أفكار أمنية اليأس - 1
فِي مملكةِ جيلان القديمة؛ كانتْ تلك العجوز تُفكرُ بندمٍ بينما هي على شفيرِ الموت، في غرفتها التي لا يصِلُ إليها نورُ الصباح، حالكةُ الظلام كَـأعماق الكهف الدامس، طريحةُ الفراش فَقَدْ بلغتْ من العمرِ ما بلغت…
– دائمًا كانت الفكرةُ في عقلي، ففي كُلِّ عامٍ يمضي أتمنَى ذاتَ الأُمنية، لا أدري لماذا؟ ولكنني دومًا تمنيتها؛ أُريدُ أنْ تعودَ بيَ الأيامُ للحظةِ الطفولةِ، لفترةٍ كُنتُ بهَا طفلةً بينَ السبع والعشر، بين الإثنى عشر والحادي عشر، ليومٍ وأشخاص كانُوا بها حقيقيين …. كانت البراءة قاموسًا لهم، لا يُفكرون بغير اللعب والمرح، فَهل يا تُرى أعودُ لها؟
-حينمَا أرى المرآة؛ أكتشفُ فيِ كُلِّ مرة بأنني كبرتُ، فلم أعد طفلةً يرعاها الكبارُ. أرى المسؤوليات تكبرُ معي بينما عقليَ لا زالَ طفلًا، لا زالت أمنيتهُ المنشودة باقيةً بداخلي، أسمعُ صداها يترددُ في المدى، يستنجدُ قائلاً أحاديثًا لَا تنتَهي…
ولكن لحظة! ….لِمَ عليَّ أن أندمَ على عُمري الذي مضى؟ كانَ يَجدرُ بي أنْ أستمتعَ بِكُلِّ لحظةٍ ودقيقة، بدلاً مِنَ التذمر…كَم أصبحَ عُمري الآن حتى أندم؟ لقد نسيت، يا لهُ من عقلٍ ينسى كُلّ شيء، إنهُ ٧٣ سنة.
أدركتُ في وقتٍ مُتأخرٍ أن العمرَ يجري بلا انتظار؛ فتزدادُ تجاعيد الوجهِ مغيرة تضاريسَهُ، حتى الناس يتغيرون مع أفكارهم، وفي النهاية يكبرون راحِلين. أمّا المهم؛ هوَ أننا لَا ندرك قيمةَ ما هو عزيزٌ علينا ومهم، إلا بعدَ فوات الأوان …
فَـيا ليتنيِ صرّحْتُ لهُ بمَا يجولُ في خاطري، ليتني اهتممتُ أكثر قبلَ أنْ أراهُ يرحل بِـذاكَ الوجهِ العابس الذي امتلأ حُزنًا، ليتني أمضيتُ وقتي برفقةِ ابني أكثر….كل هذه الأمنيات قد تأخرتُ فِي فهمها، كيف عشتُ ٧٣ سنة بدون أنْ أفهم كُل هذهِ المشاعر حتّى الآن؟! بعد أنْ تَبقى ليَ القليل، ليتني أعود، ليت الوقتَ يعود للوراء؛ لِـأُصلحَ الأخطاءَ. وهل لهذهِ الأُمنيات أنْ تحدُث؟…
أغمضتْ مُقلتها بحسرةٍ شديدة، لتنامَ بعد أنْ غلبهَا الإرهاق والأسى مِنَ التفكير الذي لا آخر لهُ….بذاكَ الوجه الذي امتلأ بالتجاعيدِ والشعرِ الذي تلوّنَ بلونِ الصفاءِ والبراءة، بلونٍ أبيض أشبه بالثلجِ قد شهِدَ على أحداثٍ لا تُصدق. بذاكَ الوجه الذيِ لَمْ يفهم يومًا معنى الابتسامة أو السعادة…
-ما هَذا الصُداع؟ رأسي كَمْ هَذا مؤلم!… ما خطبُ يدي؟ أينَ أثر ذلكَ الجُرح؟ حتى شعري قد عاد لهُ لونهُ، مهلًا!!! غرفتي القديمة، كيف لهذا أنْ يحدُث؟ يبدو أنني أحلم بعد أن تمنيتُ الكثيرَ مِنَ تلكَ الأمنيات الفارغة!!
اتّجهت روبي مُسرعةً نحوَ المرآة وهيَ مذهولةٌ مما تراه؛ فقد عادَ شعرهُا لحالتهِ الأصلية؛ بُنيًّا طويلًا ناعمًا كالحريرِ، يُضربُ بهِ المثل بعد أنْ كانَ الشيبُ قد اجتاحَ شعرها، كذلكَ وجهُهَا؛ عادت لهُ الحياة مرةً أخرى، كما لو أنها في في الواحدِة والعشرين منْ عُمرِها، حتى غُرفتها قد عادت كما كانت، فتلكَ المنضدةُ لا زالت قُرب النافذة التي تنعكسُ منها أشعةُ الشمس الذهبية، تدخل مُنها أوراقُ الأشجار الخضراء… وبينما روبي تتأملُ ذاتها بتلكَ المقلة الزرقاءِ الناعسة، مُندهِشةً. إذ بها تسمعُ صوتَ طرقِ الباب… فكانَ الطارِقُ شخصًا عزيزًا عليها وغاليًا، فكلُ أُمنياتها قدْ تمحورت حولهُ! ذاكَ الرجُل ذو الهيئةِ الضخمةِ والقامةِ الطويلة والشعرِ الأدجنِ الذيِ من شدةِ قتامتهِ كان يشبهُ ظلمة الليلِ، ينظرُ إليها بمقلتهِ البُنية الحادةِ متفاجئًا، قائِلًا لها بصوتهِ الذيِ لا يُنسى منْ ذاكرتها:
“هل استيقظتِ؟”
قالت في نفسها والدمعُ تجمّعَ حولَ مُقلتِها مذهولةً “يا إلهي، هذا لا يعقل، كل شيءً في هذا الحلم يبدو واقعيًا جدًا، فحتى جين يبدو أصغر مما كانَ عليهِ!”
اندهش جين مما يراه قائلًا: “لماذا تبكين؟”
اقتربَ جين منها وأمسكَ خدها ومسح دموعها…
أمّا روبي كانت لا تزالُ عالقةً في دوامةِ الدهشة.
“هذا لا يُصدق! هل هذا حلم أمْ واقعٌ أعيشهُ؟ لكن في كلتا الحالتين لا يُهم، ما يهمني الآن هو رؤيتهُ بعدَ ما حدثَ بيننا، لنْ أرتكبَ أخطاء الماضي، لنْ أكونَ باردةً معهُ مُجددًا فهذهِ فرصتي الوحيدة”.
-جين: توقفِي عن البُكاء رجاءً، ماذا دهاكِ؟ أنتِ لستِ على طبيعتك، هل أنتِ بخير؟!
شهقت روبي ثم قالت: أنا آسفة حقًا، حقًا آسفة لأني مُتأخرةٌ كثيرًا بقولِ هذا ولكنني ممُتنةٌ جدًا وكثيرًا لكَ، آسفة لأنني لمْ أُصارحكَ يومًا وكرهتكَ كثيرًا ولمْ أقُل لكَ كلمةً طيبةً رغُمَ أنكَ لم ترتكبْ خطأ في حقي، أنا آسفة (تشهق) آسفة لأنني مُتأخرة بقولي هذا، أُحب…
-جين: كفى، لا تعتذري على أيِّ شيء، لستُ حزينًا أنتِ تعرفينني جيدًا، فقد تزوجنا حتى ننقذ عائلتكِ مِنَ الإفلاس. أنا فعلتُ ما طلبهُ منِّي والداي فقط لذا لا بأس إنْ كرهتِني أو احتقرتِني، لنْ أحزن؛ فأنا لا أشعر بأي شيء اتّجاهكِ…
-” لمْ أستطع سماع ما تبقى من حديثه المسموم فلا زالَ جين كما كان، يتحدثُ بلا أيِّ حذرٍ مُحطمًا خلفهُ ذاتي التي تموتُ ألفَ مرةٍ بسببهِ بلا مُرَعاةٍ ولا طبطبة. فهذهِ المرةُ الثانية التي أسمعُ فيها هذا الحديث الجارح؛ فهو قد قالهُ لي في السابق، الذي اختلفَ الآن هو اعتذاري لهُ فِي غُرفتنا، بينما في السابق قالها ليِ أثناءَ حفلةَ الإمبراطور بعد أنْ ظننتهُ مُنزعجًا لأنَّني رقصتُ معَ الأمير الرابع في الحفلة” ….
(عودة للماضي)
– روبي: ما خطبك؟ لماذا غادرتَ قاعةَ الاحتفالات؟ هل أنت منزعج لأنني قبلتُ طلبَ الأمير؟ إذا لمْ يُعجبكَ فلنْ أفعلها مُجددًا…
جين: لا تهتمي بشأني، ولا داعي للقلق، أنا لستُ حزينًا أو منزعجًا أنتِ تعرفينني جيدًا، تزوجنا حتى ننقذ عائلتكِ مِنْ الإفلاس، وأنا فعلتُ ما طلبهُ مني والدايَ لذا لا بأس، افعلي ما تشائين سواء رقصتِ مع الأمير أو غيره، فذاكَ ليسَ من شأني، حتى لو كرهتِني أو احتقرتِني لنْ أحزن، فأنا لا أشعر بأي شيء تجاهك، لذا لا تهتمي بي. دعيني وشأني فقط… إذا رغبتِ بشيءٍ أخبري رئيس الخدم ماركو فقط، لا داعيَ لتُخبريني بذلك شخصيًّا أو أنْ تأتي إليّ…
نظرت روبي إليه وهي تعضُ شفتيها قائلةً “هل حقاً لا يُهم؟ انسَ الأمر، أنا المُخطئة لأنني ظننتُكَ منزعجًا “.
-جين: إذا انتهيتِ سأرحل وأعُود للقاعة…
(عودة للحاضر)
-لماذا دائمًا يتحدث بنفس النبرة والردّ؟ أنا…ألا يحقُ لنا بفُرصةٍ أُخرى؟!… ثم قالت لجين بأسى:
“جين توقف، لا أودُ أنْ أسمعَ هذهِ الكلمات، أناَ حقًا نادمة لأني متأخرة جدًا، ربما تظنني أكذب أو أخدعكَ بحديثي ولكنني لَا أكذب. لا أريد أنْ أكرر أفعالي الغبية وتصرفاتي السيئة لك، أودُّ أنْ أحظى بعلاقةٍ جيدةٍ معكَ لنعيش سويًا كُل العُمر”.
نظرَ جين بحيرةٍ شديدة نحو روبي “هل هي حقًا روبي؟ تلكَ التي كانت تتصرفُ بِعجرفةٍ وعلو؟ لِمَ الآن تغيّرت؟ كان مِنْ المُفترضَ أن تخبرني بهذه الكلمات عندما انتصرتُ في الحرب، أرسلت رسالة وبعدها … كيف؟…. كانت بالأمس تتحدث بطبيعتها، هل تغيرت أمْ هي عادت مثلي لا أدري؟! لكن كيف لذَلك أنْ يحدُث؟! لقد مرَّ شهرٌ منذُ أنْ عُدت وأنا أحاول مرارًا وتكرارًا أنْ أُحسن من تصرُفي وحديثي معها، لكنْ دونَ جدوى”.
-مسحت دموعها ثم قالت: يبدو أنْ حديثي معكَ بلا فائدةٍ تُرجى، أنا حقًا لا أعني لكَ شيئًا، انسَ الأمر.
نظرَ جين إلى روبيِ وهو عابسٌ متفاجئٌ مما يراهُ…
“سَـأُنادي الخادمة حتَّى تُجهِّزكِ لمأدبة الكونت كريستوفر”.
-روبي: لماذا؟ هل والدي طلبنا؟! هل هذا هوَ المُهم الآن؟
جين: فقط استعدي.
ثُمّ استدار جين وخرج من الغرفة متّجهًا نحوَ مكتبهِ ليكملَ أعمالهُ الكثيرة التي تزدادُ كل يوم…
ثمُ دخلت وصيفةُ روبي فيرونيكا – صاحبةُ العين الواسعة الزبرجدية وذاك الشعر الذيِ يشبِهُ لونهُ غروبَ الشمس- قائلةً: “سيدتي انظري لهذا الفستان، ما هو رأيك؟ هل ترغبين بِـارتداء هذا الفستان الذي تشبهُ زركشتهُ الورود أمْ الفستان المُرصّع بالكريستال الذي حضّرهُ الدوق جين لمأدبةِ الليلة؟”
-روبي: افعلي ما شئتِ؛ فَـأنا لستُ مهتمة بتلكَ المأدبة الحمقاء… توقفِي، أحضري الفستان الذي حضّرهُ الدوق.
شعرت فيرونكا بداخلها بالأسى على روبي ثم قالت “حسنا سيدتي”.
__________________________________