شذا الشهداء - Chapter 3
فلسطين؟
بعد أن أتى شخص غريب كان على كتفه علم فلسطين، بدأ في فحص الأطفال، تفقّد منهم الأحياء والأموات، ارتسمت على وجهه ملامح جدية حادّة، وكأنه قد رأى حروبًا وجُثثا إلى أن اعتاد عليهما.
تفقد الأطفال وحمِد الله على وجود ناجيين، حادثهم وطمأنهم بأنهم سيكونون بخير وبأمان، وعند وصوله للُورا وأوس، ولأن هذا الأخير
كان محتجزا في الميتم، لم يعرف شيئا عن عَلم فلسطين، كان على علم تامّ بأنها أرضه التي سلبها المُحتل، لكنه لم يسبق له أن رأى علمها قطّ. نتيجة هذا، استنتج أوس أنه شخص مُتحالف مع الاحتلال، يأخذ الأطفال ويربيهم ويزرع فيهم كُره أرضهم، لم يظنّ هذا عبثا فقد
رأى الكثير من هؤلاء الأشخاص يأخذون الأطفال من الميتم الذي عاش فيه مُدّعين أنهم عرب أو مسلمون. لهذا، حمل أوس في يده حجرًا ليحمي لورا من أي أذى فور اقتراب الرجل الغريب منهما.
المحارب: “يا فتى لا تخف، فأنا لن أتسبب بأي سوء لكما.”، قال مقهقهًا.
أوس مُعارضا:”لا، أنت مثلهم تماما، ستأخذ الأطفال بغية زرع كره أرضهم فيهم، لقد حصل ذلك مع أصدقائي من قبل، ولن
أتركه يحصل مع لورا! ”
ردّ المحارب متفاجئا:”انتظر قليلا يا فتى، عن ماذا تتحدث؟ أتقصد أن جنود الاحتلال يأخذون الاطفال و..”، تنهد وسط
تساؤله، ثم اكمل :” أنصت إلي جيدا يا فتى، أنا شخصٌ طيّب، لا أعرف شيئا عنك ولا عن ما واجهته في حياتك، لكن لو سمحت، ثق بي، لن أتسبب لكما أو لأي شخص آخر من بلدي بأي مكروه، لأنكم عائلتي.”
أوس متحدّيا: “أثبت ذلك! أثبت أنك لست ممّن يدّعون أنهم من .. الذين يدّعون معرفة ما مررنا به، ما المصاعب التي واجهناها! ”
المحارب:”هل ستصدقّني إن قرأت القُرآن؟ هنا والآن؟”
أوس:”من الممكن أن تكون مسيحيًا عربيًّا، كيف يمكنك قراءته؟! قد تكون أحد جنود الاحتلال وتمثّل أنك مسلم كذلك! ”
المحارب متنهّدًا :”إذا سأقرأ لك جُزءًا من أحد قصائد الشاعر تميم البرغوثي عن القدس”، ثم استكمل:
” في القُدسِ تنتظمُ القُبُورُ، كأنّهن سُطُور تاريخٍ المدينةِ والكتابُ ترُابُها
الكلّ مرّوا مِن هُنا
فالقُدسُ تقبَل مَن أتاهَا كَافرًا أو مُؤمِنًا
أمرر بها واقرأ شواهدها بكلّ لغات أهل الأرض
فيها الزنجُ والإفرَنجُ والقِفجَاقُ والصِّقلابُ والبُشناق
والتاتار والأتراك، أهلُ الله والهلاك، والفُقراء والملاك، والفجارُ والنساكُ
فيها كلُّ من وطِئ الثَّرى
كَانوا الهَوامِشَ في الكتابِ فأصبحوا نصَّ المدينة قبلنَا
يَا كاتبَ التَّاريخ ماذَا جدَّ فاسْتثنيتَنَا؟
يا شيخ فلتعِدِ الكِتابَة والقِراءَة مرَّةً أُخرى، أراكَ لحّنت
العين تغمض، ثمّ تنظُر، سائِق السَّيّارة الصَّفراء، مالَ بِنا شمالا نائِيا عنْ بابِها
والقُدس صَارَت خلفَنَا
والعَين تُبصرها بمرآة اليَمينِ
تغيّرت ألوانُها في الشَّمسِ، من قبل الغيابْ
إذ فاجَأتْني بسمَةٌ لم أدرِ كيف تسلّلت للوجْهِ
قالت لي وقد أمعنت ما أمعنت
يا أيّها البَاكِي ورَاء السّور، أحمقٌ أنتَ؟
أجُنِنت؟
لا تبكِ عينُك أيّها المنسيّ من متن الكتاب
لا تبكِ عينُك أيّها العربيّ واعلم أنه
في القُدس من في القُدسِ لكن
لا أرَى في القُدسِ إلّا أنْتَ .”
بعد أن سمع أوس هذه الأبيات أفلت الحجر. وكأنه قد أرخى دفاعه قليلا، فابتسم المحارب ابتسامة ودّية لطيفة.
ابتدر أوس الحديث : “حسنا، انا أصدّق أنك فلسطينيّ، لكن لماذا تضع هذا العلم؟؟”
أصيب المحارب بصدمة بعد سماع هذا السؤال، فسأله مندهشا:”يا فتى، ألا تعلم ما يكونه هذا العلم!؟”
هز أوس رأسه نافيًا، فقال المحارب:”هذا العلم هو علم فلسطين، من المفترض أنك تعلّمت هذا في المتيم الذي كنت تعيش فيه، إن لم يعلّموكم هذا، ما الذي علموكم إيّاه!؟”
قال أوس مُجيبًا:”لأني أتيت إلى الميتم أكبر من الباقين، علمتُ أن شيئا ما كان يدور هناك، فقد كانوا يعلّموننا حبّ الاحتلال، وحاولوا إقناعنا أن المستعمرين لم يفعلوا شيئا خاطئا لنا، وكل هذا بسبب المقاومة، لكني انا من كنت أعرف الحقيقة، لذا تم احتجازي، وذات
مرة سمعت بقدوم حافلة تأخذ الاطفال من الميتم فتسلّلت إلى غرفة المدير وأرسلت رسالة أطلب فيها قدومهم لأركب معكم. لكني لم اتوقع أن يتم قصف العربة التي جئت فيها، فقط لأنّني كنت ضدّهم بفعلي بعض الأشياء. أنا الوحيد القادم من ميتم اللّجون، ذلك لأني آخر
من تبقى فيه، فقد تم أخذ الآخرين من طرف الاحتلال إلى مدارس خاصّة.”
قال المحارب:”حسنا يا فتى، ستأتي معي وتُكلّم القائد الأعلى.”
ردّ أوس متفاجئا:”القائد الاعلى؟ من هذا؟”
المحارب:”ستعرف عندما تصل.”
حمحمت لورا قائلة :”أحم أحم، ألا يبدو أنكما نسيتما شخصا ما؟”
………………………………………………………………….
بعد أن تم تفقّد جميع الأطفال، دفنوا الذين قد استشهدوا في مقبرة جبل إسكندر، وأخذوا من تبقى على قيد الحياة إلى ميتم أم
الفحم، وهناك تم علاجهم وقد كانت لورا أحدهم، لكن الأمر كان مختلفا مع أوس، فعند لحظة وصوله تم أخذه إلى القائد الأوّل
للمقاومة.
أوس:”صحيح أنّني أثق بك، لكن إلى أين تأخذني؟ ولماذا جعلت لورا تذهب بعيدا؟ هل تُخططون لقتلها والأطفال؟!! فانا لم أثق بكم
يا كبار السّن! ”
كان القائد سيف يشبه القراصنة قليلا، وهذا ليس بالشيء الغريب، لأن أصله من مدينة “جسر الزّرقاء”، وهي من المدن القليلة
التي ما زال لها حق في صيد الأسماك وبيعها في القرى الفلسطينية، ولم يكن يشبه القراصنة لهذا السبب بالتحديد، بل لأنه امتلك
عينا مخدوشة، بدا أنه لا يستطيع الرؤية بعينيه، إذ كان لونهما كلون البحر عند الفجر، أمّا لونُ شعرِه فكان كخاصّة الشمس
وقت شروقها، مع مظهره وعينيه الناعستين، لم يبدُ ضعيفا، بل امتلك هالة حضور قوية.
هذا ما رآه أوس.