من يشير إصبع الاتِّهام - 1
“مكتب لوغان هيلارد؟”
-“أجل”
“تم توكيل فريق 3A بقضية قتل، سنرسل المعلومات فورًا لبريدك الإلكتروني”
فدقت رنة الإغلاق.
تحرَّكت فأرته لتنقر زرَّ إغلاق صفحته، ودخل الإشعار فاستقبلته صورٌ وتقريرٌ طويل، طويلٌ جدًا، يبدأ بـ(إلى المحقق لوغان هيلارد).
استكره تصفحَّ التقرير خشية أن تزيد هالاته أو تجفَّ عينيه، مرهقًا إذ توًا ما انتهوا من قضية قبلها…، قطعًا هذه السنة ترى تزايدًا في أعداد القتلى.
قرأها خرسًا، مدققًا على التفاصيل كافة، لا تهرب من عينيه كلمة ولا جملة.
ليقطع حبل أفكاره صوت الهاتف الأرضي:
“لوغان أوَصلك الخبر؟”
-“نعم”
“جيد، تجهَّز سنغادر حالًا، يريدون نقل الجثة للمشرحة، هؤلاء لا يصبرون أبدًا”
ولسبب ما، جميع من يتصل يقطع الخط مباشرة، دون أن يسمح للوغان فرصة سؤال أو توديع، أهو مبدأ عملٍ لم يطلع عليه؟.
============+============
منزلٌ أحمر، شخَّصه لوغان جامدًا وصافرات الشرطة تربكه، تسللت الأوساخ لتركن عند كل نافذة، وتشبعت الأرض بعشبٍ لم يُجَزَّ لفترة، لكنَّ أول ما لفته هو الكراج، الذي بداخله حصانٌ خشبيٌ وبضع ألعاب.
على جانبهِ رجلٌ قصير، عريض الجبهةِ ذو أنفٍ محدَّب، ضيِّقةٌ عيناه مركزٌ لا يشتته مشتت، يُقدَّر بالثلاثين فما فوق.
“آدم المقتول، وأنثوني المفقود، صحيح؟” فدارَ لإليستر، الذي يتأمل تفاصيل المنزل مثله.
“صحيح، وأنثوني الأكبر”
“ما لكم واقفين؟ يوجد بعض الغموض”
صاح بهم أودن من الباب الأبيض الذي رسمته الكسور والتشققات، ليس الباب معمرًا إنما وقع ضحية أهلٍ اساؤوا عشرته.
كان منزلًا مؤثثًا برقّة، بدايته روّاق ضيقٌ ذو طاولة خشبية تعلوها جرَّتين أختين، وبعد أن تسير بضع خطوات يكون على مرآك غرفة معيشة فسيحةٍ ومطبخ، كُلٌّ يجتمع ليؤسس صورة مألوفة على كل قلب؛ صورة بيت أسرةٍ تلعب فيه أطياف الأحاديث والضحك، إلا أن الأطباق المتسخة، البساط المبقع، وأزيز الأضواء أخلَّ المنظر وخرَّب الصورة.
في الطابق الثاني غرفة صغيرة تلقي طابعًا كئيبًا، توجد بها أريكة زرقاء مهترئة، تمددت عليها جثة فتى وقعت قبضته مرخيةً عن كل شغفٍ وهدف، مغلقة أجفانه عن كل ما يسرُّ ويغمُّ، كنت لتظنه نائمًا لولا شحوبه.
لُفَّ رأسه بقماشة بيضاء تقي الدم من الهروب، الذي قطَّر على جفنه الأيمن كشلال منهمر، تظن اللفافة سُدِلت بلطفٍ خشية أن يؤلمه شدها.
(شحوبه شديد بالنسبة لفتىً صحيحٍ مات أمس) هو ما خطر للوغان حال رؤيته المسكين.
ثم أتبع جهرًا بعد الانتباه للمرآة:
“يوجد هاتفٌ هنا”
وكأن ما تطلب أن ينطق أودن وإليستر هو بداية حديث فحسب؛ إذ أردفا متتالين:
“وساعة مكسورة”
“وعلى يده ندبة”
البقاء في هذا المنزل المعتمة أجواءه بنى يقينًا في أمر من الأمور، فقد خرجوا وفي أيديهم شيءٌ لا ارتياب ولا شك به؛ أن هذه الأسرة تتوجس يديها خلف ظهرها اخفاءً لماضٍ أو حاضرٍ ليس ببريء.
============+============
غرفة التحقيق دافئة، والكاميرا تراقب أستريد بصمت، فدار بينها وبينه تحديق طويل حتى قطعه دخول أودن ببدلته الرسمية.
عجَّ الغرفة نورٌ أبيض، وأحاط الجو ضباب ثقيلٌ من الإمتعاض والحنق، لم يرفَّا جفني أستريد شيئًا، بل كانت حدقتيه على عيني أودن حين أكرمه بقارورة ماء.
نظر أودن إلى ساعته، فوجدها 8:55 مساءً.
رفع رأسه إلى أستريد، الذي سأله عن الساعة توًا:
-“إنها التاسعة”
“حتَّام ستبقيني محتجزًا هنا؟ ألا تملك عائلةً ترجع إليها؟”
لم يجبه أودن، لكن نظر إليه بوجه باردٍ مما زاد حيرة فيمَ إن كان له أسرة.
-“أين كنتم بين الواحدة والثانية فجرًا؟”
“كنا أنا وماريا في سهرة مع أصحابنا” ردَّ، وتضيَّق وجهه.
-“أكان الباب موصدًا؟”
“لم نقفله لكن عدنا وهو كذلك”
-“من يملك المفتاح غيركم؟”
“أنثوني”
-“هل له سجل مرضٍ نفسي؟”
“كلا، أنثوني سليمٌ تمامًا” فاعتضد أستريد يدًا بيد.
-“هل لاحظت عليه تصرفًا غير عادي؟”
“لا أريد تقييم ابني وهو ضائع قد يمسه أي مكروه، هلَّا اهتممتم أن تجدوه أولًا!”.
-“أرجو الإجابة”
ألان أستريد ظهره إلى الكرسي، وحافظ على اعتضاده ونفى بـ”أبدًا”
فتكلَّم أودن وكأنَّ قد كفاه ما حصد من مشتبهه:
-“شكرًا على استجابتك”
ثم ترك أستريد وحيدًا في الغرفة سابحًا بين أفكاره.
============+============
مرَّت الأيام عن الحادثة، ولم يزل فريق 3A مأسور حيرته، فما وجدوا إلا رؤوس الأقلام يعلِّقون آمالهم بها.
في مكتب أودن المهيّأ تمامًا لقضايا كهذه، على الحائط تشبث لوح الدبابيس؛ ذاك اللوح الخشن الذي آذته الدبابيس الملونة، وأول وأدوم من يزوره ويعوده إليستر، الذي هو والي هذه المهمة الصعبة، فيربط خيطًا بخيطٍ ويدبِّس كثيرًا من الخرائط، لا يعلم أحد أنه أضاع كمًا من الدبابيس وتسبب في تجرح أحذية صاحبيه.
وطاولة المكتب الزجاجية، التي فقدت مظهرها الأنيق بعدما نثرها لوغان بالأوراق، عادته أن يقدم التقارير عن كل شيء، فها ذا بيده تقرير المشرحة، وعينه صائبة على تقرير فحص الدم الملقى، الذي يوضح انخفاضًا مخيفًا في سكر الدم، يبدو أنه يهتم بالضحية أكثر من إيجاد قاتلها.
وأودن الذي يراجع الدلائل، علَّ عينيه قد غمضت عن أمرٍ مهم يقطع الشك باليقين، ومن شدة تمعنه بها غطت ذاكرته كل شيء؛ فإن سألته عدد كسرات الساعة سيجاوب ببديهية أنها أربع، وأن ثلاثًا منها متصلٌ بنقطة على المنتصف، وإن سألته عن آخر مكالمات الضحية سيخبرك دون تعنٍّ أنها لأستريد.
“إذًا أنثوني أعماه الغضب فشدت يده على الزناد وقتله، ظنَّ أن يمكن إنقاذه فبيأسٍ حاول إيقاف غدقةِ دمه، ثم فرَّ هاربًا بعدما تيقن موت أخيه، وهو الآن حرٌ طليقٌ يندسُّ في مكانٍ ما كالفئران، وفي صفحةٍ أخرى نرجِّح أن لأستريد سرٌ وخبيئة في أمر ابنه..”
“وأنثوني ليس في الحي غالبًا، إنما سرق سيارة أستريد ولم ترصده إلا كاميرة المنزل”
“وحتى مسحنا لما حول المنطقة لم نجد عينًا رأته ولا مرشدًا إليه!”
كانت محادثة بدأها أودن مع لوغان، تُفصح بعمق الحفرة التي وقعوا فيها، يتمنون أن يجدوا هذا المتهم قبل أن تبطش يده على أحد آخر، فمن يتكلمون عنه ما زال يحمل مسدسه معه.