لوحة الربيع - 8
في اليوم التّالي، عادت يومي للمنزل بسلام.
أصبح هارو والسيّدة وردة ملاحِقَيْن لجروح وإصابات ذلك الثُّلاثي.
يعتني هارو بكازو وآلبرت بخشونة، ويصرخان مستنجِدَيْن بالسّيدة وردة العطوفة على الجميع، وكأنّها الأم الرّوحية لهم جميعًا.
حالما تذهب السّيدة وردة لكازو وآلبرت، يتسلّل هارو ليومي ليتفقّد حالها، فعلى كلِّ حال، هو ممنوع من الذّهاب إليها أو الاِعتناء بها كونها فتاة.
وتأتي السّيدة وردة لتصرخ عليه موبِّخة وتطرده لكازو وآلبرت الذين يصفرُّ وجههما حالما يأتي هارو.
مرّ شهران على تلك الحوادث، بلا أثرٍ أو خبر عن عمّها أو اِبن قائد الجيش، لوي.
شُفي جرح يومي وجروح كازو، مع بقاء أثر لهم تاركةً علامات تدلّ على جهده النّبيل في حماية عائلته العزيزة. وبالنّسبة لآلبرت فقد تبدّدت إصابته وتشافت تمامًا بوقت أقلّ من كازو ويومي.
طرقت يومي الباب على آلبرت:
– ” هل يمكنني الدّخول؟ “
– ” بالتّأكيد. “
دخلت يومي مُبقيةً الباب مفتوحًا، وجلست على كرسيٍّ في غرفة آلبرت.
– ” هدوءكِ غريب، هل حدث شيء ما؟ “
– ” أتتذكّر حينما طلبت منك الذّهاب والمُضي في حياتك؟ إنّني أُصر في طلبي يا آلبرت. “
– ” أنتِ أمانة جدّيْكِ لي. “
– ” لستُ بطفلة بعد الآن. “
– ” لم تبلغي الثّامنة عشرة بعد. “
– ” لم يتبقَّ سوى بضعة أشهر، لا عذر لديك. “
– ” ألا ترغبين ببقائي معكِ؟ “
سكتت يومي وأجابت بابتسامة:
– ” أجل.. لا أرغب ببقائك معي. “
سكت آلبرت وطال الصّمت بينهما، حتّى وقفت يومي وخرجت خارجًا.
~~~~~~~~~
لاحقًا وفي وقت الغداء، نادت السّيدة وردة آلبرت لكن بلا إجابة…
ذهبت لتتفقّده ونزلت حالًا:
– ” آلبرت ليس هنا… “
– ” كيف ليس هنا؟ ” كازو باستغراب.
– ” غُرفته مرتّبة وأغراضه ليست هنا، ترك ورقة يشكرنا فيها. “
– ” يومي، هل تعرفين شيئًا؟ ” سأل كازو.
كان هارو يحدّق بها بصمت وهي تحاول إلهاء نفسها بوضع الصّحون وإخراجها، وكأنّها لا تسمع. سكت كازو والتفت للسّيدة وردة التي بدت قلقةً قليلًا، لكنّها اِكتفت بالدّعاء له وجمعتهم جميعًا حول المائدة وتناولوا طعامهم بكلّ هدوء.
حينما اِنتهوا، طلب كازو من السّيدة وردة الذّهاب لترتاح، وتَرْك غسيل الأطباق وتنظيف المائدة عليهم. حالما ذهبت، سأل هارو يومي :
– ” لِم طلبتِ منه الذّهاب؟ “
– ” أكنت تتنصّت؟ “
– ” مررتُ صدفة وسمعتك. “
– ” لحظة، لحظة، هلّا شرح أحدكم لي ما يحدث؟ “
– ” ليس بالأمر الجلل لتُـكَـبِّراه كلاكما، كلّ ما حدث أنّه ذهب واِنتهى. “
كازو بغضب:
– ” بينما يتخبّط خوفًا عليكِ، اُطلبي منه الذّهاب وأبعديه، ثمّ بكلّ بساطة قولي أنّه ذهب واِنتهى. “
وضعت يومي الطّبق بقوّة وصرخت قائلة:
– ” أتركه يُضيّع عمره في القلق عليّ تحت ضغط وعدٍ قطعه قبل أكثر من ١١ عامًا؟؟!! “
خرج كازو وهو يردّد:
– ” إيّاك والنّدمَ لاحقًا… “
اِقترب هارو ليومي ووضع كفّه على كتفها:
– ” هوني عليكِ، لا بأس. “
– ” هارو.. إنّني أقلق على آلبرت من أن يفنى بلا هدف أو حلم، وبلا عائلة. “
– ” فعلتِ الصّواب لا تقلقي، لكن لن تستطيعي إبعادي فقد وضَعكِ آلبرت في أمانتي.”
– ” لا زال كالأخ الكبير فعلًا… “
بعد أيّام، وصل ليومي خطاب سلّمه لها كازو وذهب لدببته كالمعتاد.
فوجِئت يومي؛ فلم يصلها في حياتها سوى خطابين من آلبرت عندما كانت تكتب له الكثير سابقًا.
أيُعقل أنّه آلبرت مجدّدًا؟ فتحته بحماس وقرأته.
’’ ابنتي يومي أنا الخبّاز من ذلك اليوم، كنت أسعى جاهدًا في إيصال خطابكِ وقد ِاستطعت أخيرًا فعل ذلك. أوصلت صوتكِ وطلبكِ المختومين في رسالتكِ لمحكمة النبلاء، وسامحيني يا بنتي، فقد علمت مشكلتك بدون إرادتي من خطابك، أُقيمت دعوة على عمّكِ وقائد الجيش، ترقّبي قدوم أحدهم لكِ خلال هذا الشّهر لأخذكِ إلى المحكمة.
مع تمنّياتي لكِ بالسّعادة: الخبّاز. ‘‘
– ” يا لسعادتي…! ” وسقطت دموعها فرحًا أخيرًا.
حسمت أمرها وقرّرت الذّهاب خِفية؛ ’’ عانوا كثيرًا معي… ‘‘. هذا ما ظلّت يومي تفكّر به، أُقحموا في مشاكل كانوا في غنًى عنها لمجرّد أنّها معهم.
عادت إلى غرفتها، وببطء، أخرجت حقيبتها التي أتت بها قبل سنة وبضع أشهر. يا لسرعة الوقت وسير الأيام…!
كادت تغوص في عالم الذّكريات، لكنّها قطعت حبل التّفكير وبدأت تُحضّر حقيبتها؛ ثوبين ومعطف كان كافيًا، ذهبت للمطبخ لتأخذ قربة ماء وبعض الخبز؛ يدبّران حالها في رحلتها.
كانت تُفكّر بما تكتبه لهم حتّى كادت لا تكتب شيئًا، فهي لم تُرِد أن يعلموا شيئًا عن الأمر الكبير الذي ستُقبِل عليه حالما تصل. بعد التّفكير الطّويل، وضعت رسالتها وخرجت خارجًا بلا نيّة للعودة حتّى تحقّق مُرادها .
خرجت وإذ بالسيد توماس قارب الوصول للمنزل، صادفته يومي وترددت قليلًا
-“إسمحي لي بالإعتذار عمّا بدر مني في آخر لقاء “
-“بل انا اعتذر عن تطفلي، كيف حالك ياسيدي”
-“إنني على حالي منذ سنين، ماذا عنكِ؟ لاتبدين بمثل حالك منذ أخر مرة”
-“جرت الكثير من الاحداث .. اظن انه التعب لاغير”
-“وتلك الحقيبة دلالة التعب أيضًا؟ أظن أنها نفس الحقيبة حينما أتيتِ”
-“أكنت هناك حينها؟؟”
-“صدقًا لا، بل ابنتي كايو، على كلٍ هل أنتِ راحلة يابنتي؟”
شعرت يومي بشعور لطيف جرّاء قوله، تنهدت يومي وأجابت : ” عمل تركته في مدينتي وعليّ إنهاؤه، أطلب منك رجاءً ألا تخبر أحدًا أنك رأيتني”
-“رافقتكِ السلامة، حينما تعودين مُرِّي علي في منزلي، وأيضًا .. قرأت عبارتك تلك، حاولي تفريغ مشاعرك وأفكارك في الكتابة “
-“شكرًا لك سيدي، استأذنك”
أكملت يومي سيرها وعاد السيد توماس لمنزله، غير مرتاح لما سيؤول إليه ذهاب يومي .
~~~
بعدما وصلت يومي لمحطّة القطار ومضت في سبيل ثأرها، عاد هارو وكازو للمنزل يحملان لحم عجل ضخم مفاجأة ليومي.
لم يجدا أحدًا.. نادياها وسألا الجيران، لكن لم يرها أحد، كانوا جميعهم غاطسين في أعمالهم، جرَّا حبال الخيبة عائدين لمنزلهما بُغية أن يجداها قد عادت أو أن تكون ذهبت مع السّيدة وردة للحقل، لكن ما إن دخلا حتّى وجدا السّيدة وردة جالسة عند الطّاولة وفي يدها رسالة. نظرت لهما ثمّ عادت ببصرها للرّسالة بكلّ صمت وهدوء.
– ” أمّي.. لم أحبّ نظراتكِ هذه.. ما تلك الرّسالة؟ “
– ” لست أُفضِّل رؤية الرّسائل؛ فهي تبثُّ لي جوًا وداعيًا. “
لم تردّ السّيدة وردة واِكتفت بمدّ الرّسالة لهما. أخذها هارو وبدأ بقراءتها بصوت واضح:
– ” عائلتي العزيزة،
تقبّلوا خالص شُكري واِمتناني وأسفي لِما جعلتكم تعيشونه في وجودي،
إنّني ماضيةٌ في تبديد كابوسي للأبد.
إيّاكم والقلقَ عليّ.. أيضًا، لا تبحثوا عنّي رجاءً.
يومي. “
كازو :
– ” أعادت تلك الغبيّة لمدينتها؟ “
هارو :
– ” لن أسمح بذلك بتاتًا! “
وقفت السّيدة وردة وسحبت الرّسالة برفق من يدي هارو المرتجفة إحباطًا وأعادت غلقها.
قالت وهي تضعها في جيبها بهدوء :
– ” هارو، كازو.. أبنائي الأعزّاء، دعوها تمضي وأفيضوا عليها بالدّعوات حتّى تعود يومًا ما
مُذ أتت وحتّى اليوم وهي تتآكل من داخلها؛ فلا أحد يفهم ما معنى أن تموت وتحيا يومًا بعد يوم، أن تؤلمه نفسه وتحترق للحدّ الذي تُقطَّع دون أن يرفّ لها جفن.. دعاها. “
ذهب هارو جريًا لغرفته وأغلق بابه بقوّة غاضبًا. لكم ورمى وأفسد حتّى خرّ أرضًا من تفكيره
’’ ما الذي تنوي فعله!!! ‘‘
كاد يُجنُّ من خوفه، وعينيه البنّيتين تدور كأنّها رمال متحركةٌ تسحب فريستها حتى تنقضّ عليها وتبتلعها.
وسط دوَّامة أفكاره المتشتّتة، وقلبه الذي اِعتصر من ألم فراقها، رفع رأسه ينظر لوشاحه الأحمر الذي حاكته له وقد وُضِع برفق على منضدته من حرصه عليه.
سحبه لتسقط رسالة صغيرة، فتحها باِستغراب وفوجِئ بما لم يتوقّعه؛
’’ شعرت بأنّك ستتزمّل بوشاحي، لذا أردت حماية رسالتي فيه حتّى تصلك بأمان لتقرأها بإمعان؛
عزيزي هارو، يُؤسفني إخبارك بذلك لكن.. والدتك ليست بخير أبدًا، فهي مريضة بشدة .. اِعتني بها أرجوك.
يومي. ‘‘
اِغرورقت عينا هارو بدموع الحزن والوحدة، تناول وشاحها ولفّه حول رقبته لامسًا أطرافه ليشتمّ رائحتها فيه:
– ” أحتاجكِ قربي يا هذه ..”
يُتبع..
حساب الانستغرام : @imamy03