ودق الشوق بين ثنايا الدجى - 0
يفتح الباب ببطئ، وهاهو الرجل يقف عند عتبته موجها بصره نحو عيني زوجته قائلا:
“سأغادر الآن ، إعتني بنفسك وبالبيت”
والمرأة بنبرة صوت توحي بالحزن ترد:
“سأشتاق إليك كثيرا ، آه! كلمة الشوق لا تكفي لأخرج ما بين ثناياي من مشاعر جما! لا أريد فراقك ! هل يمكنك أن تعيد النظر في فكرة سفرك إلى إنجلترا ؟”
أعتذر منك غير أن سفري محتوم لأقضي بعض الأمور هناك على الضفة الأخرى من المحيط ”
وهاهي وجنتا المرأة البالغة من العمر ثلاثين سنة تندى بعبرات دافئة نابعة من القلب ، فشوقها لزوجها يزداد مع كل ثانية وهكذا تولد قصتنا المتواضعة تحت الحنين ، و تتلاعب بها المشاعر ودقة بذكريات سائرة بين طيات الزمن ، تجر الشوق من ورائها .
مع كل عبارة تشق رحالها إلى مسامع الرجل الذي يبتدأ خطواته الثقيلة مودعا بيته الواقع في شرق مدينة طوكيو اليابانية ، نشأ كائن جديد ، فمن يكون؟
وصلت الحروف ببعضها بروابط مخفية ، وهاهي تفتح عينيها الصغيرتين الزرقاوين ، كلمة تدعى الشوق..
نظرت شوق في أعين المرأة الساهرتين في جنح الدجى ،جالسة أمام طاولة خشبية تحاديها نافذة كبيرة.. إنها لا تستطيع أن ترى شوق ، لكن شوقا ولدت من كلماتها وهاهي تنظر إلى المرأة نظرة حزن يخالجه بعض الغضب قائلة في نفسها:
“لماذا تكرهني هذه المرأة؟ إنها لا تأبه لي أبدا ! فقد تسلل الشوق إلى أعماقها الدفينة و مع ذلك لا تزال تقول أن كلمة الشوق لا تكفي ! هذا يعني أنها لا تريدني .. يعني .. يعني أنه لم تعد لي أي قيمة !”
تدمع عينا شوق ثم تقفز من النافذة الدائرية إنها لا تريد أن تبقى أكثر في مكان لا يقدرها فيه الآخرون ، ستغادر هذا المنزل الخالي من المشاعر الصادقة بادئة مغامرتها في البحث عن من يحمل مشاعرها بإخلاص .
“آه ! ما أكبر الشارع ! كيف سأجتازه؟”
كانت شوق صغيرة جدا ، أصغر حتى من ثمرة التفاح ، لكنها جمعت ما في قلبها من شجاعة وتحصنت بها في ديجور الغسق الطويل ، وهاهي بخطوات متسارعة تسير بين البنايات العملاقة وبين الأعشاب الطويلة ذاهبة نحو المجهول ..
مر الوقت سريعا وهاهي الشمس تقذف أنوارها بين الغيوم البيضاء طاردة الظلام ..مرحبة بيوم جديد، ولا تزال صغيرتنا تشق طريقها إلى الأمام ، لكن قواها خارت .. وهاهي تجلس على حصات تراها كبيرة ، لكنها بنظر انسان صغيرة جدا ..
نظرت شوق حولها قائلة :لقد قطعت مسافة طويلة ! لقد اجتزت مئات الصخور و الأعشاب الطويلة جدا ، وتجاوزت آﻻت عملاقة كادت تدهسني إحداها لو لم يحالفني الحظ في تجنبها !..”
ثم غلبها النعاس ونامت نوما عميقا ..
“خذها هيا مررها بسرعة! سدد الهدف !..أعطني الكرة لا تضيع الفرصة .هيا! ..”
وتستيقظ شوق تحت هذه الأصوات ..”ماذا يحدث؟”
وهاهي تقفز بسرعة من على حصاتها وترى الأولاد يتقاذفون بشيء مدور كبير!
لم تعرف شوق ماكان ! فكلما شغل بالها في تلك اللحظة هو الهرب!
ركضت شوق بين الأعشاب حتى وصلت إلى شجرة كبيرة وأسندت ظهرها عليها “لقد نجوت! ” ثم تابعت السير وهي تغني”شوق شوق ..أنظر فوق..سوف تجدني أنا شوق! لا لا لا ﻻ..”
وهاهي الدقائق تمضي تلوها الساعات ، وما وجدت الكلمة من مكان معين لتذهب إليه
“كل الأماكن متشابهة! ألم يستطع هؤلاء البشر من ابتكار شيء جديد غير خلط الإسمنت ! أف هذا ممل!”
وتحمل الشمس أغراضها مودعة المكان ، ذاهبة نحو المجهول وهاهو القمر يحل مكانها في عتمة الليل ولا تزال شوق غير دارية بوجهتها!
كانت السماء ملبدة بالغيوم الرمادية فقد غطت ضوء للقمر المنير ما جعل الرؤية صعبة!
تصل شوق إلى مكان غريب ! فيه الكثير من الأشجار على عكس الأماكن الأخرى التي مرت بها ! وهاهي تتقم بهدوء تقرصها بعض نسمات الخوف ..
“يصدر من هذا المكان أصوات غريبة .. أنا خائفة”
وهاهو صوت غريب يدخل إلى أذنها
“هوو .. هوو..”
“مممم ماهذا؟”
ثم ترفع رأسها نحو السماء وترى مخلوقا غريبا فوق الشجرة ، لا يظهر منه وسط الدجى سوى عينيه الصفراوتان الكبيرتان تحدق بها !
وهاهي شوق تصرخ ” النجدة!!”
ويقفز الكائن الغامض عليها مهدئا إياها قائلا:
“لا تقلقي لا تقلقي أنا لست مؤذيا”
“لكن أي نوع من المخلوقات أنت؟”
“أنا البومة ، طائر ليلي ”
وهاهي شوق تحدق بعيني البومة قائلة :
“لقد أخقتني مع صوتك الهوو المخيف ، لكن ماذا تفعل هنا؟”
وتجيب البومة”هذا موطني إلى أين تريديني أن أذهب؟”
لا ﻻ لم أقصد هذا لكن..، لا شيء أنسي الأمر”
ثم تسألها البومة عن وجهتها وترد عليها شوق أنها لاتدري وتقص عليها قصتها..
البومة:”حسنا هكذا الأمر ما رأيك أن أشاركك رحلتك؟”
تقبل شوق الفكرة برحابة صدر ، وهاهي البومة تحملها فوق ريشها البني الداكن وتوجهت بها نحو المدينة المجاورة.
وصل بطلانا إلى أحد المنازل ،كان يبدو من شكله مهجورا ، فلم تظهر منه أي إشارة لوجود حياة فيه، وهاهي شوق تنظر من النافذة لتتأكد إن كان المكان آمنا للمكوث فيه لكنها تتفاجئ برؤية فتاة صغيرة تجلس وحدها أمام شمعة تحترق وتكاد تنتهي، كانت الفتاة تبكي بحرقة حاضنة بين يديها لعبتها المحشوة الصغيرة ، وتتمتم بكلمات هادئة متقطعة :
آه يا أمي ! لقد إشتقت إليك كثيرا لماذا تركتني وحدي أقارع أمواج الهموم و الصعوبات كل يوم؟ ”
وهاهي شوق تتمتم ببعض الكلمات” لماذا تبكي الفتاة؟ ”
وتجيبها البومة أنها مشتاقة لأمها
“لماذا يخالج الشوق الشعور بالحزن ؟”
“أحيانا تتسرب الأحزان إلى الفؤاد لتغسله من الهموم و هم الفتاة الوحيد هو أن تلاقي أمها وهذا الحزن يقذف طعنات إلى القلب حتى ينزل دمه دموعا في العين”
وهنا تتذكر شوق المرأة التي حزنت على فراق رفيق حياتها ، وفي هذه الأثناء يظهر شيء لامع يذهب العتمة ، إنه شعور الشوق جاء إلى ممثلته كلمة الشوق ، تفاجئ شوق و تسأله
” كيف ظهرت من العدم ؟”
ويجيب الشعور :” مثلما ظهرت أنت ، من إحساس عظيم ، أتيت هنا بسبب شعور البنت الصادق تماما مثلك”
شوق:” إذن.. تلك المرأة كانت صادقة في مشاعرها؟ .. ياليتني أدركت ذلك منذ البداية ! يا ليتني لم أشك فيها ، لقد أخطأت!”
وهنا تتدخل البومة قائلة :” ربما أخطأت لكن على الأقل إعترفت بخطأك !”
وتضيف:” نعم لقد أدركنا من البداية أنك ستخوضين هذه المغامرة
لهذا قررنا اختبارك !
“لحظة.. قررنا؟!!”
وهاهي البوم تشع بالنور الأبيض وفي لحظة تحولت إلى شيء ما كأنه طيف مثل شعور الشوق ثم قالت :”إن لم تعرفيني أنا شعور الحزن ..”
وهاهي شوق تفتح فمها متعجبة من كلام شعري الحزن و الشوق ثم أضاف الشوق
“لقد قمنا باختبارك بعدما علمنا أنك ستولدين وأنك ستغضبين لأن الناس دائما ما تقول بأنك لست كافية أيتها الكلمة الصغيرة ، لكنك لم تفكري يوما أن الشعور أقوى من أي كلام ” ولكن .. كيف عرفتما أن كل هذا سيحدث؟
من خلال كتاب التنبؤ بالمستقبل الذي يحمل أهم الأحداث بياناتي ستحدث بين طياته”
وهاهو شعور الحزن يقول ” عندما تختلط المشاعر داخل القلب ، يبحث الشخص دائما عن ما يصبها فيه، لكن لو كان لذلك الشخص صديق ما لكان ملجأ لكل تلك المشاعر ، أتمنى أنك فهمت”
وهاهي شوق في حسرة تسأل عن كيفية الإعتذار من المرأة فهي لا يمكنها أن تراها!
قيقترح عليها الشعوران أن تكتب لها رسالة تضفي عليها ولكن .. كيف عرفتما أن كل هذا سيحدث؟
وهاهي شوق تسارع إلى كتابة الرسالة فذهبت مع شعوري الحزن و الشوق إلى بيت المرأة وتحديدا إلى مكتب زوجها ، وهاهي تحمل قلما وتكتب لها
“سأشتاق إليك و أنا آسف” داخل دفتر زوجها تحديدا في أول صفحة منه ثم غادروا مسرعين
وفي الطريق إلى مجتمعهم سأل شعور الشوق شوقا “بماذا كتبت آسف بدل آسفة .. ألست فتاة؟”
وهنا ترد شوق “لكي لا تشك في أمري..”
وهكذا نغلق صفحات قصتنا قصة تصارعت فيها الكلمات ضد المشاعر .. والصراع طويل ما دام هناك شيء يجمعهما معا بين ثناياه شيء تحت إسم “الكتابة”