إيطاليا القرمزية - 4
الفـصــ02ـــل: حفيف الافاعي
.
.
.
” اقرب الاعداء إليك صديقك”
.
.
.
” ماذا ستفعلين الآن أيّتها الساحرة الشرسة ؟”
لم يطل السؤال برأسها كثيراً، فقد جاءها الرد بنفس اللحظة بحيث وضعت كاثرين كلتا يداها على أذنيها تحاول منع الصوت المزعج من النفوذ لرأسها، كما أطْبقت على جفنيها بقوة في انزعاج صريح منها، وجهها كان يقطرُ ماءً و كذلك ملابسها، لم تعلم بعدها بيلاروز ما اللّعنة التي حلت في الثانية التالية، ففي اللّحظة التي انفرجت بها عَينا كاثرين عن آخرهما هوى كل الأثاث ليصدر دَوْياً انتفض عَقبه جسد المسكينةِ بيلاروز مرتجفاً، و قبل أن تطرف عيناها وجدت كاثرين أمامها تبحلق بها بحدقَتيها الحمراوتين الدمويّتين و هالة من البرود تحيطُ كيانها، أنْزلتْ البائسة بيلاروز بصرها نحو اليد الموجهةِ لعنقها لتجد مشرطاً من الفولاذ يضغط لحمها الأبيض اليشمي، لم تدري إن كانت حافةُ نصله تلمع حقاً أم أنه تأثير ارتفاع مستويات الأدرينالين في جسمها .
شعرت ببضع قطرات ساخنة منسابة راسمةً طريقها نحو عظام الترقوة التي تزينها، ابتلعت رقيها بينما أنفاسها كانت قد تجمدت ، حاولت النطق بأي شيء لتدارك الموقف، لكن لم يخرج من فاهِها سوى تهتهاتٍ لا تحمل اي معنى و كأن الكلمات تجمدت بحلقها ، بل كانت بالفعل كذلك، عقلها كان يفكر فقط بمصدر الأسلحة التي تخفيها اختها، حتى كادت تجزم أنها تخفي قنبلة نووية في غرفتها، أنزلت كاثرين يديها مبتسمةً لبيلاروز بهدوء و رزانة و كأنما لم تفعل شيئا، ربتت على رأسها و هي تتلو بداخلها بضع تعويذات جعلت الجرح الذي تسببت به لأختها بيلاروز يختفي، ما إن انتهت حتى أردفت بتأَنْي :
” اخبريها اني سألتحق بكم بعد قليل”
أومأت بيلاروز إيجابا بعد كلام أختها ثم انسلت للخارِج تتنفس الصعداء بعد أن كان بينها و بين الموت شعرة، ثم ابتعدت بخطوات مهرولة عن الغرفة و كل دواخلها تصدح بمدى جنون أختها، تمتمت بغضب ممزوجٍ بالخوف من خلف أسنانها
” مجنونة، إنها شبه مجنونة، بل هي حتماً كذلك، من يشير بنصلِ مشرطهِ بوجهِ توأمه ! طبعا لن يكون إلا شخص سيكوباثي معادي للمجتمع يعاني من كل أنواع العقد النفسية، أنا متأكدة أن نهايتي ستكون على يدها حتماً ذات يوم ”
في تلك الأثناء بعد انصراف بيلاروز كانت كاثرين قد أخذت بالفعل حماماً باردا أزالت به أثر التّعب الذي اكتسى كل خلية من جسدها، كانت ساخطةً على الوضع الذي تعيشه ، فعائلتها تعتمد عليها في كل شيء تقريباً ، كلا بل هم بالفعل يعتمدون عليها في كل شيء، حتى في جلب الطعام لهم، لعنت من تحت أنفاسها، يكفيها فقط أعمالها المكتبية التي لا تنتهي، غسلت وجهها مراراً و تكراراً تنفض كم الإرهاق الجاثم عليها، ما خفف سخطها هو كون أن دور بيلاروز سيحين غداً، و هو ما سيمنحها مجالاً للراحة و إن كان لمجرد أسبوع واحد فقط، تأملت غرفتها في انزعاج فقد كانت بحالٍ يرثى لها، رتبتها بسرعة مستعينة ببعض السحر بعد أن أنهت تجفيف شعرها، ثم ارتدت ملابس تليق بالجامعة بينما تركت شعرها القمري منسدلاً على كتفيها ، تناولت هاتفها وشرعت تتصفح آخر الأخبار و مستجدات اليوم كأداء روتيني يصب بأعمالها المكتبية اليومية، انتبهت لوجود إشعار من الإيميل ما جعلها تستغرب، فهي نادراً ما تتلقى إشعارات من هذه المنصة بحسابها هذا الذي يعتبر مجرد حساب للتسلية و ليس خاصاً بالأعمال الرسمية، تفقدت الإشعار لتجد ان المرسل كان شخصاً يضع اسم المنتقم رازيس كاسم لحسابه، تملّكها الفضول فقامت بالضغط على الإشعار ليقودها لفحوى الرسالة التي ابتلعت عيناها كلماتها بِنَهمٍ و فضول لمعرفة سِرها، تمتمت بعد كل حرف تقرءه بصوت منخفض حتى جمعت جملة كاملة كانت :
‘ إن أردتِ النجاة فلا تُقدمِ على ما تنوين فعله اليوم ‘
شتمته من تحت أنفاسها فقد كان آخر ما تتوقعه هو رسالة سامجةٌ كهذه، لوهلة ظنّت أنها ستكون رسالة مهمة و ليس هراءً كهذا، تمنّت في هذه اللحظة أن يختفي أمثال مرسل الرسالة من الكرة الأرضية، أخذت حقيبتها في انزعاج لتلتحق بأفراد عائلتها الذين كانوا متحلقين بالفعل حول مائدة الإفطار ، ألقت التحية لِتسحب الكرسي المجاور لبيلاروز و تجلس عليه، كان مقعد والدها فارغاً كما اعتادت، لم تكلف نفسها عناء السؤال عن عذر تغيبه اليوم، في النهاية هو يكره حتى استنشاق نفس هوائهم، هي لا تهتم و كذلك باقي أفراد هذه العائلة، لا أحد يهتم و لن يهتم لرابطة أسرة مزيفة، نفضت أفكارها و قررت تناول إفطارها دون الانخراط في أفكار وذكريات لا جدوى منها، ما إن مدت يدها لِتناول خبز التوست حتى وجهت والدتها سؤالها لها بلهفة شديدة :
” ما مخطّطاتك لليوم يا كاثرين ؟ ”
دحرجت الأخيرة عيناها بملل فروتينها اليومي قد بدء بالفعل مع سؤال والدتها هذا، تمتمت من تحت أنفاسها:
” ها قد بدأنا مجددا ”
كأي يوم آخر، هكذا تكون بدايته، أسئلة رتيبة اعتادت كاثرين الإجابة عنها، بل صارت تحفظ إجاباتها مسبقاً عن ظهر قلب و عقل، أيام رتيبة و معتادة، إلا أنّ اليوم سيكون يوماً مختلفا فاليوم هو يوم الحسم و تنفيذ ما كانت تنوي عليه منذ ثلاث سنوات كاملة، وبعد أن طال الإنتظار أتى اليوم الموعود أخيرا
فهل ستستطيعُ النجاح والظَّفَرِ بغايتها ؟ أم أنها ستشهد فشلاً ذريعاً بعد كل ذاك التخطيط و الحذر ؟
*********
جنوة
كانت حزم الشمس تلوح بضوئها على أركان القصر البديع تحاول جاهدة اختلاس النظر لمكنوناته الثمينة، و تحت وقع سمفونية زقزقة العصافير، كانت هي بشعرها الأشقر البلاتيني تجوب جنبات القصر بكل خفة و أناقة، تساعد حينا الخادمة في تجهيز مائدة الإفطار و حينا اخر تتفقد الأثاث، كانت حريصة على أن يكون كل شيء مثالي، فاليوم يوم مهم، اليوم سيعود حبيب قلبها و أسر فؤادها زوجها العزيز، و لابد لها من أن تحييه أحر تحية، لقد غيرت الاثاث ليلائم ذوقه، و أعدت مائدة بها كل ما يحبه من طعام، حتى أنها ارتدت ملابس ذات لون يفضله، لطالما قال لها أن جميع الألوان تليق بها لكن كانت تدري تماما انه يفضل كل ملابسها الزرقاء، لذا ارتدت فستان بلون ازرق مخملي أنيق يبرز تفاصيلها الأنثوية.
عدلت خصلات شعرها الشقراء و تأكدت مرة أخرى من مكياجها، ثم تفقدت ساعة يدها الكلاسيكية التي كانت تشير للسادسة، زفرت هواءً كان يحمل كل توترها قبل أن تسير نحو باب القصر لتقف خارجه تنتظر قدوم زوجها العزيز.
بعد لحظات قليلة توقفت سيارة سوداء لامعة أمام البوابة، تهللت أساريرها و نبض قلبها شوقا و حماسا بعد تعرفها على تلك السيارة، سارت نحوها بخطوات مهرولة تحمل لهفتها، ها هو زوجها و بعد غياب دام أكثر من شهر يضيء عتمة روحها و يؤنس وحشتها بذاك القصر الخانق.
لكنها و قبل أن ترتمي بأحضان توأم روحها بكل تهور، توقفت متسمرة و الرعشة تسري بكل اوصالها غير مصدقة لما تراه أمام عينيها، لا تصدق ان من ترجل من السيارة ليس زوجها بل شخص آخر لا تدري هويته، رمى أمام قدميها رأس زوجها الذي لا يزال غارقا بدمائه، تراجعت بضع خطوات للوراء إثر الصدمة، تحاول استيعاب واقعها، كلا بل جحيمها الذي تعيشه الأن، حتما هي في كابوس، لا يعقل أن تكون هذه الحقيقة، لا يعقل أن يكون هذا رأس زوجها أليس كذلك؟
انحنت ببطء شديد تجلس القرفصاء و تمد يدها المرتعشة لتلك الرأس آملة أن تصدق ظنها، تأمل أن تكون مجرد وهم حين تلمسه يختفي، تأمل أن لا تكون رأس زوجها، تأمل و تأمل، لكن كل ذلك تحطم حين تبينت لها جليا ملامح زوجها
اخذت تحتضن رأسه بين يديها غير ابهة للدماء التي تغطيها، انفجرت عبراتها لتخط خديها المتورمة، تحاول كتم شهقاتها بينما تشدد اكثر و اكثر على حضن ما تبقى من حبيب روحها
تخالجت المشاعر بداخلها بين الغضب و الحزن، اليأس و عزيمة الإنتقام، رفعت رأسها نحو ضخم الجثة الواقف امامها تحدجه بنظرات متوعدة، صكت على أسنانها تتوعد داخلها بانتقام يائس
كانت انفاسها تعلو و تهبط بغير انتظام تزم شفتيها بكل كره و حقد قبل أن تصرخ به و هي تشد على كل كلمة: “من هو سيدك”
ابتسم بخفة ثم انحنى لمستواها، لبث برهة يطالع عيونها المتقدة الآسرة و التي تشبه في لونها الزمرد الأزرق، أزاح بعض الخصلات الثائرة عن وجهها، صفعت هي يده ليبعدها عنها و تزيد ابتسامته اتساعا قبل أن يقول: “عذرا سيدتي يبدو أنك أسأت فهمي”
لم تنبس هي ببنت شفة بل ظلت ترمقه بذات النظرات الحقودة، بينما تابع هو حديثه: “اترغبين في الإنتقام لزوجك؟”
زادت سرعة انفاسها و تكشرت ملامح وجهها لتقول بكل سم: “بل سأقتلع قلوبهم و اشويها”
استقام هو و رد بصوت أجش و رخيم: “سأساعدك”
” و كيف سأثق بك” نبست بها بعد أن رفعت رأسها لتواجهه، فهي لا تملك و لا دليلا واحدا على نظافة يديه من دماء زوجها
“لو كنت الفاعل لكنت قد قتلتك قبل أن تتنفسي” صمت قليلا ثم تناول سيجارته ليستنشق سمومها قبل أن يتابع “يمكنني اعلامك بمن قتل زوجك…طبعا توجد أدلة تدعم قولي”
عضت هي على شفتيها لا تدري ما الذي عليها فعله ليس أمامها سوى رأس زوجها و شخص غريب يعرض عليها المساعدة، و لا خيط واحد يمكنه أن يقودها للفعل الحقيقي
بعد تفكير طويل و صراع مع ذاتها قررت اخيرا الإمساك بيده، استقامة هي الأخرى لتقابله و لا تزال تعتصر جثة فقيدها لتقول بكل جدية و ادراك لموقفها الضعيف: “ما الثمن؟”
زفر هو دخانه ثم شرد بعينه بعيدا و هو يتمتم من تحت أنفاسه: “الثمن… عليهم دفع الثمن أليس كذلك”
لم تفهم هي كلامه فحمحمت معتذرة: “عذرا سيدي؟”
افاق من شروده ليقول متداركا بينما يطفئ سيجارته بالدوس عليها: “لا عليك سنناقش هذا لاحقا”
توقف قليلا ليفكر، ثم تابع بعد ان حول نظره نحو القصر قائلا: “لكن سنحتاج ان نحرق هذا”
**************
نهاية الفصل