غريب مألوف - 5
نظرت إلى ألسنة اللهب المشتعلة أمامي، رائحة الخشب المحترق، الرماد المتناثر في الهواء، صفارات الإنذار وسيارات الشرطة.
شعرت بالضيق في صدري فقد كان الهواء الذي يدخل رئتاي ساخنًا ومؤلمًا وكان الضوء الأحمر لسيارة الإسعاف يشعرني بالدوار.
” الضحية هي ماري هاسبيل ”
المشهد منذ ١٧ عام كان يحدث أمامي مجددًا.
فقط قبل لحظات من انطلاقي كنت على اتصال بماري و قد كان كل شيء على ما يرام على جانبها.
نظرت إلى الجسد المحترق على الحمالة التي يحملها المسعفون.
حاولت أخذ بضع أنفاس طويلة ببطء لكن تنفسي كان يصبح أسوء فأسوء، فتشت في جيب معطفي عن الدواء، كان علي الابتعاد، علمت ذلك فقد يكون ‘ذلك الشخص’ في الجوار، في الوقت الحالي كان من الأفضل الابتعاد عن موقع الحادث قدر الإمكان دون إثارة الشكوك.
مع ذلك.. موت ماري كان شيئًا لم أستطع تخيله.
تفحصت المحيط حولي بهدوء لفترة، شكوكي كانت صحيحة كان يجب أن أكون أكثر حذرًا
لم تكن ماري لتموت هكذا وقتها.
قمعت الغضب بداخلي وابتعدت إلى ركن بعيد، كان نسيم الهواء هنا باردًا ومنعشًا رغم أن الحريق لم يكن بعيدًا، كانت تحيط بي مجموعة من الأشجار العالية، تناقض الأجواء في المكان تركني مشوشًا لفترة.
قُتل العجوز آرلو وتم التخلص من ماري أيضًا، الأمر ليس أنني لا أستطيع تخمين هوية الجاني بل حقيقة أنه تجرأ على المساس برجالي رغم معرفته الواضحة بي.
لا أخطط للبقاء ساكنًا الآن، أمسكت هاتفي واتصلت بإيدن.
” إيدن، سنجتمع في المساء في المكان المعتاد، قُتل العجوز آرلو وماري أجمع قدر ما تستطيع من المعلومات عن الأمر برفقة سيث، أيضًا كونا حذرين ونبه البقية كذلك، خاصة أنت يا إيدن لا تخفض حذرك أبدًا من الآن فصاعدًا ”
بالنظر إلى أن القاتل قد تخلص من شخصين مقربين بدلًا من المواجهة المباشرة فهذا يجعلني أفكر في أمرين:
إما أنه لا يعرف هويتي ويبتغي بقتل المقربين مني كشف هويتي أو أنه يرغب في التخلص ممن حولي من أجل ثأره، وفي رأيي كلا الأمرين صحيحين.
حسنًا.. سيئ جدًا، أنا لا أنوي خسارة أي شخص من حولي بعد الآن.
في الحقيقة بالإضافة إلى إيدن هنالك شخص آخر يجب أن يكون حذرًا.
كان قد تم إطفاء الحريق بحلول الآن وبدأت الشرطة باستجواب المارة وأصحاب البيوت القريبة، كان من المفترض أن أخرج من المكان قبل أن تقوم الشرطة باستجوابي أنا أيضًا لكن في ذلك الوقت لمحته بين المارة.
الفتى الصغير الذي أردت لقائه، كان يكتب شيئًا ما في دفتره بينما يقوم باستجواب أحدهم.
نظرت إلى وجه إيروس، كان يرتدي جهازًا يشبه عصبة الرأس لتخفيف الصدمات النفسية.
هل كان هذا بسبب الحادث قبل سبعة عشر سنة؟ أتذكر أنه أخبرني أنه لا يتذكر ما حدث وقتها، إن كان يعاني من الصدمة ما بعد الحادث فهذا يفسر استخدامه لمثل هذا الجهاز، كانت القضية قد وكلت إلى وحدته ربما لم يستطع المخاطرة بترك القضية بسبب حالته لهذا هو يقوم بالاستجواب بدلًا من مساعدة رؤسائه في الداخل.
هذا الفتى الصغير، لقد أبلى جيدًا لوحده طوال هذا الوقت من دون والديه، برؤيته هكذا أكانت أنانية مني التفكير في ضم يده إلي..
مجددًا شعرت أنني جبان حقًا في مثل هذه الأوقات.
” في ماذا تفكر؟ ”
” أفكر في سبب وجود وجهك بجانبي يا سيدي المحقق ”
في اللحظة التي كنت غارقًا فيها في التفكير لا علم لي متى وصل هذا المتطفل بجواري.
” أنت لست متفاجئ بوجودي.. لديك رد فعل هادئ أيها السيد ”
” كلا أنا متفاجئ بما فيه الكفاية في الحقيقة ”
نظر المحقق إلي ثم إلى إيروس الذي كان يقف على مسافة.
” هل تعرف ذلك الفتى؟ لقد كنت تنظر إليه لوقت طويل أيها السيد ”
نظرت إلى إيروس بدوري.
” نادني أوزيل فقط وثم نعم أعرف إيروس لكنك مخطأ سيدي المحقق، كنت أنظر إلى الحريق خلفه وليس إليه، فقد تذكرت حادث الحريق قبل سبعة عشر سنة ”
كانت كذبة، بالطبع كنت أنظر إلى إيروس وقتها لكن وجهي جيد في صنع كذبة واقعية لهذا حاولت تشتيت انتباهه عن إيروس، قدوم هذا الشخص إلي لم تكن محض صدفة وفي الحقيقة كانت لدي أسبابي للشك في سلوكه الغير متوقع.
بدا أن المحقق كان يفكر في شيء ما ثم سأل فجأة.
” هل كنت هنالك عندما وقع الحريق؟ ”
” كلا، كنت أبعد ما يكون يومها أيضًا.. ”
لو كنت هنالك، لمت مئات بل آلاف المرات على أن أرى عائلتي تموت أمام عيناي
فقط لو كنت هنالك يومها..
” اوه هاهو إيروس إنه قادم إلى هنا ”
التفت إلى حيث أشار المحقق، وبالفعل كان إيروس قادم ناحيتنا، الشكر له أنقذني من استجواب ذلك المحقق المشبوه.
” مرحبًا يا إيروس، لقد مرت فترة ”
وقف إيروس أمامي وأخذ ينظر بيننا، بدا أنه متشوش من هذا الثنائي الغريب الذي يقف أمامه:
مجرم مطلوب من قبل العدالة ومفتش الشرطة.
أفهمك يا إيروس، حتى أنا لا أطيق هذا الوغد المتلحي.
” سيدي الكاتب وسيدي المفتش، هل تعرفان بعضكما؟ ”
” يمكنك قول أنه لقاؤنا الأول ”
” أنا في الواقع معجب كبير بكتابات السيد أوزيل لذا أردت حقًا تبادل أطراف الحديث معه ”
” هل أنت أيضًا من قراء أعمال سيدي الكاتب يا سيدي المفتش؟ ”
إيروس الذي بدا أنه وجد موضوعًا للحديث بدأ بالتحدث بالهراء عن أعمالي الكتابية مع المحقق ناسيًا أن الشخص الذي أمامه هو رئيسه في العمل.
” هل قرأت كتاب ‘ جبل الغروب ‘ يا سيدي المفتش؟ كان سرد الأحداث مشوقًا كما أن النهاية كانت غير متوقعة كليًا”
” بالفعل..! الفصل الأخير عندما ظهر الفارس لإنقاذ الامبراطور من الاغتيال هو مشهدي المفضل، وذلك الفصل في كتاب ‘ أرض الغرباء ‘ عندما وجد البطل أخاه المفقود بين الجنود العائدين.. ”
” عندما أعطى زيفيل أخاه سيفه وأخبره بأن يقاتل برفقته أتذكر أنني سهرت لقراءة هذا الجزء لمرات عديدة… ”
والكثير من الهراء، بدا أنهم قد نسوا أن الكاتب الذي يتحدثون عن كتبه موجود معهم أيضًا، على أي حال أردت انتهاز الفرصة للهروب لكنني فشلت.
تلقى المحقق اتصالًا وكان عليه الرحيل لهذا انتهى تجمع المعجبين بشكل أسرع مما ظننت.
” ياللأسف يبدو أنه علي الرحيل الآن، كان من الرائع لقاؤك يا سيد أوزيل ويننايت ”
مد المحقق يده وهو يبتسم لذا كان علي مصافحته، أضفت بابتسامة مجبورة.
” إنه لشرف لي لقاء معجب كبير مثلك يا سيد كيغان تشيلسي ”
اهتز حاجب المحقق بشكل طفيف لدى سماع اسمه لكن سرعان ما ابتسم وتحدث إلى إيروس.
” سأترك أمر استجواب البيت المجاور لمنزل الضحية لك يا إيروس، أخبرني هنري أن السيدة العجوز ترفض التعاون في التحقيق لهذا عليك محاولة إقناعها للتعاون واستجوابها، كما عليك البحث في كاميرات هذا الحي والأحياء المجاورة، أبلغني بالنتائج عندما تنتهي من مهمتك ”
” سأفعل يا سيدي المفتش ”
ورحل المتطفل من المكان، إيروس الذي كان ينظر إلي تحدث وهو يرمقني.
” لا يبدو أنك تحب المفتش كيغان يا سيدي الكاتب ”
عبست وأنا أنظر إليه.
” أنت لا تعلم كم أرغب بصفعه بقفازي، ذلك الوغد البائس”
” أنت تكرهه تمامًا ”
” حتى النخاع ”
هذا الشخص كان قد لاحقني عبر القارات لسنوات في محاولة منه للإمساك بي، أرغب حقًا في رؤية تعبيره عندما يعلم أن الشخص الذي كان يلاحقه طوال هذه السنين هو أنا الذي أعيش تحت أنفه في نفس المدينة معه منذ سنوات.
حسنًا هذا ليس السبب كليًا، في الحقيقة الشخص الذي لدي شك حول كونه القاتل في هذه القضية هو هذا الوغد بالضبط.
تنهدت وتحدثت إلى إيروس.
” على أي حال كن حذرًا منه، إنه يخفي طبيعته القذرة خلف ابتسامته ”
كان إيروس ينظر إلى نظرة تقول بوضوح.
( ألست كذلك أيضًا يا سيدي الكاتب.. )
” أنا لدي أسبابي أيها المتشكك ”
” لهذا قلت عنه ‘ معجبك الكبير ‘ بابتسامة براقة، بدوت سعيدًا حقًا عندما قلت ذلك يا سيدي الكاتب ”
” ماذا هل أنت غيور؟ صحيح، لم أكن أعلم أنك معجب كبير بكتبي وتسهر لوقت متأخر لقرائتها ”
تحول وجه إيروس مرة أخرى إلى اللون الأحمر.
” كنت أجاريه في الحديث فقط! ”
” لماذا لا تعترف بالحقيقة فقط؟ سأعطيك النسخة الخاصة من كتابي في حدث لقاء المعجبين القادم، اوه وتذكرة خاصة للحضور كذلك ”
لمعت عينا إيروس بسعادة.
” أحقًا ما تقول..؟! ”
“بشرط بالتأكيد ”
سرعان ما عبس إيروس وهو يرمقني.
” مجددًا.. ما هو يا سيدي الكاتب؟ ”
ابتسمت.
” دعني أرافقك إلى منزل السيدة العجوز، كما ترى كنت ذاهبًا لزيارتها على أي حال ”
أشرت إلى الصندوقين في سيارتي.
نظر إلي إيروس بهدوء لفترة، بدا أنه يفكر في شيء ما ثم تحدث.
” حسنًا.. لكن لا تفعل أي شيء غريب يا سيدي الكاتب ”
” رائع، ثم أحمل صندوقًا وأنا سأحمل الآخر لنذهب ”
جيد أنني جلبتهم معي تحسبًا لموقف كهذا.
كنت أعرف السيدة صوفي من ماري، فقد كانتا صديقتان قديمتان، توفت ابنة السيدة صوفي وابنها في القانون في حادث سيارة لهذا أخذت السيدة صوفي مسؤولية تربية حفيدتها الصغيرة لوسي، كانت السيدة صوفي مغرمة بقراءة الكتب وكذلك لوسي الصغيرة لهذا جلبت معي صندوقين مليئين بالكتب، فبدلاً من التبرع بهم للمكتبة فكرت في إعطائهم لشخص يحب القراءة مثلها.
قبل أن أطرق الباب تحدثت إلى إيروس.
” لا تقل مباشرة أنك شرطي قادم للاستجواب أترك الأمر لي في البداية، قيل أن السيدة صوفي ترفض التعاون لذا لن تفتح لك الباب حتى إن قلت أنك من الشرطة ”
أومأ إيروس بهدوء.
” حسنًا.. ”
” اوه أيضًا سأعرفك على أنك ابني لذا جارني في الحديث حسنًا ”
” ماذا..؟ ”
ضغطت على الجرس وانتظرت لكن لم يكن هنالك جواب لذا ضغطت مجددًا، في تلك اللحظة سمعت صوت السيدة صوفي.
” من هنالك الآن؟ أخبرتكم بالفعل أنني لا أعرف شيئًا، لا أريد الإجابة على أي سؤال بعد الآن لذا اذهبوا فقط.. ”
” هذا أنا أوزيل يا سيدة صوفي وليس الشرطة ”
” ماذا..؟ ”
كان هنالك صوت قفل وفتحت الباب امرأة عجوز بملامح سمحة لطيفة.
” يا إلهي هذا أنت حقًا يا أوزيل، لقد مرت فترة طويلة منذ آخر مرة أتيت فيها إلى هنا، ادخل أولاً لنتحدث في الداخل ”
وضعت الصندوق بجانب الباب ودخلت، تبعني إيروس بهدوء دون كلمة.
” اجلسا أنتما الاثنان أولاً، سأعد القهوة لكما ”
أوقفتها بسرعة.
” لا داعي لذلك سيدة صوفي، أنا ممنوع من الكافيين في حالتي وهو لا يحب القهوة حقًا، سأكون سعيدًا أكثر بجلوسك معنا ”
جلست السيدة صوفي على كرسيها الهزاز وابتسمت، بعد كل شيئ كان من الأفضل لها الراحة في مثل هذا الوقت.
من عيناها المتعبة، كان واضحًا أنها بكت مطولاً قبل فترة.
” حسنًا كما تحب، بالمناسبة من هو هذا الفتى يا أوزيل؟ ”
ربت على كتف إيروس وابتسمت.
” هذا هو ابني إيروس يا سيدة صوفي ”
انحنى إيروس بخفة.
” سررت بلقاؤك سيدتي، أنا إيروس ”
” أنت تشبه أباك كثيرًا يا إيروس سوى عيناك، أراهن أنها تشبه خاصة إيليا الصغيرة ”
ارتخت ملامح السيدة صوفي وبدأت بالبكاء.
” لماذا هو دائمًا أن المقربون يرحلون هكذا فجأة.. إيليا وماري حتى.. ”
نهضت واقتربت منها، ربت على يدها لطمأنتها، لم يكن سهلًا عليها تقبل خبر مقتل شخص مقرب منها هكذا فجأة دون حتى أن تستطيع فعل أي شيئ.
” أنا آسف لخسارتك يا سيدة صوفي، سأتأكد أن ينال القاتل عقابه، هذا وعد مني يا سيدة صوفي لهذا لا تبكي، لا تحزني كثيرًا هذا ليس جيدًا لصحتك سيدتي ”
ناولتها منديلاً لمسح دموعها، تفهمتُ حزنها، مع هذا كان علي أن أسألها، إن أرادت أن ينال قاتل ماري عقابه فكان عليها أن تتحلى ببعض الشجاعة.
مسحت السيدة صوفي دموعها وهدأت قليلاً ثم نظرت إلي.
” حسنًا، أستطيع الوثوق إن كان أنت من يقول هذا يا أوزيل، أنت تعلم كيف أنني لا أثق بالشرطة لذا أخبرني ماذا تريد أن تسأل؟ أعلم أنك لم تأتي لمحض زيارة عابرة”
لم تكن السيدة صوفي صعبة الإقناع، الأمر فقط أنها كبيرة في السن كثيرًا ولديها الكثير للقلق بشأنه لهذا تحدثت إليها بهدوء.
” سيدة صوفي، أنا لا أعلم ما أخبرتي الشرطة عنه لهذا أعتذر إليك ولكن هل يمكنك إخباري إن كنتِ تعلمين أي شيئ يتعلق بهذه الجريمة؟ إن كنتِ قد رأيتي شيئًا ما أو سمعتي شيئًا أو حتى إن كانت ماري قد أخبرتك بشيئ غير اعتيادي يحصل معها.. ”
” كان الحريق مفاجئًا بالنسبة لي، لقد بدأ سريعًا دون حتى أن يتسنى لي استيعاب الأمر، في بادئ الأمر حاول الرجال إطفاء الحريق لكن دون جدوى، حتى أننا حاولنا الدخول لكن الأبواب والنوافذ جميعها كانت مغلقة بإحكام وثم أتت الشرطة ورجال الإطفاء، حدث كل هذا سريعًا وثم وقتها.. هناك ماري… اوه.. ”
اجهشت السيدة صوفي بالبكاء مجددًا لكن سرعان ما استعادت رباطة جأشها.
” حسنًا قالت الشرطة أنه قد تم قتلها وحرق المكان لإخفاء أي دليل هذا ما أعرفه، لقد حدث كل هذا فجأة، لم أسمع أي شيئ غريب ولم أرى أحدهم حتى، كانت ماري بخير في الصباح حتى أنها أتت لزيارتي هنا اوه يا ماري..”
كان كل هذا شيئ توقعته بالفعل، حتى أنا كنت على اتصال بماري قبل لحظات من موتها ولم تخبرني بأي شيئ غريب أو خارج المألوف.
في هذا الوقت رأيت رأس صغيرة خارج الباب، فتاة صغيرة تبدو في الثانية عشر من عمرها كانت تقف خارج باب الغرفة.
” اوه لوسي.. مرحبًا ”
لا يمكن أنها سمعت محادثتنا..
ابتسمت إليها، ترددت الفتاة الصغيرة قليلاً ثم تقدمت إلى الأمام.
” عمي أوزيل.. أنا.. سمعت الجدة ماري تقول شيئًا.. ”
” ماذا..؟ ”
” الجدة ماري قالت.. أن هنالك بعض الأشرار الذين يلاحقونها.. ”
وهذا كان دليل لم أتوقعه.