الكتاب المسحور - 6
°|•——————–•|°
“أمتأكدةٌ أن كل شيء معك؟” سأل توم.
“نعم! لآخر مرة نعم! معي كتابُ التدريب على العنصر و معي الزي الذي خِطْته بنفسك لتناسب ذوق النبلاء في المملكة و أتذكر دوري تمامًا! أيمكننا الذهاب الآن؟”
وقفت أمام بوابة المملكة أوضحُ لتوم أن بإمكانه الوثوق بنا منذ ساعات، حصاني بجانبي و إيزرا كذلك.
“و ماذا عن-”
“إيزرا جاهزٌ أيضًا.”
أومأ توم واعتدل منكباه، يقفُ كالقائد الذي هو عليه ناسيًا نوبة قلقه قبل ثوانٍ قليلة “حسنًا إذًا— إحرصوا على العودة أحياء قبل كل شيء. نحن نعتمد عليكم.”
أومأت لتوم و ركبتُ حصاني، أنتظر إيزرا ليستعد و يركب حصانه. كان من المفترض أن أركز على خفايا هذه الأرض و أعلم كل ماتحتويه، لكني لم أجد في الوقت مجالًا. إحتفلتُ عند تحريكِ لقطرات الماء البسيطة تلك لكنها لم تكن كل شيء، فكلما زادت الكمية أو المسافة وُضعتُ في ضغطٍ أكبر من سابقه، و إثر الضغط أتى الإرهاق؛ فضاعت كل فرصة للسؤال عمَّا سكن في بالي. مازلتُ لا أعرف من ذاك الذي أرسل البومة و ماعلاقته بما يحدث، أو ماسبَّبَه والد ألفيلدا رغم سمعته الطيبة بين شعبه، أو الأمير و ماحدث بينه و بين الفتاة التي خدعته..
ربما فات الأوان للسؤال هنا لكن ستكون وجهتي الحالية بذات الأهمية إن استطعتُ كسب حاكم المملكة بصفي.
رفعتُ رأسي لأتفاجأ برؤية ألفيلدا، عيناها تراقبنا من غرفتها خلف النافذة الطويلة، وجهها ثابت كالحجر لتُخفِ أي شعور أمام حراسها. إنطلقتُ و إيزرا من البوابة و نحو الغابة الخريفية الواقعة أمامنا حتى خرجنا حدود المملكة، و أضْحى عقلي مشغولٌ على أهلها— خططنا الدفاعية و الهجومية كلها محفورة في أذهان الأعداء الآن، إن أرسلهم الملك فقد انتهت الحرب قبل بدايتها لمملكةٍ من ثلاثة، و عندها لا أسوء من حال الجيوش إلا قادتهم، سيُضَحُّون بحياتهم لشرفهم و شعبهم دون تردد أو خوف. إن لم يكن قد أرسل الملك جيشهُ بَعد فعليَّ إيجاد طريقة سريعة لمنعه—.
“أنتي بخير؟” سأل إيزرا من فوق حصانه “تبدين متوترة.”
“نوعًا ما، علينا الإسراع قليلًا ألا تظن؟” لم أنتظر إجابةً قبل إسراعي، متجاهلةً إيزرا الذي شعرتُ بعينيه تتربصني بين كل حين. لم أشعر بالوقت الذي مر مع أفكاري حتى نظرتُ حولي و رأيتُ الأشجار و الطيور تعلوا رؤوسنا، أجلستُ سارحة طيلة تلك المدة؟
جاهدتُ لِئلَّا أفكر كثيرًا بالساكنين خلفنا؛ فلن يحدث شيء و لن يستفيد أحدٌ من سيرنا البطيء لأهل الماء، أليس كذلك؟ لكني لن أستطيع الإسترخاء و التركيز فيما أنا فيه حتى أطمئن أن أصدقائي هناك سالمون.. لم أعرف أني سرحتُ مجددًا حتى أكَّد إيزرا خلفي، يسرع بحصانه حتى أتى لجانبي “لن يحدث لهم شيء.”
“… من لن يحدث لهم شيء؟”
تجاهلني، و أكمل و هو ينظرُ لكل مكان في الغابة مستكشفًا “جيوشنا تستمر بالإستعداد لأي هجوم مفاجئ منذ أن تفرقت الممالك.”
عبست ملامحي و التفتُّ أقابل عينا الفتى مباشرة “كنت موجودًا وقتها؟”
“أليسَ جليًّا..؟ عندي ستةٌ و عشرون خريفًا الآن و أنا أعمل في القلعة منذ الصغر.”
“اه..” هل يمكن أن يعلم ماحدث إذًا؟ لا أستطيع رفع آمالي فلا شيء لدى الشاب في حياة النبلاء المعقدة هذه لكن.. لامانع من المحاولة، أليس كذلك؟ جمعتُ شتات نفسي و سألت “أتعرف ما حدث إذًا؟ بين الممالك الثلاثة؟”
نظر إيزرا نحوي، ثم لحصانه، وجلس يفكر بعمق قبل أن يجيب مترددًا “لا أتذكر ماحدث بالتفصيل لكني أتذكر رجلًا ذو وشمٍ على شكل ميزان في يده، على إحدى كفَّتي الميزان فراولة؟ إن تذكرت جيدًا..” عبس إيزرا سارحًا في ذكراه، متعجبٌ من وجود وشمٍ كهذا على أحد، بينما جذبني وجود الوشوم نفسها منذ العصور القديمة..
أكمل الشاب كلامه مشتتًا بذكرياته “أذكر كذلك دخول الرجل لمقابلة الإخوة الثلاثة بعد وفاة غرانت. كان يحمل أوراقًا كثيرة عندها، و بعد خروجه بمدة تفكك الإخوة، كلٌ مِنهم مُستقرٌ في موقعٍ مجاور للعاصمة حيث بدأ الأمر… هذا ما أعرفه.”
حسنًا إذًا، للرجل الغريب رسمٌ على يده، لكن لا شيء آخر مهم.. إلا إن احتسبتُ أمر العاصمة لكنه شيءٌ مرجَّح؛ فتعلقُ تفككهم بالورث مؤكد… أومأتُ برأسي و أسرعت بحصاني عندما تكلم إيزرا مجددًا “مهلًا تذكرت شيئًا!”
عدت أنظر إليه بحماس “ماذا!؟”
“قد لا يكون للأمر علاقة لكني أتذكر وجود رجل دائمًا ما يتواجد داخل القلعة مع الإخوة الثلاثة. كان قريبًا جدًا منهم كما لو أنه يعرفهم جيدًا، أذكر أني تكلمت معه مرة واحدة قبل ستة عشر سنة تقريبًا و كانت تلك آخر مرة رأيته فيها؛ فقد إختفى كما لو أنه وهم بعد آخر يوم تكلمت معه به.”
صديق؟ أيعقل أن تكون له يدٌ بما حصل؟ لكن لمَ ق-
‘اجمعي صفحات الفصل المفقود’
الفصل المفقود… تمتمتُ عاليًا “أكان هذا قصدهم؟”
“هُم؟”
“هاه؟ لا لا شيء..”
«|————————|»
منظور إيزرا•°
بدأت الذكريات تعود بسرعة؛ رجل طويل بشعر أبيض قصير يضحك مع الأميرة ألفيلدا، ينظر إلي بين كل حين و آخر، لم أعلم مالأمرُ معه فتجاهلته.
ومضة ذكريات أخرى أتت، كنت في العاشرة من عمري، أنظف الإسطبل عندما أتى إلي مُبتسمًا “أحُمِّلتَ المسؤولية من هذا العمر؟ أين والدك؟”
وقفتُ خائفًا، وجهي موجه للأرض و جسدي رافضٌ للحركة، شيء فيه يقول أنه من عائلة ملكية رغم إنكار والداي “أنا أعمل وحدي.” أجبته “فليس مِن أحد غيري يجمع ما يكفي للعيش.”
“أحقًا ذلك؟” لم أحتاج النظر نحوه كي ألاحظ إشتداد ابتسامته و بشاشة صوته موضحًا أنه يعاملني كطفل، يثني ركبه حتى وصل لطولي “أتعلم يا غُلام؟ أنت أقوى مما تبدو عليه، أستطيع الحكم من هالتك.”
رفعت رأسي متفاجئًا “هالة؟”
“أتعرف كيف يقولون لا تَحكُم على الكتاب من غلافه؟” أومأتُ مستمعًا “الهالة تساعدك على معرفة محتوى من حولك بدلًا من غلافهم.”
شعرتُ بأذرعي تقشعر إثرَ معلومةٍ كهذه؛ فهي إكتشافٌ عظيم لكل من يشكُّ بكل من يقف حوله! شعرتُ بعيناي تلمعُ عندما سألته “كيف تعرف هالة أحد؟”
ضحك قليلًا “ستعرف عندما تكبر، فقط أبقي على هالتك كما هي إن أمكنك، حسنًا؟ فقد نحتاجها يومًا ما، أنا و المختارة.”
“مختارة؟” مالذي يتحدث عنه هذا السيد؟
“إن أخبرتك فعليك إبقاء الأمر سرًا بيننا حسنًا؟” أومأت ليكمل، فثخَّن صوته و تلاعب بنبرته لتبدوا كحكايةٍ عريقة، محركًا يديه مع كلامه “تقول إحدى النبوءات عن وجود فتاة تأتي من مكانٍ عجيب، عالمٍ غريب، عالمٍ مختلفٍ بكُلِّ ما فيه! إختارها شخص ساعدنا في أظلم أوقاتنا، لتُعيد السلام لموطننا.”
“لكننا في سلام الآن…؟” رفعت حاجبًا في وجهه.
أكمل الرجل بأسلوب القصص الذي اعتمده، يداه راخيةٌ هذه المرة “لانعرف ما يختبئ في المستقبل، أليس كذلك يا غُلام؟!” بدا كما لو أن الرجل يعرف شيئًا، لكني لم أفهم وقتها، و لم أُرِد الفهم حقًا،فتجاهلتُ إحساسي مجددًا.
“و ماعلاقة ذلك بي؟”
ضحكَ الرجل، عائدًا لصوته العادي “ألست غلامًا نبيهًا؟ لم تتوقف الأسطورة هنا فحسب، فكما ترى ستحتاج هذه الفتاة لكل مساعدة ممكنة في رحلتها، و هنا سيكمن دورك.”
“و كيف أعرف أنها هي؟”
“ستعلم عندما يأتي الوقت.” قال الرجل، ثم نهض ماشيًا، و لم أرهُ بعدها…
أظنني فهمته الآن— نظرت لإيف، الفتاة الغارقة بالتفكير أمامي. هل يمكن أن تكون هي؟ فلم يهتم أحد قط بحقيقة الأمر غيرها—. فتحت فمي لأسألها قبل أن تقاطعني “على أي حال! لم تذهب لأي غابة من قبل أليس كذلك-”
«|——————————–|»
منظور إيف•°
“-؟” كان علي السؤال قبله. لاحظت تركيزه علي و علمت أنه كان يشتبه بشيء. لا أعلم ما كان، لكني لم أكنُ بمزاجٍ يسمحُ للنقاش عن أصلِ مجيئي هنا؛ فدائمًا ماتبدأ صراعاتٌ سخيفة عن هذه الأمور في القصص.
“… كيف عرفتِ؟” عاد تركيزه للطريق أمامه، رأسه يميل يمينًا و شمالًا بين الاشجار بين كل حين و آخر.
ضحكتُ بتكلف خفيف “الأمر واضح، فقد كنت تمشي و تنظر للأنحاء بقلق منذ مدة.”
“أحقًا ذلك؟” أخفض إيزرا رأسه لرأس حصانه عابسًا، ثم عائدًا للبحث في الأرجاء “لم يسبق لي دخولها..”
“رغم وجودها أمام المملكة تمامًا؟ لماذا؟”
حكَّ إيزرا رقبته “سمعت عدة قصص عنها؛ أحدها عن وجود ذئب يستطيع التنكر على شكل إمرأة عجوز، تستدرجك لجحرها لتأكلك، و الباقي ليس أفضل منها..” عضضت على شفتي كاتمةً ضحكتي. خدعوه بذات الرداء الأحمر؟
نظر إلي عندها بغضب، ثم هز رأسه و أسرع بحصانه. لحقته بنفس السرعة “مهلًا! أعلم الأمر ليس مضحكًا لقد تم خداعك منذ الصغر، لكن حقًا؟ ذئب؟”
“للأطفال مخيلةٌ قوية.”
عذره زادني ضحكًا عليه فحسب “أتتحجّجُ بطفولتك و أنت في منتصف العشرين؟”
أدار رأسه بعيدًا عني “… لا يمكن إنهاء سنين من الخوف خلال ساعات—.”
أجبرتُ نفسي على إيقاف ضحكي أتجنبُ إغضابه، و سألته “مارأيك بها إذًا؟ الآن بما أنك داخلها.”
“لا بأس بها.. حتى الآن—.” أكملنا المشي في صمت مريح، عدة ساعات حتى برز الشفق و لاحظت انخفاض حرارة الجو كلما اقتربنا من المملكة الجديدة، حتى بدأ الثلج بالهطول.
———–/
إستمرت رحلتنا يومان حتى وصلنا لنهاية الغابة، كان قد برز ضوء القمر فوق البلاد حينها؛ بدر كبير خلف برج قصر أبيض لامع و مضيء، يستطيع الفرد رؤيته بتفاصيله من أبعد نقطة من الغابة لشدَّة لمعانه، أبراجه مزيَّنة بالذهب و الأجراس، تتناسبُ ألوانها مع الرداء الأزرق ذو الفروِ الرمادي الدافئ الذي يُفترضُ أن أبقى فيه حتى أُقنِعَ الشعب أني منهم.
فاجئتني رؤية إيزرا متعجبًا في الساحة حوله عندما استدرتُ لأحدثه، عيناه تلمعُ كما يفعلُ كلما رأى موضوعًا لا يفقه فيه شيئًا، لم تكن الدهشة للقمر عندها، بل كانت أيضًا للمصابيح ذات الضوء الذهبي، تُشع معلقة على عواميد من ثلج شفاف، و ينعكس ضوءها قليلًا على ألأرض الجليدية لتعطي منظرًا متناسقًا مع المنازل الخشبية حولها.. إكتشف هؤلاء الكهرباء بينما لازالت مملكة الأرض تستعمل الشموع، أرفضَ أخاهم مشاركة عِلمه أم ماذا؟
لم يسر السؤال في ذهني كثيرًا؛ فكان سيكون انعكاس ضوء القمر على الجليد أجمل مارأته عيناي إن لم أركز على الأرض الجليدية عينها “إيز، لم يخبرني أحدٌ أن علينا التزلج هنا..”
“إي-..” تنهد إيزرا ثم أكمل نازلًا من على ظهر حصانه “يعرف الجميع أن أرض الماء متجمدة… كيف لكِ ألَّا تعرفي؟” عيناه مليئةٌ بالشك وُجِّهت نحوي.
“…” جلست صامتةً لمدة قبل أن أتهور بالحديث، أَنزِلُ من حصاني و آخذ وقتي لأربطه بشجرةٍ قريبة كعذرٍ لصمتي، لِم لَم يُخبرني أحد؟ نظرتُ له من خلف الحصان بابتسامةٍ واثقة “بالتأكيد أعرف ذلك! الأمر فقط أني لم أذهب لمنطقة متجمدة من قبل لذا لا أعرف كيف أتزلج! كما أني لم أجلب حذاءً للتزلج لذا سألتك…”
رفع إيزرا إحدى حاجبيه بتعبيره الناقد المزعج، و مشى باتجاه الحقائب المعلقة على حصانه “أحضرت زوجًا احتياطيًا، يمكنكِ أخذه.”
“ياله من حظ!… إن كنت أعرف كيف أتزلج.” نظر إلي إيزرا للحظة من خلف حصانه قبل أن يعود للبحث في حقيبته.
“يمكنكِ التمسك بي بينما أمشي، سأسحبكِ معي.”
“هاه؟؟” بالطبع سأرفض أحتاج مساحتي الخاصة! أن أكون قريبةً جدًا من أحد، بل و من رجل غريب خصِّيصًا أمرٌ مزعج، وصعب، بل و شبه مستحيل! لكن مالخيارات المتاحة—؟ “هاه.. أنت أذكى مما توقعت..” التفت إلي عابسًا “لكن ألن يلاحظ أحد انعدام قدرتي على المشي عندها؟ لا يمكن المخاطرة بثقة من حولنا إن كنا متجهين للملك مباشرة.”
“ستكون مشكلتكِ عندها، عليكِ الإعتياد على الأمر بأسرع وقت ممكن و حتى وقتها سيتوجب علي مرافقتك لكل مكان تذهبين له.” أجاب إيزرا محفزًا رغبتي بالتعلم مع آخر جملة، و عائدًا مع زوج أحذية تزلج بيضاء مليئة بالجواهر، تليق مع الرداء الأزرق علي. أعطاني إيَّاها و ابتعدَ ليرتدي حذاءه جالسًا على الأرض البيضاء.
همهمتُ مُفكِّرة، “أظنك ستوصلني لأماكن كثيرة على هذه الحال..” عبست عند استيعابي لما قلته، أعلم أني أكره فكرة مرافقتي منذ البداية لكن حقًا.. لن يكون الأمر مزعجًا فحسب بل و سيكشفُ هويتي بسرعة، و كلما عرف أناسٌ لا أثق بهم عني زادت فرصة أن يعرف الحكَّام الثلاثة عني و هذا ما لا أريده.
وقف إيزرا و سبقني للجليد آخذًا عدة دورات فيه “أهذا وقتٌ للتباهي؟ تعال و ساعدني!” ناديتُ قبل أن يعود و على حافة الجليد، مادًّا يده ينتظر مني أخذها.
“كنتُ أختبر كثافة الجليد.” ردَّ أثناء أخذي لطرف يده؛ يسحبني من الأرضِ لأقف معه على الماء المتجمد. حسِبتُ الأمر سهلًا حتى تحرك خطوةً للأمام و تعرقلت قدماي بطبقاتِ الرداء الثقيل الكثيرة مُخلَّةً توازني. في لحظة هلع سحبتُ ذراع إيزرا و كاد يسقطُ معي إن لم يمسكني هو ساحبًا ياقة ردائي بيده الأخرى، أعدلني و أفلتني بسرعة قبل أن أستعيد توازني بالكامل ليتفقد ذراعه، تاركًا إياي أسقطُ على أي حال.
تآوهتُ ألمًا بانزعاج “أكمل جميلك على الأقل!” بدى منشغلًا بذراعه حتى أُقفِلت أذناه عن تذمري فسألته “ماذا بذراعك؟”
بدأ يفركُ ذراعه بقوة كما يفعل أحدٌ لتقليص ألمٍ مفاجئ “قد تكونين خفيفة لكنك تسحبين بقوة، و أظافرُك المزينة تلك حادة… أتلك مخالب؟” تعجب إيزرا ملوحًا بذراعه في الهواء لطرق يديه.
“مخالب؟” نظرتُ للمُلامةِ على إصابته، و ضحكتُ متذكرةً أمرها، كُنت متفاجئة عندما أخبرتني تيرا عن المخالب لديهم التي يستعملها المحاربون للإغتيال، و لم أستطع تمالك نفسي فأخذتُ زوجًا منها و دهنتها لتظهر كالأظافر الإصطناعية اللطيفة لأنظر إليها كلمَّا مللت. كنت قد نسيتُ أمرها بعد ارتدائي لها يوم أمس.
شعرتُ بقشعريرة من روعة هذه المخالب؛ فلم أتوقعها بتلك الحدة! ربما أعتمدُ عليها إن أضعت خنجري. دفعتُ نفسي نية الوثوق و الإعتياد على توازني ناسيةً أني لم أجده أساسًا لأعتاد عليه، فوقعتُ بقوة على وجهي. عاد إيزرا يمدُّ يده و أمسكتُ بذراعه هذه المرة، مخالبي بالكاد تلمسُ ذراعه “إن كنت تريد أن أتعلم بسرعة أعلِمني بالمهم الآن.” أمرته، و بدأ يشرحُ لي أساسيات التوازن و الدفع في طريقنا حتى وصلنا لبوابات المدينة الرئيسية.
————–/
توقفنا خلف الأشجار أمام بوابة المدينة، خمس حراس أمامنا، يحرس إثنان البوابة بانتباه بينما يلعب البقية بالورقِ على الأرض بعيدًا عنهم “لمَ توقفنا هنا؟ يمكننا العبور بسهولة بهذه الأزياء” همست لإيزرا، الذي استمر بأخذ أنفاس عميقة منذ توقُّفِنا.
اتسعت عينا إيزرا قليلًا في الظلام قبل أن يسيطر على ملامحه، لن يلاحظ أحدٌ تأثره إلا من كان يحدق به بتركيز “أريد مراقبة حركتهم أولًا، ربما نستطيع المرور دون الإحتكاك بهم.”
رفعت حاجبي باتجاهه، لمَ لا يعترف أنه خائف فحسب؟ إنتظرتُ حتى عاد للتركيز على أنفاسه وصفعته بقوة، ليرد غاضبًا بصوته الذي يكادُ يكشفنا “لمَ كان هذا؟!”
“أخفض صوتك! بتَّ أفضل الآن؟ عليك أن تكون فلا وقت لدينا لهلعك، علينا الذهاب.” وقفتُ من خلف الأشجار المغطاة بالثلج ليرانا الحراس و ينادونا، ما أجبره على الوقوف و سحبِنَا لنقف أمام الحرس الذين أغلقوا الباب علينا فورًا.
“من أنتم؟!” سأل الحارس الأول.
إستقمت و رفعت رأسي قليلًا بتعالٍ، لازلت ممسكةً بإيزرا لتثبيت وزني “ومن أنت لأخبرك بإسمي؟ أفسح المجال، لدي لقاء مع الملكِ -تريشولا- شخصيًا.” عبسَ الحارس مائلًا رأسه إلى زميله. هز زميله كتفه.
عندها تكلم الحارس الثاني “نعتذر سيادتكم، لكن لدينا إختبار لإثبات حقيقة هوياتكم، لن يأخذ وقتًا إن كنتم حقًا من الطبقة النبيلة.” أخيرًا! كنت أنتظر هذا الإختبار منذ عرفت بأمره، إن استطعنا إنهاءه بحدود ستة ثواني فسيريحنا الأمر من القلق في شكوك الناس.
ركزت على الحارس الأول الذي بتحريك كفّيه فقط جلب مايكفي من الثلج لكرتين، و بطريقةٍ ما ذاب الثلج ليصبح ماءً عاديًا، هل استعمل عنصر النار؟ أشك في ذلك…
شرح الحارس بعد تكوينه للكرة “إن كنتم نبلاء حقيقيين فستُفجِّرون الكرة في عدة ثواني، إن لم تفعلوا فستبقى رؤوسكم داخل الماء حتى تختنقوا.” تجاهلت آخر جملة حفاظًا على تركيزي، و وضعت كل حواسي على الكرة المتجهة نحوي، علي تفجيرها خلال ستة ثواني على الأقل قبل أن تصل إلي و تُغرقني..
ركزت عليها حتى استطعتُ الإحساس بالجزيئات المكونة للماء، أهذا طبيعي؟ رفعتُ يدي نحو الجزيئات، كلُّ قطرة مكونة منها تبتعد عن إصبعي عند تقاربهما، كأنها لعبة من نوعٍ ما.
دون إدراكٍ مني غيرت شكل الكرة حتى تصبح بشكل هاتفي قبل أن تستطيع لمسي.. كان شعورًا غريبًا رغم سهولته، و مؤلمًا لتذكيري بقسوة إنعدام الرفاهيات الحديثة معي في هذه الأثناء. ضعتُ بذكريات عالمي عندما دفعني إيزرا يعيدني لواقعي، حيثُ عادت جزيئات الماء لقطراتٍ سائلة في نظري. إلتفتُّ نحو إيزرا لأراه محدقًا بي، كُرته متفجرة بمسافة معقولة لمتعلم سابق للعنصر، و ربما متفاجئ أكثر مني مما حدث، تركيزه الكامل على شكل الهاتف الغريب عليه.
إعتذر الحراس على تضييع وقتنا، ثم تحركت و إيزرا مسرعين نحو القصر “ماذا حدث للتو؟” سألتُ إيزرا، خائفةً من تركيزه على الشكل الذي كونته من الكرة.
أبعد إيزرا نظره بعيدًا، رده قصير و بارد “تدربتي جيدًا.”
أكملنا طريقنا بصمت جاد حتى مللت، أخذت نفسًا للحديث قبل أن ألاحظ تركيز إيزرا المشتت، جسده و رأسه على الطريق لكنه يجتهد لإبقاء بصره للأمام، أخذتُ وقتًا قبل أن ألاحظ السبب، فجمالُ المحيط خلَّابٌ ينسي المرء أن ما من شيءٍ كامل.
بين الأكواخ الخشبية و الأسواق المزدحمة، أطفالٌ منهم و شيوخ، نساءٌ كذلك و رجال، منتشرون في الطرقات المظلمة نائمين على الأرض المتجمدة، كل من مر قربهم نظر بإذلال. من لم يجلس منهم ناب خلف أُناسٍ من الطبقة النبيلة و رؤوسهم موجهةٌ للأرض، بعضهم يحملون ما فوق طاقتهم دون شكوى و بعضهم الآخر يتم استحقارهم دون سبب.
لم أشعر بما كنتُ أفعله حتى همس إيزرا أثناء مشيه في ألم “أنتي! خففي قبضتك!” أزحتُ نظري عمَّا يقع حولي محاولةً نسيان مارأيته، أُبعد مخالبي عن ذراع إيزرا رغم ارتجاف يداي. أعلم أن توم أخبرنا كثيرًا عن الطبقية هنا لكني توقعت عددًا قليلًا و تعاملًا رحيمًا من النبلاء كما في مملكة ألأرض..
فكرتُ بحال باقي البلاد إن حكمهم تريشولا، أهذا ما سيحصل لبقية الممالك إن انتصر أهل الماء؟ دع الإقتراب من الملك و الإصلاح بين الإخوة بعيدًا!.. حاليًا..
علي فعل ما أستطيع لمنعه من بدء هجوم مفاجئ مهما كان الثمن إن كانت هذه الحال. خاطرت بإفقاد توازني و ضربت كتف إيزرا لينسى ماحوله هو الآخر و يركز على أساس وجودنا.
وصلنا للقصر عند وصول القمر فوقنا تمامًا و دخلنا غرفة العرش مباشرة، خلفنا عدة حراس بينما يجلس الملك و زوجته أمامنا على عرشهم. كان مظهر تريشولا مميزًا؛ شعر نيلي لامع عليه علامات الشيب البيضاء و لحية كثيفة محددة تتناسب مع جسده العريض. ملامحه جامدة، حادة، و متكبرة حتى شككتُ في حكمته كحاكم، عكس الملكة الجالسة على يساره ذات الهيئة البشوشة، سمراء و رداؤها بنفسجي فاخر يُبرز عيناها البنفسجية اللامعة عكس حضورها الخافت، وجودها مريحٌ لمن حولها.
حاولتُ التقدم وحدي بينما يسير إيزرا مواكبًا خلفي، فبعد سبع ساعات من الإعتياد الإجباري إستطعت الإقدام على خطوات بسيطة بعيدًا عنه تمكنني من الإنحناء و التحدث “مولاي الملك، أمامك تقف بتواضع إيف، مستشارة خبيرة و بديلة عن السيد جعفر، سمعت أنك أرسلت طلبًا لمستشار؟”
نظر الملك باتجاهنا، رأسه مازال مرفوعًا بتكبر بينما يُدوِّرُ رمحه الطويل بتململ بين يديه “صحيح، أحتاج أحدهم بعدما أصيب مستشاري من جنود مملكة النار.” لم أحاول حتى الشعور بالشفقة تجاهه لأعرف أني لن أشعر بشيء. أمضى الرجل وقته يرسل جواسيسه و يشن معارك مفاجئة يعاني هو منها كغيره بدلًا من الاهتمام بشؤون مملكته و الآن يدَّعي البراءة؟ أملتُ رأسي لأركز على الملكة الجميلة قربه عندما تحدثت.
“مالذي يؤكد لنا أنكم لستم جواسيسًا من مكان آخر؟” سألت الملكة، متكئة على يد كرسيها، عينها ثاقبةٌ محللة لكل حركة نقوم بها.
إبتسمتُ بخفة آملة صواب قولي “لا يمكن إثبات ما لا تريدون تصديقه يا مولاتي، لكن إن كنت مكان أي جاسوس ذكي سأتجه لخداع الحرس بدلًا من الحاكم عينه مباشرة، أليس كذلك؟” إبتسمت الملكة باتجاهي عندها، كما لو أنها تعرف مايحصل، أمسكتُ ردائي بيداي التي بدأت تتعرق لإخفاء قلقي، رغم أني لم أقل شيئًا مشبوهًا حتى الآن، لا يمكن أن تعرف صحيح؟ لابد أنه اختبار.
حدقت بها بحدة لمدة حتى تجاهلتني، موجهةً رأسها للملك عندما أومَأتْ له. ترك الملك رمحه عندها، معطيًا إياه لأحد خدمه لينطلق خارج غرفة العرش”سيبدأ عملكِ غدًا.” حنيت رأسي له شاكرة، أَرتفِعُ لأراه ينظر بشك لإيزرا “ماذا عنك؟”
تحدثتُ بسرعة ألفت انتباه تريشولا عن الشاب “إيزرا يا مولاي، إنه أخي. لا أذهب لمكان بدونه.” إبتسمتُ بتوتر، كان يمكنني تركه يتكلم، لكنه لن يكلف نفسه عناء التحدث بحضور كبير إن لم يحتاج، كان هذا شرطه الوحيد للذهاب هذا الإنطوائي..
“تبدو مألوفًا.. كأني رأيتك من قبل.” حدق فيه الملك بحدة “أليس كذلك يا جيلان؟” سأل الملك زوجته.
إبتسمت جيلان بسخرية هادئة “لا يمكن فلم يكن لديه إخوة، و كيف سيتعلم عنصرًا جديدًا إن كان لا يستطيع القراءة أساسًا؟” نعم! أكملي جيلان أوقفيه عن الشك! حدقتُ في إيزرا سائلة عن معرفتها له ليهز كتفاه و عيناه متسعة قليلًا من قلقه.
همهم تريشولا موافقًا “.. معكِ حق” ثم أعاد تركيزه لي “أرجو أن تعجبكم الإقامة في المكان، سيبدأ عملكِ غدًا، يمكنكم الإنصراف.” إنحنينا له مرة أخيرة قبل أن يقودنا الحراس كلٌّ لغرفته، يدي بيدِ إيزرا لأستطيع الإسراع خارج المكان.. كدنا نُكشف لولا جيلان تلك.. أيعقل أنها تعرف بأمرنا؟ لِمَ قد تساعدنا إذًا؟ لا يمكن لها أن تعرف بأمرنا صحيح؟…. ربما أفكر كثيرًا فحسب..
°|•——————–•|°