1
طرقة… طرقتان… ثلاث طرقات…
والآن، أصبحت عشر طرقات، تتوالى بلا رحمة على الباب المسكين.
أشفق عليه، على هذا الباب الذي عانى الأمرَّين منذ الصباح بسبب تلك المالكة المجنونة، الواقفة خلفه منذ نصف ساعة كاملة وكأنها تحاول كسره بقوة إصرارها.
نهضت متثاقلة، وأنا بالكاد أفتح عيني.
شكلي يثير الشفقة أكثر مما يثير الاشمئزاز! شعري غير مرتب، ملابسي مجعدة كأنها خاضت معركة وحدها، ووجهي لم يلمسه الماء منذ ليلة الأمس.
فتحت الباب، وما إن فعلت حتى اندفع صوتها كالسهم:
“ألم أقل لكِ ليلة واحدة فقط؟ تنامين وكأنه منزلكِ؟ اجمعي أغراضكِ قبل الظهر وانقلعي من هنا، أنتِ وأختكِ!”
حدَّقتُ بها للحظة، لم أكذب حين قلت إنها مجنونة، حتى أبسط كلمات اللطف معدومة في قاموسها.
منذ وصولنا انا وفيورا كالمتشردين في ساعه متأخره من الليل، نتوسل لها أن تسمح لنا بقضاء ليلة واحدة في كوخ التخزين الصغير ذاك، وهي تنظر إلينا كما لو كنا وصمة عار على أرضها.
لسبب مجهول، تكرهنا بشدة!
“حسنًا، أمهليني نصف ساعة، ولن تري وجهي مرة أخرى أبدًا.”
استدرتُ متجاهلة نظراتها المسمومة، متجهة نحو فيورا، لأجدها قد استيقظت بالفعل.
كانت تحدق حولها، وكأنها تحاول حفظ المكان في ذاكرتها.
“انهضي، وغيري ثيابك، لا وقت لدينا.”
همهمت باسمي بصوت خافت، وكأنها تريد أن تخبرني شيئًا، لكنني كنت مشغولة بارتداء ملابسي.
قميص بني، بنطال جينز أسود، بدوت كراعية بقر
أسدلتُ شعري الفحمي على كتفي، وأخذت أربط تلك الشريطة اللعينة حول رأسي—الشريطة البيج المنقطة بالبني، هدية من والدتي،
التفتُّ إليها، كانت لا تزال صامتة.
“ماذا هناك؟”
“لا شيء.”
أجابت، ثم نهضت لترتدي ملابسها هي الأخرى، بينما فضولي يكاد يقتلني لأعرف ما كانت تريد قوله.
حملنا حقائبنا أخيرًا، خرجنا من الكوخ الصغير، وقبل أن أغلق بابه نظرت إليه للحظة أخيرة.
رغم صغره وبرودته، كان مأوانا الوحيد في تلك الليلة الطويلة.
فيورا غرقت في تفاصيل السماء.
رفعت رأسي أنظر معها—الغيوم تملأ الأفق اليوم، وأوراق الأشجار البرتقالية تتساقط بهدوء، تتراقص مع نسمات الهواء الخريفي.
الأرض مبللة بسبب أمطار البارحة، تفوح منها رائحة الطين الممزوج برائحة الأوراق المبتلة، رائحة تشبه ذكريات قديمة، دافئة رغم برودتها.
“إلى أين الآن؟”
سألتني بصوت خافت، وأنا أحدق بالطريق الممتد أمامنا، كأنه مجهول ينتظر أن نخطو إليه.
لم أكن أعرف الإجابة، لكنني كنت متأكدة من شيء واحد—لن أطرق بابًا آخر من جديد.
“يبدو أنه سيكون يومًا جميلًا وهادئًا.”
قلتُ ذلك بصوت خافت، بينما أتابع مسيري بخطوات واثقة، عيناي تراقبان الورقة بين يدي—خريطة المنزل الجديد، أو بالأحرى المأوى الذي سيحتضننا لأيام طويلة، وربما أكثر.
فيورا تسير بجانبي، متذمرة كعادتها.
“كم سيستغرق وصولنا؟ لا أريد أن نعيد كرة الليلة الماضية!”
صوتها يحمل بعض القلق، وربما بعض التعب.
ليلة الأمس لم تكن سهلة، التنقل دون مأوى، البحث عن مكان يحمينا من البرد، التوسل للغرباء… لم يكن شيئًا تريد تكراره مرة أخرى.
حاولتُ حساب الوقت في ذهني، بينما عيناي تجوبان المكان.
مناظر الخريف أخاذة، الأوراق المتساقطة بلونها البرتقالي تغطي الأرصفة، والنسيم البارد يلامس وجهي بلطف.
رغم كل شيء، كان الجو يبعث على الراحة.
“سنصل قبل غروب الشمس، لا تقلقي.”
رأيتها تزفر بضيق، لكنها لم تعلّق، فقط واصلت السير بجانبي بصمت.
مرت بعض الدقائق، قبل أن نقرر سؤال أحد المارة عن الطريق.
“سيدي، هل تعرف هذا الحي؟”
الرجل المسن حدق في الورقة بين يدي، ثم في وجهي، قبل أن يهز رأسه معتذرًا:
“آسف، لست من هنا.”
شكرته بأدب، وأكملنا طريقنا، لكن لم تمر سوى لحظات حتى سمعتُ صوت فيورا الغاضب:
“ليس من هنا أيتها الحمقاء، هذا زقاق مغلق!”
نظرتُ حولي بسرعة—الشارع الذي دخلناه كان ضيقًا، بلا مخرج واضح.
المباني على الجانبين متراصة بشكل خانق، والظلال التي تلقيها تجعل المكان يبدو أكثر رعبًا مما هو عليه.
حاولتُ التظاهر بالهدوء، لكن قبل أن أنطق بكلمة، سمعت صوتها مجددًا:
“هل تريدين أن أشيّع جنازتك لوحدي أم ماذا؟ احذري وأنتِ تمشين!”
لم أستطع منع نفسي من الضحك رغم التوتر، لكن قبل أن أرد عليها، قاطعتني بصوت أكثر حدة:
“أيتها الأخت الكبرى المزيفة، ارجعي فورًا وإلا وقعتِ ضحية قطاع الطرق، يا غبية!”
رفعت حاجبي، ناظرة إليها بسخرية:
“وهل لديكِ خطة بديلة يا عبقرية؟”
لم تجب، فقط أمسكت بمعصمي وسحبتني معها عائدة إلى الطريق الرئيسي.
تنفستُ الصعداء، على الأقل لم ننتهِ في مأزق حقيقي… ليس بعد.
الرحلة لم تنتهِ بعد، لكن شيئًا يخبرني أن هذا لن يكون الخطأ الوحيد الذي سنرتكبه اليوم.
.
.
.
.
.
.
وها نحن قد وصلنا، بعد أن غابت الشمس بساعتين تقريباً، لتعم الظلمة المكان بشكلٍ يكاد يكون مرعباً.
الأرجاء كلها تغرق في الظلام، حتى المنزل الذي أمامنا أصبح يشبه مشهداً من إحدى قصص الرعب التي يتحدث عنها الجميع.
النباتات الكثيفة تملأ كل ركن من أركانه، كأنها تلتهم الجدران من كل اتجاه.
أبوابه ونوافذه قد اهترأت مع مرور الزمن، لكنها لا تزال قابلة للاستخدام.
“دعينا ندخل، ممسكين يداً بيد، وإن متنا سنموت معاً.”
قلتُ وأنا ألتفت إلى فيورا ثم أمسك بيدها، فيما كانت يداي ترتجفان بشدة، بل كان جسدي كله يرتجف من هذا الشعور الغريب الذي غمرني.
ولكن فجأة، أفلتت فيورا يدي بسرعة، وكأنها متعجلة لفتح الباب، فدخلت قبلي بينما أنا وقفت أراقب، متعجبة من شجاعة هذه الفتاة التي لا تصغرني سوى بعامين فقط.
قلبها مليئاً بالشجاعة والثقة، بينما كنت أشعر بالخوف يسيطر على نفسي.
“انتظريني!”
صرختُ بها وسارعتُ إلى الدخول وراءها بعدما سمعتُ صوت بومة يصدر من بعيد، مما جعلني أشعر بشيء من الرهبة.
دخلت المنزل وأخذتُ أتجول بعينيّ بين الجدران المظلمة.
المكان كبيراً من الداخل، ويحوي طابقين.
الطابق الأرضي يتكون من غرفتين وحمام وصالة، بينما الطابق العلوي يحتوي أيضاً على غرفتين وحمام.
كنتُ أعرف تماماً كيفية توزيع الغرف منذ اللحظة التي وطأت فيها قدمي هذا المنزل القديم.
فكر في ذهني فوراً، الطابق العلوي، الغرفة الأولى على اليسار هي غرفة أبي، بينما غرفة عمي تقع في آخر رواق الطابق الثاني.
أما الطابق الأرضي، فهو مخصص لجدي وجدتي وعمتي.
وعندما نظرتُ إلى هذه الغرف، انتابني شعور غريب بالأمان والراحة، كما لو أنني عدتُ إلى الزمن الذي كان فيه والدي يعيش هنا صغيراً، وكان المنزل يغمره الدفء العائلي.
قالت فيورا بصوت هادئ ولكنها كانت تبتسم:
“منزل غريب، أثاثه لم يُزحزح من مكانه، فقط يحتاج لبعض التنظيف ليعود جديداً.”
أومأتُ برأسي موافقة، بينما كنت أزيل الأغطية البيضاء عن الأثاث القديم، وهي بدورها كانت تتفحص الطابق العلوي.
ثم نادتني فيورا من أعلى الدرج قائلة:
“سآخذُ غرفة أبي.”
“حسناً، إذاً سآخذ أنا غرفة جدي، فلا رغبة لي في صعود الدرجات كل مرة.”
قلتها وأنا أضع بعض الصناديق على الزاوية، وأحمل الأمتعة لأضعها في غرفة جدي، التي أصبحت الآن غرفتي الجديدة.
وعندما دخلتُ الغرفة، سمعتُ صوت صرير الباب الخشبي العالي،
“سأضع له الزيت لاحقاً”
لأتأكد من أن كل شيء سيكون على ما يرام في هذا المنزل العتيق الذي أصبح مسكناً لنا الآن.
الغرفة ما تزال كما هي،
كما لو أن الزمن قد توقف هنا
كل شيء فيها يبدو ثابتًا، لا شيء قد تغيّر.
الصورة العائلية لأبي، التي كانت تزين المكتب الخشبي القديم، لا تزال هناك، تحتفظ بذكريات من الماضي البعيد.
المرآة أمامي مليئة بالغبار، وكأنها تحمل سِرّ الزمن الذي مر، تلمع قليلاً في الزوايا رغم طبقة الغبار التي تغطيها.
أرفف الكتب الخشبية فارغة تمامًا، كما لو أن الكتب التي كانت تحتوي عليها قد اختفت منذ زمن بعيد.
الستائر التي تغطي النوافذ قد أصابها التراكم الكبير للغبار، وأصبحت بحاجة ماسة للغسيل.
السرير الكبير في الزاوية، الذي يتسع لشخصين، كان يبدو ضخمًا وغير مألوف لي، لكنه كان لطيفًا بطريقة غريبة.
بالطبع، سيكون السرير كبيرًا، فهو مخصص لزوجين.
شعرت بسعادة غامرة لاختيار هذه الغرفة، انا متأكدة أنني سأشعر بالراحة هنا.
لكن فجأة، قاطعني صراخ فيورا من الطابق الثاني،
“سيليستيا! دعينا نُباشِر بتنظيف المكان!”
“حسناً!”
أجبتها بصوت مبحوح، وأنا أبتسم بشكل غير واضح بسبب الإرهاق.
استغرقنا تقريبًا ساعتين ونصف لتنظيف كل ركن في المنزل.
كانت تلك الساعات مليئة بالجهد والعمل المستمر.
بعد أن انتهينا، لم يتبقَّ لنا سوى غرفة صغيرة واحدة، أظن أنها غرفة التخزين.
كانت مغلقة بإحكام، وأثارت فضولي بشكل غريب.
جدرانها كانت مغطاة بطبقة سميكة من الغبار، كما لو أن الزمن قد نسيها تمامًا.
الباب متين، وكأنها قد فُصلت عن باقي المنزل لسبب ما، وعندما نظرتُ إلى تلك الغرفة، شعرت بشيء غريب في داخلي.
“دعينا نترك هذه الغرفة للغد”
اقترحت فيورا، وهي ترسم ابتسامة مرهقة على وجهها، عيونها تحمل آثار التعب بعد يوم طويل.
وافقتُ همهمة فقط، لأنني إذا واصلت العمل الآن، فإنني سأشعر وكأن عظامي ستتفتت من التعب.
كان هناك هاجس قوي داخلني، يدفعني للاستمرار في التفكير بما قد يكون خلف ذلك الباب المغلق.
فضولي بدأ يشتعل في داخلي، وكأن شيئًا ما يدعوني لمعرفة ما يوجد في تلك الغرفة التي تم تجاهلها لفترة طويلة.
.
.
.
.
.
أقف هنا منتظرة خلو الشارع من السيارات، بينما يظل الهواء يعكر صفو لحظتي، حيث يعبث بشعري ويغطي فمي، وتلتهم عيناي القرمزيتان كل شيء من حولي.
حملتُ بين يدي أكياسًا مليئة بالطعام وبعض المستلزمات المنزلية، ولم أنسَ إحضار الأدوات اللازمة لفتح ذلك الباب أيضًا.
لندن مدينة شاسعة تعجُّ بالحياة، خرجتُ منذ الثامنة صباحًا، ولم أعد إلا بعد العاشرة، وكأن الوقت قد تسلل من بين يدي دون أن أشعر.
كان من حسن حظي أنني وجدت المحلات التي تبيع ما أحتاجه، رغم أنها لم تكن في وسط المدينة، وإلا لكنتُ قد تهت بين شوارعها المتشابهة وصخبها الذي لا يهدأ.
“لا يزال هناك متسع من الوقت للبحث عن عمل، وعليّ أن أستغل كل لحظة.”
منذ أن وطأت قدماي أرض لندن،
لم يغادرني هذا الهاجس؛
إيجاد عملٍ يسد احتياجاتي ويؤمّن استمرار فيورا في دراستها، فهذا أكثر ما يشغل قلبي وعقلي.
الطعام، الملابس،
وتكاليف الحياة المتزايدة،
كلها مسؤوليات أثقلت كاهلي، لكن لا مجال للتراجع.
أعلم أن الأعمال الشاقة في انتظاري، لكنني مستعدة.
يا والديَّ العزيزين،
كل خطوة أخطوها هنا،
كل تعبٍ أشعر به،
وكل تحدٍّ أواجهه،
هو من أجلكما.
“آمل أن تنظرا إليَّ يومًا ما بفخر، وأن تريا فيَّ ثمرة تعبكما وحبكما.”
لمحتُ نافورة الأمنيات تتلألأ تحت ضوء الشمس،
تحيط بها جموعٌ غفيرة من السياح،
يقتربون منها بحماس، يرمون عملاتهم المعدنية وكأنها مفتاحٌ سحري لتحقيق أحلامهم.
الأطفال يركضون حولها ببراءة،
تملأ ضحكاتهم المكان،
بينما الكبار يهمسون بأمنياتهم قبل أن يودعوا الماء قطعة نقدية
وكأنها تعويذة ستغيّر مصائرهم.
لكنني لم أرَ في تلك النافورة سوى وهمٍ كبير.
تمنّيت لو يجرؤ أحدهم على تحطيمها،
أن تهوي حجارتها وتتناثر مياهها في كل الاتجاهات، عندها سأعتبره بطلًا حقيقيًا.
كيف يمكن أن تُدعى “نافورة الأمنيات”، وهي في الحقيقة ليست سوى نافورة الأكاذيب؟
لا أحد يدرك أن تلك العملات، التي تحمل أمل أصحابها وأحلامهم، لا تبقى هناك طويلًا.
في منتصف الليل، تُجمع بلا اكتراث،
تُسرق بلا تفكير، تُمحى معها أماني بريئة، وكأنها لم تكن.
أتساءل، ما الذي يدور في عقول هؤلاء الناس؟
كيف يمكنهم تصديق مثل هذا الخداع؟
هل يكفي لهم إلقاء قطعة معدنية في الماء ليشعروا بالأمل؟
أم أن الوهم أحيانًا أكثر راحة من الحقيقة؟
“سيبدأ عرض أحصنة السباق بعد ثلاث دقائق، نرجو من جميع الأشخاص المتجمعين في طريق السير أن يتراجعوا للخلف!”
تردد صدى الصوت عبر مكبرات الصوت،
فالتفتُ حولي لأرى الناس يصطفون جنبًا إلى جنب،
أعينهم متلهفة لمشاهدة الأحصنة وهي تستعرض رشاقتها وقوتها.
أدركت في تلك اللحظة أن موسم سباقات الخيول قد انطلق أخيرًا، وأن هذا العرض ليس سوى استعراضٍ تمهيدي، تقليدٌ تتبعه مدارس السباقات لإبراز مكانتها وجذب الأنظار.
لطالما تمنيت رؤية هذا المشهد بأم عيني،
أن أشعر بحوافر الخيول وهي تطرق الأرض بإيقاع ثابت،
أن أسمع صوت أنفاسها القوية، وأرى لمعان عضلاتها تحت ضوء الشمس.
كم مرة تخيلت هذا الموقف وأنا أصغي إلى نقله عبر المذياع، متخيلة الألوان الزاهية للفرسان وهم يمتطون جيادهم بكل فخر؟
كان والدي يعشق سباقات الخيول حدَّ الجنون،
يتابعها بشغف وكأنها أكثر من مجرد رياضة.
كنت أراه يترقب كل سباق بحماس، يعلق على أداء الأحصنة وكأنه خبيرٌ بها، وتسلل ولعه هذا إليَّ دون أن أشعر.
ولهذا، لم يكن مجرد شغفٍ عابر بالنسبة لي،
بل حلمٌ أردت تحقيقه.
كنت أطمح لأن أصبح مدربة رياضية،
أن أكون جزءًا من هذا العالم، أتعامل مع هذه الكائنات الرائعة، وأصنع منها أبطالًا يتألقون في ساحات السباق.
“لن أفوّت هذه الفرصة!”
تراجعتُ للخلف، متسلقةً حافة النافورة، محاوِلةً الحصول على رؤية أوضح للعرض.
كان الحشود كثيرة،
وكل شخص يتدافع ليحظى بمكان أفضل، لكنني لم أكترث.
كنت مصممة على رؤية هذا المشهد الذي لطالما تمنيت مشاهدته.
لم تمضِ سوى دقائق حتى مرَّ فوجٌ كبير من الخيول، يعتليها فرسان يرتدون أزياءهم الرسمية، مستعرضين مهاراتهم بثقةٍ وفخر.
المشهد كان ساحرًا، لكن شيئًا واحدًا لفت انتباهي أكثر من أي شيء آخر
قائد العرض.
كان مختلفًا.
لم يكن مثل البقية.
يرتدي قناعًا يخفي ملامحه، مما جعلني أشعر بالغرابة، وكأن هناك سرًا خلفه.
لكن حتى هذا لم يكن أكثر ما أثار فضولي… بل الحصان الذي يمتطيه.
حصانٌ أبيضٌ ناصع، وكأنه خرج من صفحات الماضي، نسخة طبق الأصل من الحصان الأم الذي كبرنا معه في مزرعتنا.
ذاك الحصان الذي كان رمزًا لكل شيء جميل، لكل شيء فقدته.
شعرتُ بابتسامتي تتلاشى ببطء، لتحلّ محلها ملامح غامضة، لا أحد يمكنه تفسيرها، ولا حتى أنا.
بقيتُ واقفةً، متجمدة في مكاني، لا أتجاوز الخمس دقائق، لكن الزمن بدا وكأنه توقف تمامًا.
شعرتُ بأنفاسي تثقل، وصدري يضيق، وعيناي تمتلئان بالدموع قبل أن أتمكن حتى من استيعاب الأمر.
لم يكن بوسعي الهرب من هذا الشعور، لم يكن بوسعي منع نفسي من الانجراف في دوامة الذكريات.
شبحُ الماضي يلاحقني. أينما ذهبت، بأي شيءٍ أفعله، في أبسط الأمور وأصغر التفاصيل.
كأن يدي مقيدة بسلاسل لا تُرى، كأنني محكومٌ عليّ بمواجهة أطيافٍ لا ترحل.
شبحٌ لن يتركني أبدًا… ليس حتى تحين نهاية حياتي.
“أنتِ هناك! انزلي عن تلك النافورة حالًا!”
صوتٌ حادٌ قطع شرودي فجأة.
التفتُ بسرعة لأجد عجوزًا يركض نحوي، وملامحه ممتلئة بالغضب وكأنه رأى مشاغبة صغيرة تتحدى قوانين العالم.
لم أفكر كثيرًا، قفزتُ عن النافورة على الفور، وتركتُ قدميّ تقودانني بسرعة في الشارع المزدحم، حتى وجدت ملجئي المعتاد—المكتبة التي تتوسط الطريق.
“لن يجرؤ على الدخول هنا.”
همستُ لنفسي بابتسامة ماكرة، تلاها ضحكة صغيرة هربت من شفتي.
التفتُّ حولي، وقد شعرت فجأة أنني في مكانٍ آمن، محاطةً بجدران الكتب الصامتة، التي لم تكن تحكم على أحد، ولم تكن تطلب منه سوى أن يفتح صفحاتها.
بدأت أتجول بين الأرفف، باحثةً عن كتاب يسليني، كتابٍ يبتلعني داخل صفحاته حتى أنسى العالم من حولي.
وبينما كانت يدي تمرُّ على الأغلفة، لفت انتباهي عنوانٌ مألوف—”الأمير الصغير”.
توقفتُ للحظة، وأنا أسترجع الذكريات.
هذا الكتاب…
إنه أول هدية حصلت عليها بعد نجاحي في الصف الأول.
أتذكر اللحظة التي تلقيته فيها، وأتذكر كيف كنت أُمسك به بفرح وكأنه كنز ثمين.
لكن، كم كنت صغيرة حينها! لا أكاد أتذكر القصة بوضوح، كأنها ضبابٌ بعيد في رأسي.
دون تردد، سحبتُ الكتاب من الرف وأخذته معي، أبحث عن مكانٍ هادئ للجلوس.
وبعد قليل،
لمحتُ طاولة مخفية، محاصرة من اليسار بمكتبة ضخمة، ومن اليمين بجدارٍ عتيق.
المكان مثالي… معزولًا عن الأعين، وكأنه مصممٌ لمن يحب أن يكون وحده، تمامًا مثلي.
جلستُ هناك، لألاحظ أن سطح الطاولة لم يكن كما ينبغي.
كانت مليئة بالخدوش وآثار قلم رصاص غطت كل زاوية منها.
من الواضح أن أحدهم لم يأتِ إلى هنا للقراءة، بل ليعبث!
ربما كان شخصًا مضطربًا، أو غارقًا في أفكاره لدرجة أنه لم يجد وسيلة أخرى للتنفيس سوى خدش الطاولة.
فتحتُ الكتاب، وضعته أمامي، وبدأت أقرأ.
لم يكن مجرد نصوص عادية، بل كان بوابةً إلى الماضي، إلى ذكريات والدي الذي كان يروي لي هذه القصة بصوته العميق، ذاك الصوت الذي كنت بحاجة لسماعه كل ليلة حتى أستطيع النوم.
رغم مرور السنوات، ورغم أنني قرأت القصة من قبل، إلا أنها بدت غريبة عليّ من جديد.
كأنها تحمل معاني لم أفهمها سابقًا، وكأن الكلمات نضجت معي وأصبحت تهمس لي بأسرارها.
كانت جميلة… وكانت مؤثرة بطريقة لا توصف.
غبتُ عن الواقع تمامًا، ولم أشعر بمرور الوقت حتى أفقتُ فجأة، أدركتُ أن الوقت قد تأخر.
أغلقتُ الكتاب بلطف، أعدته إلى مكانه، وضعت المال مقابل الساعات التي قضيتها هنا، ثم اندفعتُ راكضةً نحو المنزل، وكأنني أهرب من شيء لا أعرفه… أو ربما أركض خلف ذكرى أحاول اللحاق بها.
“يالغبائي! كيف لم أدرك أنني تأخرت كثيرًا؟! لا بد أن فيورا جائعة الآن!”
ركضتُ نحو المنزل، أنفاسي تتلاحق من الإرهاق، وأسرعتُ بفتح الباب.
جررتُ خطواتي المثقلة نحو المطبخ بينما أصرخ مناديةً فيورا، متوقعة أن أجدها تنتظرني بفارغ الصبر.
“فيورا! أين أنتِ؟ تعالي وساعديني في المطبخ حالًا!”
لكن لم يأتِ أي رد.
ساد المنزل صمتٌ مريب، مما جعل قلبي ينبض بقلق.
هل يُعقل أنها خرجت؟!
شعرتُ بوخزةٍ في صدري، فصعدتُ الدرج بخطوات متسارعة، أبحث عنها في كل زاوية، في كل غرفة، لكن بلا جدوى.
تبدو كأنها قد اختفت تمامًا.
ما زاد رعبي أكثر هو أن غرفة التخزين، التي كنت متأكدة من إنها مغلقه بإحكام الليلة الماضية، وجدتها الآن مفتوحة على مصراعيها.
ترددتُ للحظة، شعورٌ غير مريح بدأ يتسلل إليّ، لكنني حاولت إقناع نفسي أن فيورا ربما سبقتني لفتحها، وربما تختبئ الآن لتخيفني، كعادتها.
لكن ما إن خطوتُ داخل الغرفة حتى تجمدت في مكاني.
بقعة دماء.
لم تكن كبيرة، لكنها لم تكن صغيرة أيضًا.
كانت في منتصف الغرفة تمامًا، والنافذة المغلقة بألواح خشبية بشكل محكم جعلت الضوء يتسلل منها بصعوبة، لكنه كان كافيًا لأرى قطع الزجاج المكسورة المتناثرة على الأرض.
شعرتُ ببرودةٍ تسري في عروقي، كأن أحدهم سحب الهواء من حولي فجأه.
هل هذا حقيقي؟ أم أنني أتخيل؟!
أجبرتُ نفسي على الحركة، ابتلعتُ خوفي وركضتُ إلى كل زاوية في المنزل بحثًا عنها.
نبضات قلبي كانت تتسارع بجنون، يديّ ترتجفان، وأنفاسي أصبحت ثقيلة وكأنها تخشى أن تُصدر صوتًا يكسر هذا الصمت القاتل.
“فيورا… أين أنتِ؟ أرجوكِ، لا تلعبي معي الآن!”
لكن لا إجابة. لا أثر لها في أي مكان.
شعرتُ وكأنني عالقة في كابوس لا نهاية له.
مرَّت الساعات، وحلّ الليل، ولا تزال فيورا مفقوده
لم أستطع البقاء مكتوفة اليدين أكثر، لذا قررتُ البحث خارج المنزل، في المدينة، وربما حتى في الغابة، أعمق مما كنت أجرؤ على الدخول من قبل.
وبينما كنت أتقدم بين الأشجار، على ضوء القمر الخافت، رأيتُ أخيرًا شيئًا جعلني أتوقف في مكاني، أراقب بصمت، غير مصدقة.
فيورا.
كانت تسير نحوي ببطء، ملامحها شاحبة، لكن لم يكن عليها أي جروح واضحة.
فقط بقع دم متناثرة على ملابسها.
لم أستطع التفكير، لم أستطع الانتظار.
شددتُ خطواتي نحوها، وبمجرد أن أصبحتُ أمامها، احتضنتها بشدة، وكأنني أخشى أن تختفي من بين ذراعيّ.
شعرتُ بأنفاسي تعود إلى طبيعتها، وكأنني كنت أغرق طوال هذا الوقت، ولم أتنفس مجددًا إلا الآن.
“فيورا، دعينا ندخل الآن. استحمّي، ثم ستخبريني بكل ما حدث، بالتفصيل.”
هزّت رأسها، لكن خطواتها كانت بطيئة، وكأن هناك حملًا ثقيلًا يُرهقها، ليس جسديًا فقط، بل نفسيًا أيضًا.
هناك شيء ما، شيء جعلها بهذا الشكل.
أغلقتُ الباب خلفنا، وذهبتُ مباشرة لإعداد بعض الأطباق البسيطة، ليس فقط لإشباع جوعها، ولكن أيضًا لتشعر ببعض الدفء والراحة.
كنتُ متأكدة أنها لم تتناول شيئًا منذ الصباح.
لكن السؤال الذي لم يفارق ذهني…
ما الذي حدث لها؟ ولماذا أشعر أن هناك سرًا يخفيه هذا الليل؟
…..
” انتهى الفصل الاول”
.
.
.
.
انتهى هذا الفصل، ولكن الأحداث لم تنتهِ بعد. كانت تلك اللحظات مجرد بداية لفصل جديد في حياة الشخصيات، قد تحمل معها آمالاً أو تحديات أكبر. فما زال الطريق طويلاً، ولا يزال مصيرهم في أيدي القدر. ومع كل صفحة تنقلب، تتكشف الأسرار وتزداد الأسئلة، لكن الشيء الوحيد المؤكد هو أن كل شيء سيظل مترابطًا بطريقة ما، حتى لو بدا الفهم بعيد المنال.
~🌸~