غريب مألوف - 1
غريب مألوف
إلى ابني الذي مهما كبر سيظل دائمًا بعمر الخامسة بالنسبة لي.
ربما أنا معروف بألقاب كثيرة لكنني من بينها جميعاً أفضل لقب ” أب ” لذا عندما يسألني أحدهم من أنا؟ أقول أنا أب بكل فخر غير مطلوب.
أيضاً دعني أخبرك أن هذا الكتاب هو وسيلة للتمسك بالحياة لشخص يملك فترة بسيطة وحصة صغيرة متبقية من الحياة.
ربما لا يحوي هذا الكتاب على ما قد يحمل أهمية بالنسبة لك ولكنني كتبت قصة، قصة تحمل فيها كلماتي أسفاً، وتحوي عباراتي ندماً، أما هذا الكتاب، فهو اعتذار وتعويض عن كل تلك الايام التي لم أستطع ولن أستطيع إمضاؤها برفقتك يا بني.
لنتخطى الرسميات أعلم كم أنت غير صبور، صحيح أن هذه القصة ليست كأي قصة أخرى قد كتبتها وهي أقرب ليوميات شخص مريض، لذا لا تتذمر إن وجدتني أذكر المستشفى والفحوصات كثيراً، تجاهل أيضاً جودة بعض الصفحات الدموية والخط المتداخل فلا أظن أنني قد أجد فرصة لتدقيقها ومراجعتها.
ثم صدقني ستجد الأمر ممتعاً رؤية الأمور من وجهة نظري أنا هذه المرة.
فكرت مطولاً من أين يجب أن أبدأ بالتحدث ولكن قبل ذلك، أظن أنه علي التحدث عن شخص ما.
رجل الظل أو بطل العدالة كما اعتاد الناس أن ينادوه، كانت الأخبار تذيع عنه بكثرة وتتحدث الصحف عن إنجازاته باستمرار.
يقبض على المجرمين الذين عجز القانون عن إمساكهم أو أولئك الذين تملصوا من القانون بطريقة أو أخرى، كما أنه لا يتعاون مع الشرطة لذا هو مطلوب من قبل العدالة.. ربما أكثر من بعض المجرمين حتى.
كان ذلك في اليوم الخامس عشر من شهر نوفمبر، أتذكر اليوم جيداً لأنني ذهبت فيه لإجراء فحص في المستشفى بعد أن بدأت مؤخراً بالشعور بالإرهاق الشديد وكنت أسعل الدماء فجأة.
أخبرني الطبيب أنني مصاب بسرطان الرئة في مرحلته الأخيرة وأنني لو كنت قد أبكرت بالقدوم لاستطعت عيش بضعة أيام أخرى.
سألته كم أملك من الوقت فأخبرني أنني بالكاد أملك أربعة أشهر للعيش، لكن من الناحية الإيجابية كانت مدة كافية لأكتب كتاب أخير.
خرجت من المستشفى وذهبت إلى المكتبة، كنت أحاول البحث عن فكرة لأبدأ الكتابة لكنني لم أجد شيئاً، مررت بجانب الرفوف ووجدت واحدة من الكتب التي كنت قد كتبتها.
” في شتائي القادم ”
كانت قصة للأطفال عن فتى يحاول العمل بجد لمساعدة والده في عمله حتى يتمكنوا من العيش بشكل أفضل في الشتاء القادم.
كانت واحدة من أشهر كتبي وكانت قصة عزيزة علي.
أخذت الكتاب وقررت المشي قليلاً فربما قد أجد فكرة ما.
أثناء تسكعي في الشوارع بلا وجهة معينة سمعت ضوضاء في أحد الأزقة بجوار الشقق السكنية الجديدة.
كان بعض فتيان الثانوية يزعجون طفلًا يمسك بلوحة بيضاء.
وكعادة عجوز حشري قررت التدخل في الأمر.
” اتركوا الطفل وشأنه، احترموا فارق العمر على الأقل.. ”
كنت أشعر بالغرابة من حقيقة أنه كان لا يزال هنالك من يتنمر في الأزقة الخلفية.
التفت الفتية إلي بتعابير منزعجة.
” من أنت يا هذا..؟ ابتعد، لا علاقة لك بالأمر ”
تقدمت ناحية الطفل وسألته.
” هل تريدني أن أساعدك؟ ”
أومأ الطفل بوجه مبلل لذا ابتسمت ووقفت أمامه.
” أظن أن الأمر بات له علاقة بي الآن.. ”
نظر الفتية إلي بانزعاج، كان واحد منهم يضع ربطة عنقه على رأسه، حاولت أخذ الأمر بجدية لكنه كان شجار أطفال، كما أنه من الواضح أنهم تحت تأثير الصحبة السيئة فقط.
” أمثالكم من المفترض لهم الدراسة بجد وليس فعل أشياء مخجلة مثل هذه، أعني ألستم خجلون من أفعالكم؟ هذا الطفل صغير لدرجة تشبثه بأقدامكم، هل أنت بالعاشرة يا صغير؟ ”
التفتّ إلى الصغير فأمسك الطفل بمعطفي من الخلف وخرج صوت متوتر منه.
” أنا.. بالتاسعة من عمري ”
” أرأيتم! يا إلهي إنه أصغر منكم بعقد كامل! لم أعد أستطيع تحمل الأمر ”
أشرت إلى من بدا مثل قائدهم.
” هل يمكنك نزع هذه الربطة المحرجة من فضلك وثم ارحلوا هيا اذهبوا للعب معاً أو شيئاً ما، فقط ارحلوا.. ”
لم نكن في قصة أو فيلم مثلاً حتى يرحلوا هكذا، قام واحد من الفتية برفع أكمامه بينما أخرج الآخر سكيناً.
راجعت نفسي لوهلة والمصيبة التي أوقعت نفسي بها.
تنهدت.
وضعت الكتاب الذي كنت أحمله على أكياس الإسمنت التي كانت بالجوار وأخبرت الطفل أن يرحل من المكان.
بالمختصر يا بني لقنتهم درساً باستخدام أكياس الإسمنت الموجودة ورحلوا بعيداً ولكن لا تقلق لم أصب بخدش حتى إلا أنني كنت مغطاً بالإسمنت، على أي حال، في اللحظة التي انحنيت فيها لألتقط السكين الذي سقط من أولئك الفتية بدأت بالسعال فجأة، كان من الصعب التنفس وشعرت بالضيق في صدري.
كانت يدي مغطاة بالدماء وتلطخ السكين بالدم أيضاً لكن في تلك اللحظة، ظهرت نافذة زرقاء ساطعة أمامي بينما تكرر الجملة التالية.
[ تحذير! تخريب الممتلكات الخاصة، تخريب الممتلكات الخاصة ]
كان العلم والذكاء الاصطناعي متطوراً في هذا العالم ونتيجة لهذا كان نظام الشرطة هنا مختلفاً قليلاً.
عندما يتم القبض على أحد المجرمين يتم فتح ملف خاص له لدى الشرطة باستخدام نظام معين وكلما ارتكب الشخص جريمة مهما كانت بسيطة تظهر نافذة زرقاء ساطعة أمامه كتحذير ويتم إعلام الشرطة بموقع المجرم وهكذا يمكن القبض على المجرمين بشكل أسهل.
ولكن ماذا مع تخريب الممتلكات الخاصة..؟
نظرت إلى النافذة بفراغ صبر.
” تباً.. ”
” اووه تباً من فعل هذا..؟! ”
التفت إلى صاحب الصوت، كان يمسك رأسه بين يديه بينما يرتدي ملابس سىوداء مثيرة للشبهة وبرزت عيناه العسلية من أسفل القبعة التي كان يرتديها.
كان مظهراً مألوفاً وقد عرفته وقتها.
” رجل الظل.. تبين أنه فتاً صغير ”
حاول الفتى تغطية وجهه بكلتا يديه وبدا وكأنه نسي وضع كمامته لكنه توقف فجأة وحدق بي.
” أنت.. هذه الشاشة.. ”
قلبت الأمر في رأسي وفهمت ما كان يحاول قوله، رجل مثير للشبهة مغطى بالإسمنت بينما يحمل سكين دامية وأمامه شاشة زرقاء خاصة بالمجرمين..
تغير تعبيره ببرود وأخرج مسدساً من خلفه.
” ضع السكين جانباً وإلا صوبت عليك.. ”
رفعت يداي غريزياً في محاولة للدفاع عن نفسي.
” انتظر.. الأمر ليس كما تظن! ”
” واحد.. اثنان ”
رميت السكين إلى الأسفل بسرعة وتراجعت.
” لحظة من فضلك استمع إلي أول..! ”
سعلت كمية لا بأس بها من الدماء ولولا ذلك لانتهى أمري حتى قبل أن يحين موعد موتي..
تشوه تعبير الشاب ونظر إلي بتوتر.
” هذا.. هل أنت بخير؟! ”
تمالكت نفسي بصعوبة ومسحت الدماء من فمي.
” كما كنت أقول إنه سوء فهم وهذه الدماء دمائي ”
صاح الشاب بينما يناولني منديلاً.
” هل هذا من المفترض أن يطمئنني! ماذا بك فجأة..؟ ”
أمسكت بالمنديل بينما أتنهد.
” هذا بسبب الإسمنت كما أظن.. لدي رئة سيئة ”
” كان من المفترض أن تخبرني بهذا مبكراً..! ماذا لا تزال تفعل عندك دعني آخذك معي لتغيير ملابسك ستموت هكذا..! ”
كان انطباعي عنه وقتها أنه شاب صاخب سريع الحكم ومتهور.. أعني من قد يأخذ شخصًا غريباً مثير للشبهة إلى منزله لمجرد أنه سعل دماً؟
لكنه جرني معه إلى منزله وأعطاني ملابس للتغيير حتى.
غيرت ملابسي المليئة بالإسمنت وشعرت بالراحة أكثر في التنفس، فتحت باب الغرفة للخروج لكن ما كان ينتظرني بالخارج كانت فوهة مسدس.
حدقت في الشاب بصمت للحظة وتخطيته.
” هل أستطيع الحصول على كوب من الماء؟ أريد أخذ أدويتي قبل أن أموت من فقدان الدم وضيق التنفس.. ”
” ألا تظن أنني أستطيع قتلك قبلها؟ ”
جلست على المقعد في وسط الغرفة، كنت أشعر بالتعب.
” أيها الشاب.. دعني أسديك نصيحة، تهديد الموت لا يعمل حقاً مع الكبار، نحن نعيش معظم أيامنا على
يقين أن أي لحظة يمكن أن تكون الأخيرة لنا لذا الأمر لا يشكل فارقاً بالنسبة لي الموت من المرض أو الموت على يديك ”
أنزل الشاب المسدس بانزعاج وأخذ يعبث في الثلاجة لفترة وناولني زجاجة ماء.
” لا يزال.. بدوت واثقاً من أنني لن أطلق ”
أمسكت زجاجة الماء وتناولت الأقراص المهدئة.
” وثقت بحس المنطق والعدالة لديك.. ”
جلس الشاب على المقعد أمامي وهو ينظر إلي ببلاهة.
” وثقت بماذا..؟ ”
” ما كنت لتخاطر بخسارة رصاصة من سلاح خدمتك على شخص لست حتى واثق من جريمته ”
تنهد الشاب بفراغ صبر وأخذ يقلب صفحات كتابي بعشوائية.
” أنت محق.. لهذا سأحقق عنك بجدية وأقرر ما علي فعله إن كنت حقاً مجرماً هارباً من العدالة يا سيد.. ”
نظر إلى غلاف الكتاب قليلاً ورفع رأسه.
” أوزيل ويننايت ”
ابتسمت له.
” هل قرأت كتبي؟ ”
” اعتاد جدي قراءة بعض منها لي قبل النوم وقد رأيتك على التلفاز من قبل أيضاً.. ”
فجأة انتصب واقفاً.
” لحظة واحدة..! أنا لم أخبرك أنني شرطي كيف علمت ذلك بحق الجحيم؟ ”
هل انتبه للأمر للتو فقط..
فقط كيف لم تمسك به الشرطة بالفعل على قلة تركيزه هذه.
إنه شاب جيد وصادق يا بني لكنه بطيء الاستيعاب أحياناً.
حدقت به قليلاً.
” لم تخبرني لكن بدلتك المبهرجة داخل الغرفة أخبرتني.. ”
يمكنك معرفة أنه شرطي مبتدئ من بدلته الكحلية التي علقها على الجانب بشكل مبهرج مع حذائه الملمع والقبعة.
تبقعت وجنتاه بحمرة خفيفة، كان من الممتع إزعاج هذا النوع من الأشخاص.
” لذا ربما قد ينفلت لساني وأقول شيئاً مثل أن رجل الظل الذي تحاول الشرطة القبض عليه ما هو إلا شرطي شاب.. ”
كان يوجه مسدسه ناحيتي مرة أخرى.
” هل تظن أنك تملك اليد العليا هنا؟ إن كان الأمر يهدد هويتي تباً للمنطق والعدالة وقتها سأقتلك ”
” كنت أمزح، أعرف كيف أمسك لساني جيداً لا تقلق.. ”
” هل تهديد الموت يعمل معك الآن..؟ ”
” يمكنك قول أن هذه واحدة من تلك اللحظات القليلة التي لا أريد الموت فيها ”
وقفت من مكاني وأخذت كتابي.
” على أي حال شكراً لك على هذه الملابس، سأعوضك مقابل كيس الإسمنت ذاك فقد كان الأمر خطئي وقتها وسأتأكد من إعادة الملابس هذه أيضاً والآن سأرحل قبل أن تجد عذراً آخر للقبض علي ”
وقف الشاب معي.
” دعني أرافقك أخشى أنك قد تنهار في الطريق ”
” عذر جيد لمعرفة موقع منزلي ”
تقدم الشاب مني وفتح الباب.
” كشفتني لكنني صادق في قلقي، أنت تذكرني بجدي الراحل.. ”
” لا زلت شاباً على أن يقال لي جد عجوز هذه إهانة ”
” لديك هالة رجل كبير بالعمر ”
” وأنت تملك هالة مراهق أفرط في النمو ”
” هل تريدني أن أقبض عليك؟ ”
ربتّ على كتفه بحنية رجل عجوز.
” يا لك من شاب جيد أرجوك رافق هذا العجوز إلى المنزل.. ”