لوحة الربيع - 9
في نهار اليوم التالي
-صوت طرق الباب-
فُتح الباب لتتداخل خصلات شعرٍ حمراء تحترق كالنار
وتتوهج عينان كالبحر الهائج تنقض قروشه على كل من يجوبه متلهفة للإنتقام.
-“عدتِ أخيرًا اذًا .. اهلًا بكِ يابنتي”.
-“شكرًا لك أيها العم لكل مابذلته في قضيتي”.
-“اُدخلي للداخل ياعزيزتي”.
دخلت لتجد نار الموقد مشتعلة والدفء يسري في أرجاء منزله الريفي البسيط، رائحة الجبن الطازج والخبز الهش منتشرة في كل الأنحاء، ابتسمت ابتسامة عريضة فقد شعرت أنها عادت لمنزلها .
-“يالحنان منزلك ياعم”.
-“ويالِ لطفكِ الشديد يابنتي، تفضلي لنتناول الإفطار معًا”
جلست على المائدة مجددًا واستقبلت خبزه الشهي وجبنه الرطب بكل تلهف ورغبة، أخذت قضمة كبيرة وتلذذت بتلك الليونة والطراوة : “آههه سلمت يداك ياعم” .
أكلت وأكلت وارتشفت كوب حليبها الدافئ، حدثته عن حياتها منذ خرجت للدنيا وحتى هذه اللحظة، طفولتها مع أبيها وأمها وذكرياتها القليلة عن تلك الأوقات؛ موت أبيها وطرد عمها وموت أمها وحياتها مع جديها ..
ثم أخذهم قسرًا لها وحبسها وضربها لسنوات، حدثته أيضًا عن البرت وكيف أتضح أنه صديق طفولتها ومربيتها ليلى التي اعتنت بها كعينيها، ولوحاتها تلك وعن صفقة بيعها وبمن تورطت بهم، وهربها لقرية اخرى تبعد مسافة يوم ونصف والتقاؤها بكازو وجده وهارو ووالدته وردة والسيد توماس وابنته كايو، وسكان القرية اللطفاء
حياتها السعيدة معهم طوال العام والنصف وحبها الأول المميز هارو.
عيناها المنطفئة تلمع شيئًا فشيئًا وهي تصفهم وتخبره عنهم حتى وصلت لهارو الذي أشرقت عيناها وهي تتحدث عنه، كان العم الخباز يستمع لها باهتمام شديد؛ تارة يغضب وتارة يضحك وأخرى يبتسم سعيدًا.
مضى الصبح بطوله يتحدثان حتى أفاقت يومي وسألته بانفعال : “لَمْ تفتح مخبزك ياعم!”.
-“لا بأس فلم تكن لي طاقة اليوم للعمل، اخذت إجازة الا يمكنني؟”. – وابتسم بلطف-
-“خفت أنني عطلتك عن عملك”.
-“لاتقلقي فلم تضريني بشيء، صحيح بخصوص قضيتك أردت الحديث معكِ عنها”.
-“هل هناك تطور؟”.
-“عليكِ الذهاب غدًا لرفعها بشكل رسمي شخصيًا، سآتي معكِ لذا لاتخافي، بعدها ستبدأ المحاكمة ولاندري كم من الوقت ستطول”.
-“وبعدها سينتهي كل شيء؟”.
-“هذا ماسيحدث يابنتي”.
ابتسمت يومي وظلت تحدق بالطاولة مفكرةً قليلًا بخطوتها الكبيرة هذه، كل ما جال بعقلها هو والداها؛ ستطمئن أخيرًا بعد الثأر لهما ..
في صباح اليوم التالي، جهزت يومي أوراقها وذهبت واثقة الخطى شامخة الرأس تقدم أوراق بلاغها وشكوتها لتبدأ أخيرًا قضية طال انتظارها ل١٣ عامًا حتى تتحقق.
أرفقت بملفها أسماء المستشفيات والأطباء اللذين عالجوها بعد الضرب والعنف بالسنوات للتحقيق معهم، اسم القرية التي كانت فيها مع جديها حتى أُخذت قسرًا لأخذ شهادة الجيران بعد وفاة الجدين بفترة قصيرة، أسماء الخدم المطرودين في تلك السنين ليشهدوا على حبسها وضربها، ترددت من إضافة خطف كازو وضربه من قبل لوي لكنها قررت إبقاءها جانبًا إن دعت الحاجة له.
اضافت أيضًا اسم الرسام لمقارنة رسمه باللوحات المخبأة في قصر قائد الجيش بعد تفتيشه، وأرفقت مكان صندوق يخبئ فيه عمها رسائله مع قائد الجيش.
وضعت كل الأدلة التي تذكرتها رفقة شكوتها التي قالت فيها عن قتل عمها لأبيها واستيلائه على ثروته وأملاكه وطرده لها ولأمها، وأخذها بعد سنتين ليتضح أنها بيعت، وحبسها وضربها وكل ذلك اشتكت عليهم فيه.
قدمتها بكل برود، حققوا معهًا وسألوها شفهيًا وورقيًا، وقعت لينتهي دورها وتبدأ قضية انتقامها أخيرًا.
بعد شهر من التحقيق ومقارنة أدلتها بالحقائق .. تبدأ المحاكمة الأولى .
مضى يوم ويومين وتبعهم أسبوع واثنين وتوالت الأيام حتى أتم الشهر، ووصل لمنزل الخباز بريد باسم يومي، لتفتح وتجد المحكمة تناديها غدًا، رتبت يومي أفكارها وجهزت ثيابها وأوراقها للغد .. فهناك فصل جديد من حياتها يبدأ.
لم تنم ليلتها من التوتر والحماس للنهاية، ظلت تفكر وتتخيل وتغرق في عالم أحلامها وخيالاتها حتى قاطعتها أشعة الشمس المتسربة وهي تدغدغ يومي لتركض حالًا تتحضر لما هو قادم.
ذهبت بكل هدوء للمحكمة ودخلت لتقابل للمرة الاولى قائد الجيش بهيبته وهالته التي تبث الخوف وبجانبه زوجته الجميلة تهف بمروحتها غير مبالية، وأخيرًا خطيبها الذي لم تعرف اسمه سوى من حادثة خطف كازو .. لوي،
ولاننسى عمها الخبيث وزوجته أيضًا واللذان حالما رأتهما يومي قطبت حاجبيها قرفًا.
بدأت يومي تخاف قليلًا، إنها واحدة ضد عائلتين كبيرتين
هل ستنتصر؟.
ضرب القاضي بمطرقته معلنًا بداية المحاكمة لتدلي يومي بما لديها وتشكو عبء السنين وآلامه وأذى عمها وزوجته وتورط عائلة قائد الجيش بمقتل أبيها رفقة عمها.
شكت وشكت وانتهى دور المُدّعي ليبدأ دور المُدَّعى عليه؛ أخذوا دور الضحية المظلومة فورًا وحدَّثوه عن إنجازات عائلاتهم وشموخهم وأصلهم وأن قول يومي ليس سوى تراهات طفلة مراهقة واسعة الخيال.
كلمة تُرمى وكلمة تُتلقى وأخرى تُرد حتى ضرب القاضي مجددًا بمطرقته وأعلن الجلسة الاخرى بعد شهر أخر .
وتعود الأيام تمر بشكل أبطأ بشكل أخطر، فلوي يتردد عليها بزيارات كثيرة في منزل الخباز مهددًا إياها وطالبًا منها التوقف والعودة، ويأتي عمها الخبيث مهددًا إياها بشدة ويعود فيضربها لترضخ ولكن بلا فائدة، حالما يخرج القادم تركض فورًا للمشفى لتسجل علامات الضرب وتاريخه بالساعة، وتضيف تهديداتهم لملفها لتزيد أدلتها .
يومًا بعد يوم وأسبوعًا بعد أسبوع حتى أتم الشهر الثاني، وتعود يومي للمحكمة بالمزيد من الإثباتات ويعود الطرف الاخر لجانب الإنكار ودور الضحية المظلومة وأنها من كانت تضرب نفسها لتشكوهم، رغم أن التشخيص أفاد بأنها ضربة مُتلقاة لا مُتعمدة.
ويعود القاضي يضرب بمطرقته معلنًا الجلسة النهائية بعد شهر من اليوم.
خرجت يومي مسرعة مخفيةً هويتها وشعرها بالقبعة وتكمل مسيرها خوفًا من أن يتعرف عليها أحد، لكنها تعثرت بقدم رجل جالسٍ على الأرضية مقابل المحكمة لينسدل شعرها الأحمر من قبعتها، وتلتف لترى من الجالس فتجد ..
صرخت يومي داخلها : “هارو!!!”.
يُتبع ..
حساب الانستغرام : @imamy03
كل عام وانتم بخير♥️