الكتاب المسحور - 2
°•|—————————–|•°
أرضٌ ترابية، أشجار خريفية، هواء منعش يحيط الغابة حيث كانت إيف تمشي في طريقها مع ريحانة.
وصلوا لنهاية الطريق ليروا قرية مليئة بالحياة وال..حجارة الطائرة؟ كان الأطفال مجتمعين عند رجل عجوز يعلمهم التحكم بالأرض والحجر، إعادة تشكيلهم، و تفكيكهم.
في الجهة الأخرى وُجد أناسٌ مجتمعين، مشكلين بأيديهم لدائرةٍ مرتفعة عن الأرض يتنافس فيها رجلان لسببٍ ما. ربما تكون أولومبياد من نوعٍ ما. إبتسمت إيف تراقب الأطفال و الشباب يلعبون و يضحكون، كلما أتى شخصٌ من بعيد شاركوه متعتهم دون تردد، ذكرتها القرية بحيّها الصغير حيث كانت تمضي وقتها، كلٌّ يعرف الآخر و يثق به، يعوم الأمان أساسًا فيه. رؤية المشهد مجددًا جعل إيف تحن لطفولتها.
وقفت إيف تتأمل المنظر حتى سمعت صوت خطواتٍ تبتعد شيئًا فشيئًا. “إلى أين؟” سألت إيف مشتبهة بريحانة.
لم تتوقف ريحانة مع ذلك “هذه قصتك، ليست قصتي. رحلتنا كانت حتى نهاية الغابة، الآن هي رحلتك.”
“هاه؟!”صرخت إيف “يدي بيدك أنتي من اقترح الفكرة و لن أكمل لوحدي!”
“كان عليكِ السؤال قبلها، طرق مشبوهة للكلام أليس كذلك؟” سخرت ريحانة ثم جرت للباب.
“يا-!” جرت إيف خلفها، أنفاسها تتقطع و خطواتها ثقيلة من مشيها منذ دخولها للغابة. لم تستطع إيف اللحاق بها، ولم تملك الطاقة للمحاولة مجددًا؛ فتركت ريحانة تعود أدراجها بينما عادت هي للقرية الصغيرة.
دخلت إيف القرية، و مع رؤية الجميع لها عم الصمت. لم يرى أيُّ منهم من قبل أحدًا يرتدي ملابس مميزة كهذه؛ قميص أسود و سترة خضراء باهتة مع عقدٍ آخره جوهرةٌ على شكل خنجر. حاولت إيف تجنب الأعين الحاكمة عليها فمشت بين المباني تبحث عن أحد يجلس لوحده لتستطيع التحدث معه.
لحسن حظها لم تبحث كثيرًا؛ ففي رمشة عينٍ تم سحبها من قبل شخصٍ ما. رمتها خاطفتها على كرسي حجري قديم، متفتت من حوافه ما جعله حادًا لمستعمله.
نظرت إيف تئنُّ ألمًا لكفها الذي خدش بأحد الحواف قبل أن تنظر أمامها لترى شابةً توجه رمحها لرقبة إيف و عيناها صفراء متركزةٌ على عينا إيف. رغم بساطة شكل الفتاة و ردائها إلا أن حضورها يجعل المرء يحسبها من ذوي السلطة العالية، خاصةً بعضلاتها و جسمها الواضحة قوته، سيكون غبيًا من يتهاون بها.
“إنتظري!” صرخت إيف و أبعدت الفتاة رمحها قليلًا “أليس هذا سريعًا؟ ربما لست من تعتقدينه فكري قليلًا! على الأقل اسأليني مالذي أفعله هنا، لن تخسري شيئًا هكذا!”
كانت إيف تتكلم بسرعة و تتلعثم كثيرًا حتى أشفقت عليها الفتاة و أرخت رمحها تمامًا، مشيرةً لها أن تهدأ قليلًا. صمتت إيف تأخذ نفسًا عميقًا تنظم به نبضات قلبها، لم يسبق لها أن خافت على حياتها هكذا.. أخذت إيف عدة دقائق ترتب أفكارها و تريح عقلها حتى تستطيع التحدث مع الفتاة. عندما شعرت الفتاة بتحسن إيف عادت لجديتها، رافعةً حجارًا حادة من خلفها بدل رمحها كما لو كان من المفترض أن يقل قلق إيف الآن. “من أنتِ؟ و ماذا تريدين منا؟” سألت الفتاة.
“لا أريد منكم شيئًا أريد فقط الخروج من هذا العالم!” ضاقت ملامح الفتاة في حيرة، كما ساعدها توتر إيف في زيادة شكها.
“عالم؟” رأت إيف الحيرة في عيني الفتاة تعبس و تدقق في هيئة إيف. ظنت إيف أن هذه فرصتها، ليس للهرب؛ بل لإخبارها كل شيء حتى تنزل حجارها و تستطيع التنفس براحة.
استمعت الفتاة لها مركزة بكل كلمة، ظلت تبحث عن ثغرة في أحداث غير قابلة للتصديق أساسًا، لكن غضب إيف كلما ذكرت ريحانة أرخى قلقها. لم ترد الفتاة بسرعة، تاركةً إيف جاهلةً لنهايتها حتى بدأت تفقد صبرها “إذًا؟” سألت إيف.
أنزلت الفتاة حجارتها مبتسمة “حسنًا إذا، لقد كسبتي حليفك الأول. سأساعدكِ بالخروج من هنا.”
تعجبت إيف من تقبل الفتاة السريع للأمر، لا يعقل أن لا تصاب بالهلع لمعرفتها أنها مجرد كلمات في صفحات، أم كان هذا سبب تقبلها؟ لا يمكن أن يكون الأمر هكذا فهو بالتأكيد خارج النص إن فكرت إيف بالزمن الذي يعيشون فيه، أيعقل أنها تظن إيف إنسانةً بمرض عقلي من نوع ما؟ بدأت إيف سائلة قبل أن تقاطعها الفتاة “بشرط.”
“هاه؟”همست إيف، مريحةً كتفاها المتصلبان شاكرةً للفتاة الإستغلالية فحسب. ثم ابتسمت “ماشرطك؟”
“أن تنضمي لجيشنا وتساعدينا في الحرب ضد الممالك الأخرى.”
سحبت إيف ظنها، إتسعت أعينها حتى ظنت أن عيناها ستخرج من مكانها “من؟! أنا؟؟ جيش ماذا وممالك ماذا! و ممالك! أنتم لوحدكم ضد ممالك؟؟؟ أتعرفين ما قلتِه الأن؟!”
“هذا ماعندي يا أن تقبليه و أساعدك بالمقابل يا أن أنهي حياتك، والخيار لك.”
“خيار؟ أي خيار لقد أكلتهم جميعًا و لم يبقى شيء!”
إلتفتت الفتاة كاتمةً ضحكتها “أهذه مزحةٌ شائعة في عالمكم؟” رفعت إيف أنفها باشمئزاز، فعادت الفتاة للموضوع “هل اتفقنا إذًا؟”
صارعت إيف الصداع المفاجئ الذي أتاها و نظرت للفتاة التي مدت يدها تنتظر مصافحتها. صافحت يدها متقبلةً واقعها، و ابتهجت الفتاة مرحبة “أهلًا بكِ في مملكة الأرض، أدعى تيرا.”
“… إيف.”
خرجت إيف من منزل تيرا بعد إعطائها رداءً مناسبًا لأهل المملكة وهي شاكية من سبب جعل أخذ الحياة حلًا عادلًا في الخلافات. الأمر أشبه بإعطاء أحدٍ الخيار فقط ليحسب أن بإمكانه الإختيار ليخضع للمُناقِش، لكن في هذه الحالة الأمر أسوء، أين العدل في ذلك؟
عادت إيف لطريقها بين أهالي القرية بعد ذلك، و بعد أن تأكدت أنه لا يتذكرها الكثير قررت الأنسجام معهم حتى تستطيع توفير عمل لمال يكفي لصنع أسلحةٍ و دروع تعوض عن انعدام مهارتها في التحكم بالعناصر.
لحسن حظها لم تكن لتحتاج الكثير من المال فقد وجدت مكانًا عند حداد هرم فتعلمت كيفية الحدادة و تجميع المعادن المطلوبة.
بالنسبة لها كان مكان عمل ومسكن في نفس الوقت حيث لم يكن لها مكان آخر، و كان قد ترك صاحب العمل المكان لها دون تدخل سوى في أوقات العمل.
لم تمر عدة أيام إلا و اعتادت إيف على المكان و صاحبه -جانغ- الذي اعتبرها كإبنةٍ له بوقت قصير و علمها كل مايعرف عن المعادن، زارعًا بإيف شغفًا جديدًا نحو المعادن مع مرِّ الأيام.
مرت عدة أسابيع حتى رأت أنها متمكنة تمامًا مما تفعله. قررت عندها تحقيق هدفها فصنعت خنجرًا و درع سلسلةٍ ترتديه وخوذةً لرأسها، حِمل ليس بقليلٍ عليها لكن لديها الوقت للإعتياد والتدريب. في اليوم التالي ذهبت لتحدِّثَ جانغ عن استقالتها.
“لمَ على حين غرة يابنتي؟” سألها.
“إني أتحسر لحاجة وداعك لكن هناك ما علي إنجازه.”
عبس جانغ و كم تمنت إيف أن تستطيع الذهاب دون إحزانه “لا حاجة لرحيلك يابنتي فمالي غيرك هنا، أهناك ما يشغلك؟ مصيبة أمكنني مساعدتك بها؟”
أمسكت إيف يد الجد تطمئنه، شاعرةً بالأسى لاستقالتها السريعة و الحزن لجعل جانغ يتعلق بها رغم معرفتها أن مكوثها مؤقت. لم تكن إيف لتذهب دون إرضائه و إعطائه تفسيرًا يستحقه على الأقل. “مامن مشكلةٍ يا جدي، الأمر أني انضممتُ للجيش، و كما ترى فإني لا أقدر على رفع حصى دون لمسها. لهذا احتجت لبديل و أنت بإحسانك أعطيتني مما لديك من خبرة تعدت حاجتي، و الآن انتهى وقتي و علي المضي بأمري.”
أومأ جانغ متفهمًا، ابتسامة خفيفة تُرسم على وجهه الهرِم “بالتوفيق في مسيرتك يابنتي، فالجندُ ليس بالأمر السهل.” أومأت إيف فأكمل “زوريني حين تستطيعين.” ودعت إيف جانغ واعدةً أن تزوره إن واتتها الفرصة و أمضت في طريقها، أملًا في أن يجد أحدًا آخر يساعده في عمله بأسرع وقت.
حلت الظهيرة و أسرعت إيف لمنزل تيرا مناديةً إياها حتى خرجت. “هل تذكرتِني؟ الفتاة التي أجبرتها على الإنضمام لجيشك؟”
“هناك الكثير، أيهم أنتي؟”
نظرت إيف لها بوجه فارغ “أتيتُ من عالم آخر؟”
“ااه تذكرتك الآن.” ردت تيرا “تبدين جاهزة للقتال بالفعل، هل تستطيعين استعمال سيفك هذا؟”
“هذه اول مرة لي أحمل فيها سلاحًا.”
“زينةٌ فقط هاه..” تمتمت تيرا و تجاهلت إيف التي حدقت فيها شعورًا بالإهانة “من حسن حظك إذًا أني موجودة،” ابتسمت بثقة “اتبعيني.”
مشت إيف خلف تيرا لمكانٍ خارج القرية، بعيدًا عنها. استمرت الرحلة يومًا تقريبًا دون التخييم في الطريق حتى وصلوا لمملكة كبيرة، الناس و الحرس في كل أنحائها، أسواقٌ شعبيةٌ من جانب و منازل من جانب آخر. برز تنوع بالملابس و الطبيعة الخريفية المزدهرة أكثر مما اعتادت عليه إيف في القرية. إستكشفت إيف البلدة من مكانها بتعجب، تنظر في كل مكان و تحيي الناس البشوشة حولها حتى وصلوا لقلعة هائلة، حراسها منتشرون في كل زاوية منها.
عندها توقفت تيرا و عرَّفت ” لقد وصلنا. أنا تيرا قائدة الأسطول الثالث من مملكة الأرض سأدربك على مهارات القتال المطلوبة حتى دخولنا للمعركة.” شعرت إيف أن المحادثة رسمية جدا للرد فأومئت صامتة. “لكن أولًا عليك مقابلة الملكة -ألفيلدا-، إن قبلت بك فستنضمين رسميًا، إن لم تفعل..” تنهدت تيرا مبتسمة “فستكونين قد اضعتي أسابيع من حياتك هباءً” هزت كتفها كأنه شيء عادي بينما حاولت إيف تحمل ماحصل.
ردت إيف تكاد تصرخ، غير مصدقة لما تم جرها إليه “هكذا فقط؟! ألم يخطر في بالك مقابلتها أولًا؟؟!”
عبست تيرا و ردت كأنه شيء طبيعي”إن رفضت انضمامك قبل أن تفعلي شيئًا يذكر فلن تهتمي كثيرًا، أين المتعة في ذلك؟”
متعة؟! أهذا همها؟! كان بإمكان إيف البقاء عند جانغ تساعده حتى تجد بديلًا لها على الأقل! لم تستطع إيف كتم غضبها وضربت رأس تيرا التي بدأت تضحك. حدقت إيف في تيرا بجدية “هذا ليس سببًا! إن ضاع وقتي هباءً ستندمين!”
رفعت تيرا حاجبًا وأكملت طريقها للقلعة ضاحكة. حاولت إيف تهدئة نفسها و تجاهل تيرا حتى وصلوا لباب غرفة العرش، و فتح حارسان الباب. دخلت إيف خلف تيرا، كتفاها متصلبان و خطواتها مترددة عكس الأخرى التي مشت بثقة حتى وقفت مواجهةً للملكةِ المتكئة على عرشها، عيناها الخريفية ناعستان و حاجباها منتظران لحديث الفارسة. أحنت تيرا رأسها احترامًا للملكة قبل أن تُعرِّف. “إيف يا مولاتي، الفتاة المتطوعة للإنضمام لجيشنا تقف أمامك الآن.”
بصعوبة، حاولت إيف كتمان ضحكتها على كلمة -متطوعة- لتختفي تمامًا عندما ترى كل الأعين عليها. تقدمت إيف متوترةً أكثر من قبل لمنتصف الساحة و أحنت رأسها، عيناها لا تفارق الحاكمة.
كانت مميزة عن باقي المواطنين الذين رأتهم إيف، شعرها أبيض طويل، جزء منه مربوط للأعلى بثباتٍ بمشطٍ متلألئ لافت. ثوبها طويلٌ متَّسع من تاريخ يتدرج من الأخضر للأبيض مع زخرفات في كل جوانبه. لطيفٌ و جميل رغم حضورها الثابت كمملكتها.
حدقت فيها ألفيلدا لفترة، كما لو أنها ترى ما في داخلها، جسدها شفافٌ لها مقابل روحها و اقشعرت إيف إثر تخيل الأمر، أومئت الملكة، مخفيةً التخاطر الغريب بينهم معها و أعلنت “ستعيشين في القسم الجنوبي من القلعة، ستخبرك قائدتك تيرا بكل ماتحتاجينه. أحمل توقعات عالية اتجاهك يا إيف.”
في لمح البصر خرج الجميع و لحقت إيف تيرا تسألها “ما كان هذا؟”
مترددة، ردت عليها تيرا بعد عدة محاولات الكلام، “هي- تستطيعين القول أن للملكةِ-حاسة سادسة؟ تستطيع رؤية هالة من أمامها. معدنه الحقيقي أو ماشابه.” لمحت تيرا وجه إيف و ردت على تكذيبها الصامت. “لا تصدقيني إن أردتي، لكنها لم تخطئ يومًا في حدسها.”
أدارت إيف عينها لكنها لم ترد. أكملت هي و تيرا طريقهما حتى وصلتا لغرفتها بالقسم الجنوبي.
همَّت إيف تستكشف غرفتها الواسعة و المخيفة من كمِّ التماثيل فيها بينما تستمع لقائدتها الجديدة، “لديك يومان قبل بدأ تمارينك افعلي بها ما تشائين. سيصل جدول أعمالك اليوم عند مغيب الشمس. ارتاحي حتى ذاك الوقت. لا تظني أني سأسمح بأي إهمالٍ ناتج فقط لإنك جديدةٌ بنظامنا.” أومئت إيف و خرجت تيرا تاركةً إياها لوحدها في غرفتها، سعيدةٌ من إنجازها حيث اقتربت أخيرًا من إيجاد مخرج من هذا الكتاب السخيف.
°|•—————————–•|°