من يشير إصبع الاتِّهام - 2
- المنزل
- من يشير إصبع الاتِّهام
- 2 - الأخوان آدم وتوني 2: (الجرو الذي أسرَّ أنينه)
وطئت قدم لوغان المكتب لأول مرةٍ منذ قدومه، لم يسلِّم، لم يسأل عن الأحوال، كفاه أن يطرح ملفًا عند أودن ويقول: “تم استجواب ماريا موور، أرسلت التسجيل على بريدك.”
فلم يعط أودن الملفَّ أي لمحة، وسأل:
-“وما في الملف؟”
“بيانات الأسرة.”
كانت كلمتين منه سببًا أن يهتمَّ أودن بما ما اهتمَّ به، فقبض عليه وتركه يساره، ثم فتح بريده بينما زميله على قيامه، فأشار أن يتخذ مقعدًا ويسمعانه معًا.
نقرَ مثلث البدء العملاق، فلوَّث مسامعهما صوت ماريا الحادِّ المزعج:
-“تتلبَّسه نوبات غضبٍ إن سألتِ… حينها ينقلب البيت رأسًا على عقب.”
“أتصيبه كثيرًا؟”
-“كلَّ يومٍ تقريبًا، إما يتشاجر مع أخيه أو يتعرَّضُ لأستريد، هذا الفتى لا يُحتمَل.”
“أتجرأ أستريد مرةً؟”
سُمعت قعقعة الأوراق، وتنهدٌ تتحيَّر فيه ماريا الإجابة، فطلبتها المحققة بحزم:
“نسألك الإجابة.”
-“أحيانًا يضربه أو يصفعه، لكن ليس خطيرًا دومًا…”
“أي من كلامكِ أفهم أنه المرات التي لا تندرج ضمن (دومًا) كان قادرًا على سلب حياته؟”
-“مرةً فقط!، والخطأ على عاتق أنثوني.”
“(الخطأ)؟”
“لم يكن مزاجُ أبوه طيبًا، فزاد الطينةَ بِلَّةً بأسلوبه الوقح.”
“هل بأبيه تقصدين زوجكِ أستريد؟”
-“نعم، هو المقصود.”
ثوانٍ من الصمت، لتكمل بعد نفسٍ اختطفته:
“لم يكن مزاجُ أستريد طيبًا، بل كان مغتاظًا من حاصلٍ في يومه، وبلغ أوجه من الغضب، لتأججه رسالة المدرِّس عن شيءٍ لأنثوني -اطَّلعت عليها ولم أفهم، كانت عن أمرِ جروحٍ أو كذا-، وأعتقد أن سبَّه أنثوني، فضربه، حتى أظنُّ أُغميَ عليه، لولا تدخُّل آدم أنذاك لتيقَّنت أنه مات.”
“وأين كنتي من مشاهدتك الأحداث؟”
-“حاولت إيقافه، لكن أظنُّك رأيتِ أستريد، ضخم وقوي لا يقدر عليه إنسان.”
“إن كان كذلك فكيف صدَّ آدم هذا الجدار الحديديّ؟”
-“وقف بينهما فضُربَ كذلك، لكن أقلُّ ممَ تلقَّاه أخوه.”
“أوأدى هذا الضرب (الأخف) إلى جروحٍ أو كدمات؟”
-“كدمة وجرح على معصمه أذكر.”
“الجرح الكبير؟ ذلك لا ينمُّ إلا من أداةٍ حادَّة، ما كانت الأداة؟”
-“كانت ساعته كُسِرت فخدشته.”
“لم تكن الساعة، بل أداةً حادة.”
-“توقفي عن الشكِّ بي! ظننتك تتحدثين عن جرحه الصغير، ذلك الجرح المدمَّى اقترفه أستريد حين رمى كوب قهوته.”
“على آدم ذو الخامسةَ عشر؟”
-“نعم، هو من أوقع نفسه في هذه الجلبة.”
“وما قصة الندبة أسفل عينه اليمنى؟”
-“هذه لا يدَ لأبيه فيها، بل من إحدى مشاجرات الأخوين في منتصف الليل، لم أسمع إلا ضجيجهم وحين تقفَّيت أمرهم وجدت أنثوني يعقِّم جرح أخيه.”
“يكفينا تعاونك لهذا الحدَّ، معلوماتٌ قيَّمة من طرفكِ سيَّدةُ موور.”
في تفكيرٍ متخبط ببعضه، غير واصلٍ لما يقطع دابر الشكِّ باليقين، اعتدل أودن وعقد حاجبيه، في وضعية المفكِّر المحلل:
-“ذلك يتضادُّ مع فرضيتنا عن أنثوني، بل ويدحضها.”
“قد تكون نظرتنا أن منزلهم كئيبٌ ذو طابعٍ غير مريحٍ حقيقة، وأن للأسرة علاقات مضطربة وعنفٌ جارٍ بينهم حقيقة كذلك، لكن أن يراعي الأخوان كلًّا الآخر ويكشرون أنيابهم دفاعًا عن بعضٍ أمرٌ عجاب.”
-“هو كذلك، وينفي حقيقة أن يقتل أنثوني أخيه الذي يحبه، ويغلغل فرضية كون أستريد أو ماريا أحد القتلة.”
“وكيف؟! إن شوهدا وقت الجريمة بعيدين تمام البعد.”
-“يجب أن نستدعي أحد هؤلاء الأصحاب، لينفضوا الغبار عن هذا الدليل الذي قد يتخلله الغش، أغير ممكن الانقطاعُ عنهم لنصف ساعة؟”
ليعقِّبَ ما يؤجج صحَّة افتراضه:
-“أستريد كذب في سجلِّ أنثوني النفسي، وجدته لازم مواعيدًا مع الطبيب أفونسو أندريه لأربعة أشهر، فانقطع عنه.”
“لما الكذب وهو ليس لصالحه؟”
-“خطرًا وحذرًا، ما يدريك لو اقترف طامةً فكان تحقيقٌ نفسيٌ مع ابنه يكشف الغمام عنه؟”
“ذلك يبدو خياليًا-” وقبل أن تؤتى له فرصة الإكمال قاطعه:
-“أستريد أُتهم بكثير من المشاجرات، والاساءات، بحوزته مسدس لا قانوني، هو الذي سرقه أنثوني.”
“هذا محيرٌ بجد..، سأطلب المطعم الذي تقابلوا فيه أن أراجع الكاميرات.”
-“لا فائدة ترجى فطاولتهم على بقعة عمياء.”
“كان أستريد على جهة مكشوفة للكاميرة.”
-“جيد.”
============+============
بعد هجران لوغان له، ظلَّ على مكتبه عابسٍ غير ذي مظهر ودود، كله من التركيز الشديد فيمَ قرأه، يتمنَّى لو كانت زوجته أمامه ليأخذ برأيها.
أعاد قراءة الكلمات مرة أخرى، بتمعنٍ لا يوجد في الأرض أشد منه، حتى اقترب من نطقها جهرًا:
(تاريخ 17 يونيو 2006)
تبنِّي أستريد هاري موور لأنثوني إدوارد وايزلي.
(تاريخ 18 يونيو 2006)
تغيير اسم أنثوني إدوارد وايزلي إلى أنثوني أستريد موور.
هو يعلم مسبقًا أن أستريد زوجُ أم أنثوني، وأنه مسجلٌ قانونيًا على اسم زوج أمه لا والده، إلا أنه حسبما اكتشف لم يكن بين هذين ودٌ أو محبة أبوية تقتضي أستريد أن يتبنَّاه، بل عنفٌ وضربٌ وشتمٌ وكرهٌ صريح.
والأغرب والأعجب هو المقطع الذي اقتلعه لوغان من كاميرة آل موور، جالسين في صالة منزلهم التي زارها إلا أنه صباحٌ مفعم بالحيوية والبساط نظيف تمامًا.
فيه بشاشةُ أستريد غير المعهودة استحلَّت:
“امتدح الاستاذ قراءتك بأنها سليمة تمامًا، فهيَّا أريد اختبارك
في ورقةٍ ما.”
فخورًا بأنثوني الذي بادله ابتسامة إنجازه.
فيداهم صوت ماريا من خلف الكاميرة، تسلِّم ابنها الورقة:
“ها هي، فيها كلماتٌ صعبة فقابلها بمهارة!”
أقام أنثوني ظهره في عجب، فهذان والديه يثقان بعبقريَّته الفذة.
ولحظ عن يمينه أخيه ذو الستة أعوام، كأنه يعلمه أن لن تصل مقامي، في كِبَرِ طفلٍ على طفل.
فأندفقت الكلمات من فاهه بكل تباهٍ:
“إلى أستريد هاري موور،
تم قبول طلبك في تبني أنثوني إدوارد وايزلي، بعد التواصل مع آل وايزلي”
فأصابت أنثوني نقزة عصفور، واحتضن أستريد وراح الآخر يربت ضاحكًا: “لم تقرأ الباقي! سينسبون اسمك إليَّ!”، إلا أن سعادة الابن كانت حاجزًا عمَّ حوله.
أغلق الملفَّ الأصفر بروِّية، وأطفأ الجهاز بهدوء، ثم اتصل بالخدمة طلبًا لأمريكانو حارة، رجاء أن تحسِّن من مزاجه وتعينه بإيجاد تفسير.
============+============
“(الطبيب. أفونسو أندريه)
خبرة عشرين سنة
شهادات متعددة في مجال الطب النفسي”
كان اسمه على اللافتة الذهبية لامعًا بخطٍ يناسب طابع الغرفة، غرفة مكتبه الأنيق المعبِّرة بمثاليةٍ عن صورة رجلٍ يتسابق إلى ستينات عمره، ذو نافذة واسعةٍ أمدَّت طريقًا لترحِّب الشمسُ الحبيبة على الطبيب ومرضاه، ويتبختر مرج الحديقة أمام ناظر الحاضرين، فلا تُغلقُ ستائرها البيضاءُ أبدًا، وترى الأريكة العنابيّةَ تمرح مع الملصقات الكثيرة عليها، تُكِنُّ قصصًا لكثيرٍ من الأطفال الذين أهداهم تلك الملصقات فجمَّلوا الأثاث بها، ولسبب ما؛ لا ينفد مخزون الطبيب من الملصقات.
همَّ يقرأ الجريدة التي تكاد تصدق أن يدًا تمسكها، ويقلِّب فيها بكل سكينة منتظرًا زائرًا قد يتراوح عمره بين السابعة والسبعين، بينما ترمقه اللوحة أمامه التي كُتِبَ عليها: “كل ما يقال يُحمل على مبدأ السرِّ التام بين الطبيب والمريض” ووجه سعيدٍ أسفلها.
تصطدم قدمه بالسيارات أسفله التي نساها بعض الأولاد، وانقطع سبيل وصالهم إما لموتهم أو منعه عنهم.
“أُدخُل” ووضع الجريدة جانبًا احترامًا لزائره.
“سَعدت بمقابلتك طبيب أندريه.”
-“أأنت المحقق الذي سأل عني؟”
“معك المحقق أودن نوبل.”
وسرى حديثهم مشبعًا بالعبارات السطحية لدقائق ثقيلة، حتى وصلوا للنقطة الأساسية:
“أنثوني موور فُقِدَ بينما وجِدَ أخوه مقتولًا.”
-“أنثوني! يا لها من أخبار مفجعة!” وتشوشت تعابيره بالحزن والمفاجأة.
“أظنك استنتجت قدومي خصيصًا لمعرفة شيءٍ عن هذا سيد أندريه، إن الأمر جديٌ واسألك المعاونة.”
-“لن أكشف عن أنثوني شيئًا، تعهدني ألا تهرب من لساني كلمةً عمّا دار بيننا حتى الموت، فكل ما يقال يُحمل على مبدأ السر التام بين الطبيب والمريض.” وحرَّك يديه في الهواء نفيًا لأي نقاش.
“طبيب أندريه! نحتاج أبسط معلومة لنكشف مكان أنثوني، لنحافظ على سلامة أنثوني.”
ليَّ الطبيب سبابته وأنزل نظارته، وقال:
-“أدر رأسك يا محقق، أترى تلك الأريكة؟ هناك حيث استلقى فجلست على رأسه، هناك حيث أخبرني أني من يثق به، وهناك حيث اغرورقت عيناه يطلبني ألا أعلم أحدًا إلا على جثته، أتتوقع أن أخلف وعدًا أبرمته مع أعز مرضاي؟”
“إن كان الأمر محملًا على سلامته فأتوقع وبشدة! يا طبيب إن الأمر في منتهى الخطورة، قد يكون أنثوني على شفا الموت، قد يكون في حالة يحتاجنا بها أشد احتياج، لا يمكن أن تضرب هذه الحقائق عرض الحائط.”
-“لن اكبَّ من أسرار أنثوني شيئًا، أنتم الشرطة لا تفهمون هذا المبدأ؛ مبدأ الثقة المتبادلة، فأنتم لا يأتيكم طفل ولا مراهق ولا عجوز يشكو إليكم غصصهم وقصصهم، وثوقًا أن كل دموعهم ستطوى في قلوبكم وتدَّقُ في بواطنكم دون أن يطَّلع عليها أحد، هذا عملي وأنا، لن تسلب مني شعرة عن أيٍ من مرضاي أو أنثوني.”
ليس أودن شرطيًا ولم يزاول المهنة قط، لكن سكت احترامًا للطبيب.
“إذًا على الأقل هل ترى لنا مكانًا نجده فيه؟” سأل أودن وعيناه على ألعاب الأطفال المبعثرة.
-“كلا، لكن إن أردتهم أن تجوبوا في شخصيته فاسألوا من حوله، فله طبعٌ من كشف أسراره بيده.”
“هذه نصيحةٌ قيمةٌ نتشبث بها…”
اومأ الطبيب.
قبل أن يخفى جسد أودن في الرواق صدح قائلًا:
“سؤالٌ أخير يا طبيب؛ هل ترى في أنثوني قاتلًا؟”
-“بل أرى محتاجًا محتارًا.”
“هل ستتستر إن اعترف بميوله في القتل؟”
-“أرفض إدلاء رأيي.”
“شكرًا عمومًا.”
وخطى أودن الردهة محملًا بخليط من فضولٍ عن خفايا قضيته وعجز حلِّها، متساويًا عنده مرارةُ الجهل وحلاوة التقدُّم، هكذا كان دومًا؛ معلَّقًا.