صِراعُ المُلوك - 1
أحقًّا للوجود أيُّ معنى؟
كان هذا سؤالًا اعتدتُ أن أطرحه عندما كنتُ طفلًا.
لماذا نُولد في عالمٍ مُوحشٍ كهذا؟
لمَ نولد لنتألم؟
لمَ نولد لنبكي؟
لماذا نولد لنُكسَرَ ونُجرح؟
وعلى الرّغم من كلّ هذه الأسئلة، لم أجد إجابةً واحدةً مُرضية.
فقط بعض هُراءٍ بلا معنى!
تبًّا، بدأت هذه التساؤلات تراودني بشكلٍ أكبر من المُعتاد مؤخّرًا.
رفعت سيفي المغروز في جثّة أحد الوحوش اللّاواعية، التي قامت بمهاجمتي وسط الغابة؛ وحشٌ ضخم البنية، بجسدٍ مُتكدسٍ بالعضلات، وطولٌ فارعٍ أظهر تفاصيل جسده القوي، مخالب حادّةٌ كالسيف، لقد كان نوعًا من الذئاب اللاواعية. مع كل هذا الحجم كنت أتوقع قوةً أكبر من هذه، لكنّ ضربةً واحدةً كانت كفيلةً بقتله.
“كان هذا قدرك” تمتمتُ قبل أن أشرع في تفحُّص المكان من حولي.
بينما تنتقل عيناي يمنةً ويسرةً لضمانِ عدم وجود أيّ وحشٍ متبقٍ.
لفت انتباهي لونُ القمر الدموي القابع في السماء، لونٌ أشبه بالدماء تمامًا، بعث نورًا أحمرًا خافتًا، كان هو دليلَنا الوحيد للرّؤية في الظلمة الحالكة لغابة الوحوش.
“رايدن، تمّ القضاء على جميع الوحوش المتواجدة في دائرةٍ نصف قطرها ثلاثة كيلومترات.” تحدث صوتٌ خفيفٌ من خلفي، وهو ما قاطع حبل أفكاري.
التففتُّ لمواجهة صاحب الصوت.
خصلاتُ شعرٍ زرقاء داكنة تدلَّت على رأسٍ بيضاويٍّ صغيرٍ نسبيًا، بالإضافة إلى أعينٍ سماوية لامعة كانت أشبه بانعكاس السماء فوق سطح المحيط، وقف نائبي ‘كورو دامون’ ذو جسدٍ لم تملؤه عضلاتٌ ضخمة لكنْ، مُدربةٌ بإحكام، ووجهٍ جاد اعتدتُ رؤيته.
“أحسنتم عملًا، تبقّى فقط بِضعَة وحوشٍ ضعيفة، بإمكان زينو وآريا التعامل معها بسهولة” تحدثتُ بعد أن بدأتُ بإرجاع سيفي لِغمده، ومسح بُقَعِ الدماء المتناثرة على وجهي.
“أيضًا سأترك كتابة التقرير لك كالعادة.” أكملت.
“عُلِم” قال نائبي بصوتٍ منخفض بعد تنهيدة بسيطة.
كل شيءٍ تحت السيطرة حتى الآن، المهمة تسير بشكل جيد، كل شيء يتم بسلاسة… سلاسة غريبة!
ليس من المفترض أن يكون الأمر سلسًا لهذه الدرجة، هنا في المكان الأفظع في المملكة ‘غابة الوحوش’.
بدأت الأفكار المختلفة والتي حفَّزت الجانب الحذِرَ مني بالتتابع واحدةً تلوَ الأخرى، لكن قررتُ عدم إعطاء أي اهتمامٍ لها، وتابعت السير عائدًا لمكان التجمُّع المتفق عليه.
وما أن اتخذتُ قرار الاسترخاء، حتى هوجِمَت حواسي بشكلٍ وحشي من قبل مجهولٍ لا أعرف حتى مكانه.
ضغطٌ ساحق كان مماثلًا لضغط الرجل الأقوى في العالم ‘سيروس روديون’.
تبًا! فقط أين هو؟
وحش؟ لا هذا مستبعد، لو كان وحشًا بهذا الحضور لما كنا سنجد ذلك الكمَّ الكبير من الوحوشِ ضعيفةِ المستوى، كان ليفترسهم قبل وقتٍ طويل.
“كورو!” صرختُ مناديًا نائبي.
“لقد شعرتَ به أيضًا؟!” صرخ كورو بعد أن قام بتغطية ظهري.
وقف كلانا حاميًا ظهر الآخر كما اعتدنا لوقتٍ طويلٍ.
الضغطُ الساحق الشبيه بضغط الموت، لأول مرة منذ وقتٍ طويلٍ جدًا، أنا أشعر بوجود شيءٍ أكثر وحشيةً من ذلك الوغد.
مثيرٌ جدًا!!
لم أستطع مقاومة الابتسامة الخبيثة التي تشكَّلت على وجهي بعد ظهور ضغط الموت السابق.
“وجهك مقرفٌ يا رجل” صرخ كورو بعد إطلاقه لضحكة خفيفة.
“هذا ليس بوجه شخصٍ مقدمٍ على مقاتلة شيءٍ فظيع جدًا” أكمل كورو حديثه.
بعد لحظاتٍ من سكوت كورو اختفى الضغط الذي سحق المكان بشكلٍ اعتيادي.
“ماذا، هل قرر الهرب؟” تساءل نائبي.
وقبل أن أحصل على فرصة للرد على سؤال رفيقي، كنتُ قد تعرضتُ للطعن.
طعنةٌ بسيفٍ متوسط الطول اخترق قفصي الصدري متوجهًا نحو قلبي بغرض قسمهِ نصفين!
كان بإمكاني رؤية نظرات كورو الواثقة تتحول تدريجيًا إلى نظرات تفاجؤٍ لما قد حدث أمام عينيه.
بعد اختراق السكين لجسدي وقبل وصولها لقلبي؛ كنت قد ابتعدت عن أيٍّ من كان صاحب هذا الهجوم المباغت.
“هل أصبحتَ أضعف أم ماذا؟” تحدث كورو بعد أن ضحك ضحكةً صاخبة.
“اخرس، عليك لوم حواسك اللعينة لِعدم ملاحظتها هذا الهجوم!” صرختُ قبل أن أبصق القليل من الدماء.
“بإمكاني قول الشيء نفسه لك.”
” لكنك محق، هذا الشخص ليس شخصًا عاديًا، على الرغم من ضعف تدفُّق المانا في جسده.” صمتَ نائبي لبرهة ثم تابع:
“على الأغلب لقد حصل على مساعدةِ شخصٍ آخر، شخصٍ كصاحب الضغط السابق مثلًا” تحدث كورو بعد أن جال ببصره في المكان بحثًا عن أي شخصٍ غريب قد يكون هنا.
حاولتُ الضغط بيدي لإيقاف النزيف القادم من منتصف صدري لكن دون جدوى، الجرح أعمق مما ظننت، رفعتُ عيني لرؤية صاحب الهجوم المفاجئ، لأرى أعينًا مشبعةً بظلامٍ متكدس، وكأنه وُلد في أعماق المحيط بعيدًا عن الضوء، وُلد وترعرع وسط الظلمة، كان هذا انطباعي الأول عن صاحب الجسد الهزيل القابع أمامي.
جسدٌ هزيل جعلني أشك حتى في كيفية بقائه على قيد الحياة، شعرٌ أسود بخصلات بيضاء متناثرة هنا وهناك بشكلٍ غير منتظم، وقف المهاجم الغريب بوجهه الطفولي الخالي من أي ملامح على الإطلاق، وكأن الفراغ وُجِدَ ليُجسدهُ هذا الشخص!
“كما هو متوقعٌ من قائدٍ في مجلس الوحوش” خرج صوتٌ هادئ من جسد الفتى القابع أمامي.
“إذًا هل نحمل ضغينة ضد بعضنا؟” سألته باستهزاء بعد تشكُّل ابتسامة خبيثة على وجهي.
“لا أظن ذلك” تمتم الصغير بعد التفكير لِبضعِ ثوانٍ.
دون الحاجة لسماع أيِّ رد، أخرجتُ سيفي من غمده، قمتُ بتغليف الغمد بقليلٍ من المانا، ثم رميتُه باتِّجاه الفتى.
بالطبع لم أتوقع إطلاقًا أن يُصيبه هجومٌ وضيعٌ كهذا، لكن الهدف الأهم هو توفير الوقت.
بعد مراوغة خفيفة بخطواتٍ سريعة؛ تجاوز الفتى الغمد الطائر نحوه، وبمجرد لمس قدميه للأرض كنتُ أقف أمامه بالضبط، رفعت سيفي المُغَلف بالمانا وقمتُ بطعنه في نفس المكان وبنفس الطريقة.
“نحن متعادلان الآن” قلتُ.
بعد بصقِ القليل من الدماء، ظهرت ملامح التوتر على وجهه.
إذًا هو شخصٌ عاديٌّ في النهاية.
لا زال وجود صاحب الضغط الوحشي السابق يؤرقني، هو على الأغلب يعمل مع هذا الشقي.
“من قام بتقديم العون لك؟” سألته بينما أتفحص المكان حولي باحثًا عن أيَّ شيءٍ غريب.
لا رد، ظلَّ الفتى صامتًا مُشيرًا بذلك أنه لا ينوي التحدث.
“لا تحاول المراوغة، أنا ونائبي هنا من نخبة القتلة في المجلس، من المستحيل أن يتسلل أحدٌ من خلفنا دون ملاحظته، عليك أن تكون إما ‘تايرا ألسيديس’ أو ‘سيروس روديون’ لتتمكن من تجاوز حواسي.” أكملتُ حديثي.
بناءً على رد فعله لما قلته وتَحَّول نظراته الفارغة لعلامات توترٍ فأنا على الأغلب محق.
هنالك شخصٌ آخر أقوى من هذا الشقي، من المحتمل أنه مجرد غبي تم التلاعب به لإلهائي.
مهلًا لحظة!
“كورو ،توجَّه ناحية زينو وآريا!!” صرختُ
دون الحاجة للحصول على أي تفسيرات كان نائبي بالفعل قد تحرك لتنفيذ أوامري، هو أيضًا على الأغلب قد أدرك الأمر.
بعد بضع لحظاتٍ كان قد اختفى وسط أشجار الغابة المحيطة بنا.
“ما هدفك من كلِّ هذا؟” سألتُ
“مجرد القضاء عليك سيكون كافيًا بالنسبة لي” تحدث الفتى قبل أن يستعد للهجوم.
“ردٌّ مغرور من ضعيفٍ مثلك.”
قام الشقي بجمع المانا في نقطة واحدة عند سبابته اليمنى، ليُشكل كرةً حمراء عملاقة، وبعد مرور بضع ثوانٍ بدأت الكرة العملاقة في التقلص شيئا فشيئًا، حتى أصبحت بحجم حبةِ الفول تقريبا.
تبًا! أن يقوم بضغط كل هذه المانا المتفجرة في نقطة واحدة، هل ينوي حرق المكان بأكمله؟!
هذا الوغد المجنون!!
من الغبي الذي قد يفكر في القيام بهجومٍ ناري واسع النطاق وسطَ غابة مليئة بالأشجار؟!
“المسار الأول، وصيَّة الجحيم!” تمتم القصير القابع أمامي.
” أطفلٌ أنت لتسمي هجماتك؟!” صرختُ ساخرًا منه مُستنكرا وضعي الحالي.
هذا الوغد أكثر مهارة مما توقعت، قيامه بهذا النوع من الهجمات دليلٌ كافٍ على ذلك.
لا سَبيل آخر إذًا.
أطلقتُ تنهيدة بسيطة قبل أن أتمتم:
“نِطاق الملك”
ما أن أنهيتُ حديثي حتى بدأ المكان من حولي بالتحول للون الأسود، مُجَردًا من كل الألوان، مبقيًا الظلمةَ تحيط بنا فقط.
ها قد أتى!
“الفضاء الفارغ”
والآن دعنا نُنهي هذا القتال العقيم.
توجهتُ ناحية الفتى القابع أمامي والمُتصلب تمامًا بسبب تقنيتي، رفعتُ سيفي قبل أن أتمتم:
“سيفُ الملك المقدس”
وبمجرد انتهائي كنت قد دمرتُ كرة النار المضغوطة، وأيضًا قمتُ بتمزيق نصف وجهه تقريبا، من أعلى جبينه الأيمن حتَّى خده الأيسر، قامَ نَصلي بتمزيقه إربًا، وبالطبع سُحِقَتْ عينه اليسرى تمامًا.
كل ما تبقى الآن هو صوت صراخه المستمر دون جدوى، وكأنه يتضرع طلبًا للرحمة.
هذه نتائج اعتماد المرء على قوةِ غيره.
“إذًا أتنوي الحديث الآن؟” تحدثتُ.
لا رد، فقط صراخٌ مستمر دون انقطاع.
” لا بأس، سأحصل على إجاباتي بنفسي” تحدثتُ قبل أن أرفع سيفي استعدادًا لقسمه نصفين.
“مُبهرٌ جدًا!” دخل صوتٌ غريبٌ مجال سمعي.
صوتٌ شبيهٌ بصوت رجلٍ حكيمٍ أفنى حياته في الزُّهد باحثًا عن الرضى، ثقةٌ مُطلقة نابعة من حنجرة ذهبية، أعطت شعورًا بالهدوء ولكن في نفس الوقت كان صوته يُغلغلُ جسدي ناخِرًا عظامي.
هو أعلى من أن أتعامل معه بدنيوية كما فعلتُ مع ذلك الطفل الشقي.
تصلب جسدي غير قادرٍ على الحركة، غرائزي المصقولة تحذرني من الالتفاف، كل شيءٍ يحذرني من لمس هذا الوجودُ الوحشي القابع خلفي.
لكن وعلى الرغم من كل هذا، لم أستطع منع نفسي من الابتسام، السعادة النابعة من مواجهة الأقوى منك!
النشوة المنبعثة من قتال الحياة والموت كانت تُجبرني بشكلٍ تلقائي على الابتسام.
التففتُ لأجد رجلًا في منتصف العمر، بشعرٍ أسودٍ طويلٍ وصل حتى منتصف ظهره تقريبًا، أعينٌ خضراء متوهجة بالحياة ومُشيرةً للموت في الآن ذاته.
كان متربعًا فوق الهواء، وكأنه ملكٌ في قصره، بانحناءةٍ خفيفةٍ عند زوايا فمه، تشكَّلت ابتسامة واثقة على وجهه.
“تبتسم بالرغم من كل هذا؟” تحدث الرجل بهدوء بعد إطلاقه لضحكةٍ خفيفة.
“مجرد عادةٍ سيئة.” رددتُ عليه بعد إحكام قبضتي على سيفي استعدادًا للهجوم.
الآن… دعنا نرى ماهية قِوَى هذا الرجل!
“نِطاق الملك”
“الفضاء الفارغ” تمتمتُ متوجهًا نحوه.