الكتاب المسحور - 5
°|•———————-•|°
Povإيف •°
كان يوم أمس متعبًا؛ فجانبًا عن عدم نومي ليومين كاملين كان التعامل مع الكتب أمرًا متعبًا! كان كتاب الأساسيات مليئًا بمعلومات فارغة، العناصر الأربعة و من يعمل ضد من و كيفية ارتباطهم معًا، ضاع يوم كامل على بديهيات منطقية فقط لإلحاح إيزرا على قرائتي إياه!
خرجت من غرفتي أبكر من العادة أتمشى قبل افتتاح المكتبة و التوجه لها. الدروع تغطيني لأتجه مباشرة لساحة التدريب بعدها. مررت بالرواق المعتاد عندما سمعت صوت خطوات آتية من اتجاه لم أمشي فيه قط، كان دائمًا مظلمًا، مهجورًا، و كأنه مايزال تحت التشييد، لذا وجود أحدٍ داخله في هذا الوقت أمرٌ مريب.. دون تفكير مني خلعت أحذيتي المعدنية و بدأت أتبع الصوت.
وصلت لبابٍ خشبي متشقق وقت إختفاء صوته، كان قد أغلقه الدخيل بالفعل و أكمل طريقه. إنتظرتُ عدة دقائق قبل دخولي لأدرك ما أوقعت نفسي به؛ كان مقبض الباب مكسورًا، لا يُفتح من الداخل.
مجبرة؛ أكملت الطريق أمامي في رواقٍ ضيق، طويل، و مظلم، مامن شموع مضاءة فيه، لا نوافذ ولا علامة للحياة داخله. ضاق صدري و بدأ الجو يخيفني، شعور أن أحدهم يراقبني اجتاح تفكيري “هل تغير تصنيف الكتاب أم ماذا؟” همست لنفسي مواصلةً المشي بصمت. في آخر الرواق أوقفني باب أكبر مما رأيته في باقي القلعة عند نهاية الطريق، كيف تمكنوا من إدخالِه؟ من أسفل الباب أشعَّ ضوء ذهبي طفيف قادم من الغرفة الماكثة خلفه. بدأ الوعي يحيط بعقلي، فهناك دخيلٌ في الداخل و ما من سلاحٍ يحميني سوى سيفٍ خشبي للتدريب، و إن كان قد اخترق الحراس في الخارج— لن يكون الأمرُ سهلًا..
تراجعت أقدامي دون أمرٍ مني، كل حواسي تطلب الهروب حتى تذكرت أن الباب مكسور من الداخل فتسمَّرتُ مكاني، و جاهدت للإقتراب من الباب الضخم مجددًا عاضةً على شفتاي. نظرت داخل الغرفة من فتحة المفتاح، و من بين كل ما توقعته لم أتوقع رؤية ألفيلدا عينها في الداخل، تتحدث بغضب مع رسمة لرجل عجوز. إقتربت من الباب أكثر، أردت الإستماع لما تقوله لكن بلا فائدة، كأن الباب عازلًا للصوت، إبتعدت عن الباب مدلكةً رأسي بقوة، سأحتاج للخروج من هنا لكن علي الدخول أولًا لأعرف الطريقة، لكن كيف سأفسر وجودي للملكة؟
أصبح الضغط كبيرًا علي فتوقفت عن التفكير مغلقةً عيناي لأهدأ، ربما لا أحتاج لإظهار نفسي، و إن كان الزمن هنا قديمًا فخدع الأطفال ستنجح بالتأكيد، صحيح؟ إقتربتُ مجددًا من الباب، طرقت عليه و اختبأتُ خلفه قبل أن تفتح الملكة الباب. فُتح الباب بقوة جعلته يرتطم بوجهي و بدأ يرتد، أمسكته قبل أن يفضح وجودي متجاهلة ألم أنفي و مستمعة لألفيلدا تنادي، القلق واضح في صوتها “من هنا؟ أظهر نفسك.” وقفت الملكة أمامي و أنا مواجهةٌ لظهرها، أراقبها تخرج دبابيسًا من الجدار الحجري، مستعدة لقتل من يقع في مجال بصرها، تقدمت الملكة في الممر المظلم تبحث عن الطارق على بابها، تاركةً مجالًا واضحًا لدخولي.
أخذتُ نفسًا عميقًا بصعوبة، و دخلتُ الغرفة، كان أول ماخطر في بالي كلمة مريب. كانت الحجرة واهنة اللون بكاملها مبعثرة، سرير مكسورة حافته، غطائه تالف كما لو أن هرة خدشته حتى اهترأت حالته، ثُريا في منتصف الغرفة غلبها الصدئ و تكاد تقع على أقل حركة، كما تكونت كومة خردة كبيرة في أحد الجوانب. ما هوَّن حالها كان الإضاءة الذهبية الخافتة إثر الشموع المضاءة في الحجرة. كانت الغرفة كئيبة المظهر— لكن هناك نافذة في منتصف الغرفة! سأستطيع الهرب منها.
ضامنةً مهربي، بحثت أكثر في الغرفة و رأيت لوحة الرجل العجوز معلقة على جدار آخر، و مغطاة بالحجار الحادة التي تخترق ملامحه. إبتعدت عنها من ريبة الأمر، ماذا فعل ليستحق هذه الكراهية؟ إقتربتُ من لوحته السليمة بدلًا من ذلك، اللوحة التي أمضت الملكة وقتها تصرخ فيها. دققتُ على رسمة الرجل الكئيبة الرمادية عسى أن يكون إسمه مكتوبًا فأعرف وجهةً تساعدني بإنهاء هذه القصة، لكن خطوات الملكة عادت بوتر سريع.
توجهتُ بسرعة تحت السرير المهترئ قبل أن تدخل الملكة بثوان، و اتجهتْ هي الأخرى نحو السرير مباشرة حتى صار ظلُّها يبعُد ملليمتراتٍ قليلة عني أشعرتني أن أنفاسي وحدها ستصل مسامعها. حبستُ نفَسي قدر ما أمكنني متمنيةً إبتعادها حتى بدأت الرؤية تتذبذب عندي. لم تشعر ألفيلدا بشيء فتراجعَت، و بدأت تدور حول الغرفة بصمت، خطواتها ثقيلة و كعبها لا ينفك عن إصدار صدئ خانق للأعصاب مع كل خطوة. عدت أتنفس أنفاسًا خفيفة مع ابتعادها، أبطأ من مشي السلاحف في الرمل، تاركةً وعيي ليعود إلي مع كل نفسٍ خفيف يؤخذ..
بجانبي و أسفل السرير معي، عكست سكين ضوء الشمس البارد القادم من النافذة على عيني مباشرة، مددتُ ذراعي بحذر، كدتُ أمسك به حتى تذكرت أن الملكة هي التي تبحث عني حاليًا، ما يعني أن أي دفاع عن النفس سيعود علي بالسوء فقط.. أعدت يدي مكانها خائبة، ناسيةً الدرع الملفوف حول ذراعي الذي احتكَّ بالأرض بقوة كافية لتلفت إنتباه ألفيلدا “سمعتُ شيئًا..” تمتمت ألفيلدا، خطواتها تقترب من السرير مجددًا حتى وقفَت بجانب رأسي، قريبةٌ ليكون كل ماعليها هو النظر للأسفل لرؤيتي و إنهائي. لن أستطيع الحراك مع دروع الكتف الثقيلة علي هذه دون زيادة حالي سوءًا، و لن أستطيع الدفاع عن نفسي دون إعتباري خائنة للمملكة. راقبتُ ظل الواقفة يزيد عمقًا و غمقًا إثر نزولها متأهبة.
و أغمضت عيناي مستعدة ليتم الإمساك بي في أي لحظة الآن—.
—؟ لم يحدث شيء؟ فتحت أحد عيناي لأتأكد مما حصل، قدما الملكة على بعد خطوة مني، أكاد أرى إحدى رُكبها المنحنية، لكنها ليست موجهةً نحوي، بل نحو النافذة، نظرت لما أتيح لي من النافذة لأرى الجزء السفلي لطائر ريشه بني كثيف، لابد أنه يعود لبومة من نوعٍ ما، و على قدمه توجد رسالة صغيرة، أهناك من يعرف أنها هنا؟
تحركت الملكة نحو البومة و حاولت كتمان فزعي من حركتها المفاجئة، التي تتوقف أمام الطائر لتقرأ ما في الورقة “اه، علي العودة لعملي. ربما كان الطرق محض هلاوس.” تمتمت قبل خروجها من الغرفة، و كانت مجرد أنفاس خرجت منها، لكني سمعت ألفيلدا تهمس بحقد “يوم آخر بدونها و أنت السبب.”
أغلقت ألفيلدا الباب بإحكام، و إنتظرتُ إختفاء صوت كعبها قبل أن أخرج نفسًا عميقًا، قد يكون أول نفسٍ سليم لي منذ عرفت بهذًا الممر الميت. خرجت من تحت السرير و رأيت البوم لايزال واقفًا، عيناه الدائرية تقابل عيناي. خطوتُ بحذر نحوه، و عندما وقفت أمامه فتح إحدى جناحيه، ورقة أخرى معلقة بحبل على إحدى ريشاته.
بحذر شديد، أخذتُ الورقة و فتحتها. سقطت منها صورة الرجل المكروه من قبل الملكة و كانت كئيبةً مشوهة بالحبر في أطرافها، حقًا ماذا يمكن أن يفعل المرء ليحصل على هذا الكم من الحقد.. تجاهلتها، و بدأت أقرأ ما في الورقة.
« إلى المختارة لمستقبلٍ واعد، بيدكِ مفتاحُ ماضٍ يحكمُه الحاضر. إجمعي صفحات الفصل المفقود، و كلُّ حقيقة مدفونة ستعودُ للوجود. راقبي أفعالكِ فلِلواعِدِ التوعدُ من خطئ البريء، راقبي أفعالك فلها أن تأخذ حياتك.»
عبستُ حائرة للبومة أمامي “أليست هذه مبالغة؟ توعد و ماشابه؟” أبقت البومة عيناها الواسعة علي، ثابتة كالصخر “― ما قصده بالفصل المفقود على أي حال؟” أدارت البومة جسدها و رحلت دون ترك مجال للحديث، رأسها مازال موجهًا نحوي حتى اختفت من مجال نظري “… عدل، لستَ طائري في النهاية..” لفَفْتُ الورقة و وضعتها داخل حذائي الجلدي، ثم نظرت من النافذة، كان المكان عاليًا من هنا حتى الأرض فبدأت أبحث عن شيء يساعدني.
وجدت حبلًا طويلًا أثناء بحثي في كومة الخردة في أحد الأركان، حبلٌ طويل بما يكفي لقطع نصف المسافة. رائع! يصلح حتى أصل لأحد الغرف هناك و أخرج من عندهم. ذهبت لأربط الحبل بإحكام في حافة الستار الذهبية قرب النافذة عندما وقعت عيني على لوحة الرجل المكروه مجددًا. عاد الفضول إلي و ذهبت نحو لوحته السليمة لأرى اسمه مكتوبًا داخل الصورة بخط صغير مزخرف، “غرانت” … “أليس هذا اسم الملك السابق؟” أنزلتُ حاجبي قاطبةً وجهي، و عدت للنافذة أتأكد من إحكام الحبل و بالي مشغول “لمَ قد يكره أحد والده؟ خاصة بعد أن حاول الإصلاح بينها و إخوتها..”
————-/
“متأخرة بثلث ساعة، ما عذرك؟” سحبتني تيرا من أكتافي لحظة دخولي ساحة التدريب. بالتأكيد ستغضب مالذي توقعته؟ لكني لن استطيع اخبارها ماحدث و حولي اسطول كامل!
حاولت إظهار كل مالدي من جدية عندها، كتلميح أن الأمر أكبر مما أقوله “علق باب غرفتي و لم أستطع الخروج.”
تجهَّمت تيرا في وجهي، بالتأكيد لن تفهم فتاة مباشرة مثلها تلميحاتي بسهولة.. “لمَ لم تنادي على أحد؟”
“لمَ قد أنادي أحدًا إن كنت أستطيع فتحه بنفسي؟” هزت القائدة كتفها عندها، و همستُ لها “لن تصدقي ماحدث اليوم! عليك سماع القصة بعدما ننتهي من هذه التمارين.” تعجَّبت تيرا و تركتني.
“سأذكركِ بإخباري لاحقا..” عبست تيرا، ثم إبتسمت “لكن التأخير مايزال تأخيرًا، قومي بعشر تمارين ضغط.”
“أنتي تمزحين، صحيح؟ خرجتُ للتو من مسألة حياة أو موت و تريدين الآن كسر ذراعاي؟”
إبتسامة شفقة كاذبة ظهرت على وجه تيرا “لم تموتي صحيح؟” وضعت يدها على كتفي قبل أن تعود لباقي جنودها، أتَرى هذه مواساة جيدة على فعلتها؟
—————-
ذهبتُ للمكتبة فور انتهاء التدريب، لأجد إيزرا ملتصقًا بأحد الكتب أمامه “يمكنك القراءة؟” سألته فانتفض و طارت عيناه تركز علي “لا!.. سيدتي.” رفعتُ حاجبًا مُستعجلةً إياه “كنت أعيد تتبع ماحفظناه بالأمس. ربما سأستطيع تذكر شيء مهم من الصور— ” في العادة كنت سأشفق عليه، أو أثني عليه، أو هذا ما أردته. لكن عذره أسوء من أن أفعل أيًا منهما.
لم أُرِد إحباط عزيمته مع ذلك، فضحكت “لا داعي للكذب، أَنتظرت كل هذا لتبدأ التعلم؟ ألا تعلم كم أعاني للبقاء مستيقظة و أنا أقرأ أساسيات مملة!” جلست على الكرسي المقابل له على الطاولة الخشبية “سأساعدك لاحقًا، لكن الآن لدينا مهمة للتركيز عليها.” قلت له، و بقى إيزرا صامتًا، ينظر إلي بعينان متأملتان رغم عبوس ملامحه. كان أمله الهائل متوقعًا ما أحزنني، إن كان العلم مقتصرًا على النبلاء فلابد أن للعامة عقوبة لكسر القاعدة، و إن كان خوف إيزرا دليلًا فتسكون العقوبة بالموت— أن يكون العلم خطرًا… ليس كأني أستطيع فعل شيء حاليًا.
ذهبت لأحضر كتابًا مفصلًا عن استعمال الماء، بدأتُ أتدرب على كأس ماءٍ صغير، أملًا في أن يكون اعتقاد تيرا صحيحًا بينما بقي إيزرا في مكانه ينظر في صفحات الكتاب الذي قرأته له، لم أظنه عنيدًا حتى يضيع ترتيب أولوياته هكذا.. “ألم أقل أني سأساعدك لاحقًا؟ مالذي تفعله؟” سألته.
رفع إيزرا رأسه بالكاد عن الكتاب، لا ينظر إلي تمامًا عند رده “نعم، لكني أستطيع المحاولة الآن، فأنا متمكن من العنصر منذ زمن.”
“..أنت ماذا؟”
رفع إيزرا رأسه من الكتاب تمامًا، عيناه تتسع مع إستيعابه لما قال “أنا-”
قاطعتُ كلامه “أنت ماذا؟؟ كنت تعرف طيلة الوقت! و تركتني أضيع وقتي على كتبٍ لا فائدة منها ليومين! ما مشكلتك؟!” ضاع يومان من ثمانية الآن و على ماذا! كيف تعلمه بسرعة على أي حال؟؟
لم يعد الفتى ينظر إلي الآن رغم ثبات ملامحه “قد أعرف كيفية استعماله لكنك جديدة عليه، كان عليك معرفة الأساسيات على الأقل.” كان رده هذا الوغد!
أغلقتُ الكتاب الذي بيدي واضعةً إياه أمامه “أترك معتقداتك لنفسك، لم أكن أحتاج أيًا مما قرأته!” لم يرد إيزرا، بالتأكيد لن يرد على جندية تصرخ في وجهه، لن يفلح شيءٌ هكذا.. أخذت نفسًا عميقًا، ثم نفسًا آخر أُهدِّئ به نفسي. “إبتعد عن كتابك هذا، علمني ما تعرفه بطريقة واضحة بسيطة فلا وقت لدينا. إن كنت مصرًا على القراءة هكذا سنوفر ساعةً قبل منتصف الليل أُعلمك فيها، أهذا جيدٌ لك؟”
أومأ إيزرا، و تحرك ليُرجع الكتب مكانها، ثم بدأ يختصر كل مايعرفه بسهولة. سهولةٍ يحسب المرء منها أن استعمال الماء كشربه. أمضيت الليلة أركز على التدريب آملةً أن اختلاف العالم لا يحدث فرقًا بتعلم القدرات، تاركةً أمر غرانت و الرسالة للصباح.
سكَب إيزرا بعضًا من الكأس الذي جلبته على الطاولة و وقفت بعيدًا أركز على الماء أمامي. “أبقي تركيزك على مكان الماء و خيالك، فرقي وزنك في كامل أطرافك و تحركي بخفة.” لخص إيز شرحه مبتعدًا عن مجال نظري.
ركزت على إراحة أعصابي أكثر من غيره؛ فأطرافي متصلبة من شدة القلق. أخذت أنفاسًا عميقة و أمعنتُ في تفكيري، تحركتُ بكل ما لدي من تركيز، أحاول منع رأسي من التفكير في فشلي. رفضت النظر للطاولة حيث الماء المسكوب حتى عندما أوقفت حركتي، محدقةً برد فعل إيزرا بدلًا عن ذلك، لأرى وجهه ثابتًا كالعادة.
مللتُ من إنتظار رد فعل منه، فتقدمتُ خائفة، مستعدةً للنتيجة مهما كانت. كان الكأس ممتلئًا! جعلتُ الكأس ممتلئًا!! صرختُ فرحًا حين رأيتُ الطاولة خالية من أي سائل، الماء المسكوب عائدٌ للكأس مع شظايا خشب إثر الطاولة القديمة و نملة أضحت تسبح في الكأس.
رحتُ أحاول مجددًا و مجددًا مستمتعةً بموهبتي الجديدة عندما قاطعني إيزرا “أديتُ دوري و علمتك، ألم يحن دورك؟”
“اه صحيح،” توقفتُ عن اللعب بالماء و اتجهتُ نحو رفوف المكتبة “إذهب و أحضر حبرًا و أوراقًا، سأبحث عن أساسيات اللغة كبداية لك.”
°|•———————–•|°