سهمٌ كالمِفتاح - 2
الفصل الثاني
أَغمضتُ عينَي بقوة بعد أن سقطتُ عَلى رُكبتِي اليُسرى بينما أُمسك بكتفي المُختَرق بالسَّهم، كنتُ سأضعُف من شدَّة الألم الذي صار يَفتك بكتفِي، لَكن ظهرتْ صُورة الجَنَاح أمام عينَي وهو يرحل متَّجهًا إِلى الخِيَام، تذكَّرت وَعدي لَه “أَعِدُكَ، سَألحقُ بكَ سَريعًا”، ففتحتُ عينَي سَريعًا وكأنَّني استَمدَّيتُ القوة فجأة من تلك الذِّكرى حتى لا أُخلف بوعدي لِصديقي الجَنَاح، تلفَّتُ حولي أَبحثُ عنه بينما أخذَتِ الشَّرارات تتطاير من بين نظراتِي مُتجاهلة ذلك الأَلم الذي يَفتكُ بي، ووضعتُ سَهمًا على قوسِي بترقُّب.
يجبُ عليَّ التَّخلص منه حتى أعُود، ولَكن مرَّت دقائق عدَّة ولَم تَكُن هُنالك أيُّ حركةٍ حولي، فماذا أفعل ؟ تنهَّدتُ بقوَّة فالخَوف بَدأ يتسلل إلى قلبي، وتمنَّيتُ مرُور أَيِّ مَخلوقٍ من خَلق الله حتى وإِن كَانت مُجرَّد نملة صغيرة جدًّا، لَيس بالضَّرورة أن يُنقذنِي، أَردتُ فقط الشُّعور بالأمَان لكونِي لستُ الوحيدة في هذا المكان وللأسف لقد خاب أملي، فتراجعتُ وأنزلتُ سهمِي لأُعيده إلى حقيبتِي وعدتُ لإمسَاك كَتفي المُصاب، خرجتُ من ذلك المكان مُتَّجهة لمكانٍ آخَر، استغرقتُ ساعة حتى استطعتُ تَخطِّي هذه التَّلة العالية نسبيًّا، وما جعلنِي أَستغرق كلَّ هذا الوقت كي أتخطَّاها هي تلك الأَوراق الكثيرة المُتساقطة من الشَّجر، وبعض الأَشجار التي اقتُلعتْ وأعاقتِ الطَّريق.
حالما نزلتُ من ذلك التَّلِ واجهنِي طريقٌ طويل تتوزَّع على جانبَيْه أشجار الرَّماد الجبليَّة، لكن كانتْ جميعها خالية من الثِّمار دون استثناء، فنظرتُ للسمَاء من بين الأَشجار كانت قد غربت شمسها وأَصبحنا في المساء، ما الساعة الآن ؟ وهل تخلَّصتُ من ذلك المُطارِد ؟ لَم أحصل على إجابات لهذه الأَسئلة فتنفَّستُ بعمق ممَّا جعلني أُقطِب حاجبَي من الألم، لقد فاق الألم طاقتي، لَم أُحاول سحب السَّهم من كتفي خشية أن أَفقد المزيد من الدِّماء فتركتُه كما هُو.
نظرتُ حولي عازمة على تضميد جُرحِي بنفسِي حتى وقع ناظراي على عُشبة عصا الرَّاعي، كنتُ قد قرأتُ عنها في أحدِ الكُتب بأنَّ لها فَوائد طبِّية عديدة منها أنَّها تُساعد على التئام الجرُوح، فجمعتُ الكثير منها ووضعتُهم في حقيبة الأسهم خاصَّتي التي قد تبقَّى فيها ثلاثة أسهم فقط، ثمَّ أخذتُ أجرُّ جسدي المثقل بألم كتفي وبرُودة الجو التي ازدادت فجأة حتى وجدتُ كهفًا، جلستُ عند مُقدِّمة الكهف لأضع قوسي والحقيبة بجانبي، أخرجتُ منها بعضًا من عُشبة عصا الرَّاعي التي أخذتها ووضعتُ منديلًا بعد أن قمتُ بطيِّه في فمي لأعضَّ عليه بأسناني ألمًا، ثمَّ أمسكتُ بالسَّهم وذكرتُ الله عدَّة مرات لأسحبه بقوَّة، فخرجتْ منِّي صرخة مكتومة، وأخذت قطرات العرق تتسابقُ على جبيني، والألم ! الألمُ أصبح يفتك بكتفي حتى ظننتُ أنَّي سأفقد وعيي من شدَّته، استجمعتُ شتات نفسي لأُخرج السِّقاء، سكبتُ بعضَ الماء منها على منديل آخر وقمتُ بتنظيف الجُرح ومن ثمَّ وضعتُ العُشبة عليه، وأخيرًا ربطتُه بقماش مزَّقته من ملابسي.
أسندتُ رأسي على حائط ذلك الكهف بينما أُحاول التَّنفس بهدوء حيثُ أصبح بالنِّسبة لي صعبًا، لَم أُقاسي هذا الأَلم من قبل، نعم كنتُ أتعرَّض للكثير من الجرُوح والكَدمات وحتى الكسور، لكن تلك الآلام لا تُضاهي ما أشعر به الآن، وكأنَّكَ شُللتَ ولا يُمكنكَ تحريك ذلك الجُزء ولو قليلًا وإلَّا سينهشكَ العجز.
نظرتُ لتلك الثَّمرة الموضوعة بجانبي حيث وجدتُها عندما كنتُ أجمع تلك العُشبة، فأمسكتُها بيدي اليُسرى وأغمضتُ عينَي بقهر، كيف سأتناولها باليُسرى بينما يجب عليَّ فعل ذلك باليمنى، شعرتُ بالعجز أكثر، هل أبقى دون طعام أم أتناولها باليُسرى، ولأنَّ لا أحد حولي ليُساعدني يجبُ عليَّ تناولها رغمًا عنِّي، لقد فقدتُ الكثير من الدِّماء ولازلتُ مطارَدة من ذلكَ المجهول، يجبُ أن أتخلَّص منه حتى أعود لعائلتي والجَناح، نظرتُ حولي بحذر بعد أن أنهيتُ ثمرتي لأترصَّد أيَّ حركة قد تحصل، وكنتُ قبلها قد أشعلتُ نارًا صغيرة بجانب فُوَّهة الكهف حتى أتدفَّأ بها.
مرَّت لحظات حتى سمعتُ صوتًا خافتًا بين الأشجَار لأُمسك بقوسي، نهضتُ بعد أن حملتُ سهمًا من حقيبتي، ثمَّ تقدمتُ بحذرٍ وأنا أُراقب المكان حيث صَدَر ذلك الصَّوت، أبعدتُ تلك الأغصان التي تُعيق طريقي بيدي اليُسرى التي تحملُ قوسي حتى وصلتُ لمكان الصَّوت، فوجدتُ قطَّة صغيرة تعبث في الحشائش، ابتسمتُ لأُبعدها عن هذا المكان كي لا يتمَّ افتراسها، وعدتُ لنفس المكان أتفحَّصه خشية أن تكون هنالك واحدة أُخرى والحَمد لله لَم أجد، وحالما أردتُ العودة لمكاني ظَهر صوت خشخشة عند الأشجَار، رفعتُ رأسي للأعلى لأجد المُطارِد يقف عند أحدها، لقد أظهر نفسه وأخيرًا.
وضعتُ قوسي والسَّهم في حقيبتي التي كنتُ أرتديها على ظهري وقلتُ : أَلن تُخبرني بالهدف من مُطاردتي ؟
لم أستطع تحديد ما إن كان ينظر نحوي أم لا بسبب تلك العباءة ولَم ينطق بأيِّ شيء، وقد لاحظتُه يثني ركبتَيْه استعدادًا للهبوط، اتَّسعتْ عيناي عندما رأيتُه سيهبط فتشقلبتُ في الهواء نحو الخلف، سحبتُ سيف راغب الذي أخذتُه قبل أَن يرحل به الأشقر، وبدأت معركتنا الصَّغيرة، كانت ضرباتي تتمركز على قدمَيْه حتى أستطيع إعاقته وأرحل لأبعد مسافة، وحالما سقط على ركبتَيْه ركضتُ ناحية الكهف مُختبِئة بين ثناياه لاستعادة طاقتي.
سِرتُ حتى نهاية الكهف لكن فاجئني سهمٌ مرَّ بجانبي يحمل ضوءًا ساطعًا ارتطم بنهاية الكهف لينتشر ضوؤه في أنحائه، أغمضتُ عينَي بتفاجؤ ممَّا حصل وعندما فتحتهما وجدتُ نهاية الكهف أمامي قد تحوَّلتْ من جدارٍ حجري إلى بوابة لعالمٍ جديد، وهنا كانت بداية قصَّتي.