وتين الرّوح - ch-1
تنهمر دموعي وسط خيبات الأمل.. فلما تناجي عمق الأحزان وكان لك شر إنسان؟
انتصفت الشّمس كبد السّماء فانسابت منها خيوطها الملتهبة وتوزّعت في أرجاء الطّبيعة الفاتنة ، بعيدا عن صخب المدينة وضغوطاتها .. وفي قرية ريفيّة بسيطة قبع خلفها بأمتار منزل ضخم حوى طابقين ، تحيطه مساحة خضراء واسعة من جوانبه الأربع وفي جانبه الأيمن بالضّبط استقرّت غابة ضخمة لاتُرى نهايتها ..
وهنا حيث تكمن قصّتنا .. داخل هذا المنزل الرّاقي ، تحديدا في تلك الغرفة الواسعة البهيّة ذو الشّرفة المطلّة على الغابة ، كان يجلس على كرسي مكتبه الّذي امتلأ آنفا بالكتب والأوراق ، يرتدي نظّارته وهو يدقّق ويكتب بانسجام تامّ ، يراجع مافاته تحضيرا للامتحانات الشّهرية . وبينما هو كان منغمسا في دراسته تهادى إلى مسمعه صوت إحدى السيّدات والّتي قد ميّز أنّها كبيرة الخدم بسبب صوتها الغليظ الخشن
«سيّد غيث الغذاء جاهز ، السيّد والسيّدة ينتظرانك»
من وراء الباب هي نادت عليه برسميّة بعدما طرقت عليه ثمّ ولّت ذاهبة فقد انتهت مهمّتها هنا، همهم غيث بخفوت فوضع الأوراق من يده ونزع نظّارته ثمّ نهض..
مشى إلى خزانة ملابسه بقامته الطّويلة وبخطواته المتّزنة ، يضع إحدى يديه في جيب سرواله الدّاكن بينما الأخرى فقد تموضعت فوق فروة رأسه ، يفركها لهنيهة ويشدّ بأنامله الحنطيّة خصيلات شعره الكثيفة البنّيّة تارة وهو يقف بجمود أمام المرآة الصّغيرة المعلّقة على باب خزانته ، يتفحّص بمقلتيه العشبيّة تلك الكدمة الزّرقاء الواضحة على خدّه الأيمن والّتي ظهرت حديثا..
«حسنا.. إنًها تؤلم بعض الشّيء.. ومزعجة كذلك» همس بخفوت ، وبعينيه اللّتان بدتا خاوية تأمًلها قبل أن يخرج مرهما لديه ويشرع بدهنها وأخيرا وضع ضمادة صغيرة عليها يخفيها ..
بعد ذلك كان قد ارتدى ملابس أنيقة بدلا من ملابس نومه ثمّ نزل من جناحه في الطّابق العلوي إلى غرفة الطّعام في الطّابق الأرضي حيث يتواجد عمّه وزوجته
ولمّا اقترب من باب الغرفة الكبير توقّف مكانه ، ثمّ أخذ نفسا عميقا وبدأ يفرك صدره بسرعة علّ ضربات قلبه الهلع تهدأ قليلا .. زفّر الهواء مرّة أخيرة وتمتم بينه وبين نفسه بصوت خافت يكاد يُسمع «لن يفعل شيئا ياغيث.. اهدأ»
وهكذا بعد دقيقتين تقريبا حرّك قدميه مزيحا الباب من أمامه فقابلته تلك المائدة الطّويلة وعمّه وزوجته..
«السّلام عليكم» أردف بصوت هادىء خارجيّا حال دخوله
«وعليكم السلام» ردّ عليه الأكبر بنفس هدوئه ولكنّ عكسه هو الّذي يكاد داخله يحترق فقد رسم عمّه ابتسامة مزيّفة وخبيثة إن وصفتها ماجعل أوصاله ترتعد ،
وطبعا.. لم يسمع سوى صوت عمّه الأربعيني ذو الوجه البارد وابتسامته الباردة والّذي كان يجلس على رأس المائدة بينما زوجته والّتي لم تلق له بالا نظرت له بدنيوية قبل أن تعود لأكلها .
لم يعرها اهتماما هو الآخر وذهب جالسا في مقعده المقابل لها وعلى يسار عمه ، يتلبّس قناع الهادىء والبارد رغم كونه أكثر من يشعر بالخوف هنا.. خاصّة بجانبهما ؛ ثمّ سرعان ماباشر بالأكل والذي لم يكن سوى حساء خضر وسلطة عكس الجالسان معه..
دقائق ليبادر عمه «عندما تنتهي تعال إلى مكتبي» ونهض مغادرا ، فهمهم الأصغر بصوت خافت «حاضر» ..كان سيكمل غذاءه لولا صوت زوجة عمه سنا تقاطعه بلكنة غاضبة «فقط أخبرني كيف لك الوجه لتجلس معنا بعدما فعلته؟» ولم تترك له مجالا للرّد بل نهضت عنه تهمّ بالمغادرة وأثناءها أطلقت على مسامعه بكل كره وحقد تحملهما اتّجاهه «مجرد لقيط» ..
فرغت القاعة فبقي وحده يحدق شاردا في الفراغ وكلمتها الأخيرة تدور في عقله. لقيط؟ لما هذه الكلمة بالذّات؟ ألا يملك والدين بالفعل؟ أوَ ليس ابن شرعيّ حقّا؟ أو أنّ عمّه يكذب عليه؟.. دائما نفس الشّيء يلقى على مسامعه ودوما ماتغزو هذه الأفكار عقله فتغيب عنه واقعه.. واقعه المرير الّذي يشمئزّ منه .
دق الباب وانتظر وحين سمع الرد كرّر نفس حركته قبل دخوله إلى قاعة الطّعام ، هدّأ نفسه رويدا ولكي لايطيل على عمّه فينفذ صبر هذا الأخير ويصبح في خبر كان.
دخل فأصبح يجول بعينيه المكتب الضخم باحثا عن عمّه ، والذي وجده جالسا على إحدى الأرائك الجلدية..تأمّله للحظات طويلة وهو يغوص في بحر أفكاره السّوداوية الّتي تلعب بعقله ، ولم يقطع تأمّله له سواه والذي خاطبه ببرود «مالَك تقف هناك تعال اجلس»
بلع ريقه بصعوبة وهو يشجّع نفسه ويطمئنها ثمّ بدأ يتقدم بخطوات بطيئة ومع كل خطوة يشعر أن قلبه سيخرج من مكانه وأن أنفاسه بدأت تختفي رويدا رويدا. ولكن هذا مايشعر به داخله فحسب لأن خارجه هادىء وتعابير باردة اعتلت محياه ، وصل أخيرا وجلس منصاعا لأوامر الأكبر منه..
انتظر للحظات قليلة قبل أن يبادر عمه «الأيّام تمر بسرعة وأنت تكبر بسرعة أيضا مجاريا لها.. خمسة عشر سنة وأنت معي.. نضجت وكبرت في قصري ولكن للأسف لم أكن وراء ذلك..» سكت لهنيهة وغيث مرتاب من كلامه المفاجىء والّذي لم يرتح له ..
كان يشدّ على كلتا يديه بقوة حابسا رجفته وتوتره من عمّه والذي لم يفته ذلك ، «كنت عمّا قاسيا ولازلت..» أردف بنبرة خافتة وهو ينظر لقبضة يدي غيث المشدودتين ثمّ رفع رأسه واضعا عينيه في عيني غيث و ابتسم ابتسامة مريبة زيّنت ثغره قائلا «مرت ثمان سنوات منذ نضجت حقا.. ثمان سنوات كنت حبيسا هنا وثمان سنوات لم تتجرّأ وتخبر أحدا..» ، اقترب أكثر من الأصغر يلمس بأنامله تلك الضّمادة المستقرّة على خدّه ثمّ قام بنزعها يفاجىء المعنيّ وهمّ يمرّر يده على تلك الكدمة الزّرقاء متابعا بابتسامته الّتي أرعبت أوصاله وزعزعت كيانه «ستّة عشرة سنة وأنت في كنفي تحت رعايتي.. أويتك واعتنيت بك.. عالجتك وراقبت مرضك.. كان كلّ شيء سيمرّ على خير لو لم تفعل مافعلته وقتها ، لو لم يقع ذلك الحادث لربّما لم أكن لأقيّد جناحيك وأحرمهما من الرّفرفة بحريّة !»
تجمّد غيث مكانه وكلام عمّه أضحى كتهويدة مرعبة تصمّ آذانه ، وللحظات فقط عادت به ذاكرته لذلك اليوم المشؤوم.. اليوم الّذي غيّر حياته تدريجيّا وحوّلها من سيّئة إلى أسوء ؛ ولكنّه حاول بقدر الإمكان تمالك نفسه وأجبر عقله أن لايضعف أمامه هو، أمام عمّه عديم الرّحمة..
استجمع نفسه والرّجفة أبت أن تفارقه ثمّ خاطبه بصوت خافت مرتعد ولم يفت عمه ارتجافه وهو يحاول بجهد الحديث معه «ما..مناسبة هذا الكلام؟» اعتدل عمّه في جلسته وعاد إلى بروده داثرا تلك الإبتسامة المرعبة «كما تعلم فالإتّفاق بيني ووالدك قد وصل إلى مرحلته الأخيرة ، لذا فإن مدّة بقائك معنا قد انتهت بالفعل وحان الوقت لتعود إلى ديارك وأهلك.. سأطلق سراحك وأعيد حرّيتك إليك ، ومن سنوات مكوثك معي فأنت أكثر من يعلم ما سأفعله إن فكرت لثانية أن تخبرهم بما حدث لك هنا.. وإن فعلت سهوا فانسى أنّ لديك شقيقين وأنت تعلم سوء ما أفعله» ثمّ نهض ولم يتعب نفسه بإلقاء نظره عليه وختم كلامه قائلا «جهّز نفسك لديك أسبوع في يدك»
وخرج تاركا إيّاه يتخبط داخل عقله بعدما ألقى عليه وابلا من الصّدمات ، تاركا مشاعره تجتاح وخوفه يتأجّج.. تاركا إيّاه يسبح في دوامة مظلمة لابداية و لانهاية لها والأفكار تتزاحم عليه وتبتلعه… إنّه تدريجيّا يصبح أشلاءً متفتّتة … ولكن ربّما قد تكون هذه بداية الفرج.. من يعلم , فقطرة الغيث هذه قد تصبح قطرات بعدها.. ربّما حينها ستشفى روحه..