيب جرحها:
– ” يبدو عليه بعض القِدم، وكأنّها جرحت قبل يوم أو اثنين.”
عضّ هارو شفتيه:
– ” لِم لم تخبرنا بذلك؟ أكانت تنتظر أن يسوء أكثر؟ “
بدأ الطّبيب في خياطته ويومي شبه مغمي عليها تئنّ ألمًا.
اِنتهى أخيرًا من جرحها، ووجب على هارو تركها ليلفّ الطّبيب جرحها جيدًا. ساعدته كايو كونه غاضًا بصره عن يومي في وضعها على السّرير مُسندَيْن رأسها فقط على الجدار ليتمكّنوا من إكمال عملهم ولفّ الضّماد عليها، وخرج هارو.
بعد دقائق خرجت كايو لتطلب من هارو أن يذهب لإحضار أي ثوب آخر مناسب؛ فبعيدًا عن كونه ثوب نوم، هو ممزّق أيضًا.
عاد للمنزل وهو خجل يجرّ قدميه جرًّا، لا يدري بأيّ وجه سيفتح خزانة ثياب فتاة.
فجأة ارتطم بامرأة:
– ” عـ… عُذرًا. “
– ” هارو؟ ألم تعرف والدتك أيضًا؟ “
– ” أمّي ! لِمَ استيقظتِ باكرًا؟ أعدتكِ متأخّرًا ليلة البارحة. “
– ” لم يخالجني نومٌ وعزيزايَ يومي وكازو عاشا وقتًا عصيبًا.”
– ” أمّي اسمعي، يومي مصابة، خذي ثوبًا من خزانتها وتعالي معي حالًا! “
رمت والدة هارو السّلة على وجهه وركضت مسرعة تحضر ثوبًا وتنزل راكضة للمستوصف دون أن تنتظر هارو حتى…
– ” ا أمّي..! “
تبعها راكضًا حتى وصلا، ودخلت السيّدة وردة لتُـبدّل ثياب يومي، ثمّ نوَّمت يومي على بطنها وأدخلت هارو.
– ” اُدخل، إنّها بخير الآن. “
– ” يومي .. كيف حالكِ؟ “
– ” بخير. ” وابتسمت.
– ” سأخرج أنا لأشكر الطّبيب وأحاسبه، وأنتِ وبّخي هارو كما تريدين. “
أغلقت السيّدة وردة الباب عليهما وجلس هارو على سرير يومي.
– ” لِم لم تخبرينا؟ “
– ” كنت سأذهب بنفسي صباحًا. “
– ” لكنّي من أخذتكِ، والفضل لإغمائك المفاجئ. “
– ” بل الفضل لحضنك المتسبّب في ذلك. “
أخفض هارو رأسه وقال بصوت خانق متألم:
– ” إنّني قلق عليكِ دائمًا. “
– ” لستُ بطفلة، لا تُجهد نفسك بالقلق عليّ. “
– ” من أجلكِ ألف مرةٍ ومرة، لا بأس لديّ في القلق والحزن والتّعب إن كان لكِ.. لا بأس حتّى بالموت إن كان لحياتك. “
– ” ومن أجلك دائمًا سأظلّ أقاتلهم لأبقى قربك، أنت ربيع قلبي المميز. “
– ” كنت متأثّرًا حتّى تخيّلت فجأةً وجه آلبرت إن علم بما حدث لكِ. “
– ” يا لك من مفسدٍ للجو. ” وضحكت يومي.
فجأةً، فُتح الباب بقوّة، ودخل آلبرت، ثمّ أمسك بكتفه وترنّح متألمًا، ولحقه كازو الذي حالما توقّف من ركضه آلمته جروح جسده كلّها، وخلفهم السّيدة وردة تدور بعينيها وكأنّها ليست من نادتهم أو أخبرتهم بما حدث.
تقـلّب وجه يومي المُهلك المتعب إلى وجه ضحوك – رغم شحوبه- على حالهم المضحك.
– ” شكرًا لقدومكم جميعًا .. أنا بخير حقًا. “
هارو بنظرة لامعة خبيثة:
– ” بما أنّكما هنا، لا بدّ من بعض الفحوصات والمراجعات مجدّدًا، ولا بأس ببعض الإبر أيضًا.”
– ” يا لك من ..”
– ” شششش، الخالة وردة هنا. “
– ” لا تُطيلوا البقاء، على يومي الرّاحة. “
– ” إن اِحتجتِ لشيء، فآلبرت هنا. “
– ” وكازو. “
– ” بالتّأكيد لا حاجة لترديدي لقولكم، فهارو دائمًا معها. “
– ” يا لكما من مُقلِّـدَيْن. “
– ” والسيّدة وردة أيضًا هنا. “
– ” سيّدتيييي.. ” آلبرت بتجهّم.
ضحكت يومي:
– ” إنّني لمحظوظة إذًا. “
خرج هارو وآلبرت وتبعهم كازو، لتبقى السيّدة وردة مع يومي اللّيلة.
– ” ألم تسألني يا آلبرت ما إن كنت أحبّها ؟ “
– ” تلقيتُ جوابي، لا داعي للتّفكير طوال هذا الوقت. “
– ” لم أكن أفكّر، فأنا أعرف جوابي مسبّقًا. “
التفت ووضع عينيه نصب عيني آلبرت:
– ” أنا متيّمٌ في حبّها.. غارقٌ في هيامها يا هذا… “
ابتسم آلبرت بشدّة، وقال بتردّدٍ:
– ” يومي في أمانتكما إن حدث لي شيء. “
– ” كفاكما هراءً أيّها العاشق والحارس المجنونان، لن تبتعدا، أسمعتما؟ “
يُتبع..
حساب الانستغرام : @imamy03