أفكار أمنية اليأس - 3
الفصل الثالث: معضلةٌ لا تحلُّ.
بعد مرورِ عدةِ أيامٍ مُنذ أغمِيَت روبي، أُثيرَ الصخبُ في كلِ أنحاءِ البلادِ. بات جلُّ حديثِ الشعبِ عن هذه الحادثة وعن الاضطرابِ الذي قاساهُ الدوقُ جين إزاءَ رؤيته روبي تسقطُ منهارةً على الأرضِ الباردةِ، فقد كانَ الهلعُ مرتسمًا على كافةِ ملامحِ وجههِ، بتلك الحواجبِ المائلةِ والمقلِ الحمراءِ.
بينما انشغلَ الجميعُ بالبلبلةِ ونشرِ الإشاعاتِ، كان ايزيك قد طلبَ حضورَ الكونتِ كريستوفر إلى قصرهِ الواقعِ في الجهةِ الشرقيةِ من قصرِ الأمراءِ الأربعةِ. لُقِّبَ قصرُ ايزيك ب”قصر الزُمرد”، لم يكن ذلك إلّا لكونهِ يفتنُ الوجدانَ قبل الأعينِ لشدةِ حسنهِ وبهاءهِ، فالزهورُ مُنتشرةٌ في كلِ أرجاءِ القصرِ والأوراقُ الخضراءُ المتطايرةُ تُنعشُ الجسدَ، والألوانُ متناغمةٌ كما لو كانت لوحةً فنيةً، لكنْ لم يكُن هذا الحُسنُ والجمالُ تخطيطًا وإدارةً من ايزيك، بل إنّ الفضلَ كُلَّهُ عائدٌ إلى الأميرةِ نافير البالغةِ من العمرِ واحدًا وعشرين سنة، إبنةُ الأرشيدوقِ الراحلِ؛ تزوجت ايزيك مُنذ ما يقاربُ الثلاثَ سنوات، فتاةٌ ناضجةٌ ذاتُ مُقلةٍ واسعةٍ ورديةٍ، لها شعرٌ رماديٌّ مُجعدٌ وناعمٌ، تمتلكُ جسدًا نحيلًا طويلَ القامةِ والأهمُ من ذلك أنها صاحبةُ ذكاءٍ حادٍ، فلا نِدَّ لعبقريتها.
(بعد يومين)
وصلَ الكونتُ كريستوفر إلى “قصر الزُمرّدِ” في الصّباحِ الباكرِ وانتظر ساعاتٍ طِوالًا فقط ليتمكن من مقابلةِ الأميرِ ايزيك. أثناءَ انتظارهِ الطويلِ قرّرَ التمشي في حديقةِ الزُمرّدِ. بينما هو يُلقي نظرةً على الحديقةِ سمعَ صوتَ أنينٍ حادٍ لرضيعٍ صغيرٍ، فاتّجهَ نحوَ مصدرِ الصّوتِ بفضولٍ. حينها رأى الأميرةَ نافير مرتبكةً حاملةً طفلها الرضيعَ ذا الشهرِ الواحدِ سيل، تحاولُ تهدِئتهُ. كان سيل يُشبهُ والدها الراحلَ الأرشيدوق.
تحدث كريستوفر بدهشةٍ: “جلالةَ الأميرة! .. ما الذي يجري هُنا؟” حدقت نافير بريبةٍ نحوَ الكونت ثمّ قالت: “ماذا تفعل هُنا حضرةَ الكونت؟” أجابها الكونت بثقةٍ: “كُنتُ أتمشى في الحديقةِ، فإذ بي سمعتُ صوتَ بكاءِ طفلٍ لذا تبعتُه مندفعًا بالفضولِ، هل كان الأميرَ الصغيرَ سيل؟”، وقبل أنْ تُجيبَ نافير الكونتَ قاطعَهم صوتٌ عالٍ: “أخرسيِ هذا الطفلَ حالًا!”.
هلعَ الكونت كريستوفر حينما سمعَ الأميرَ ايزيك يتحدثُ بتلكَ النبرةِ الغاضبةِ والوجهِ الحادِّ ذي الحاجبِ المُستقيمِ. ردّت نافير بِسخطٍ محدقةً بوجهِ ايزيك: “سوف أرحلُ من هُنا .. فحتى طفلكَ لم يسلم من شرِّكَ”، ثم استدارت آخذةً طفلها بوجهٍ عابسٍ مغادرةً وحاشيةُ من الخدمِ خلفها.
تحدّث ايزيك بصوتٍ يعتليهِ غرورٍُ وتكبُّرُ:” ألم تشتق إلي حضرةَ الكونت؟ .. لقد حانَ وقتُ الحسابِ”. ردَّ كريستوفر بنبرةٍ مهزوزةٍ متلعثمةٍ: “ج..جلالتك…سامحني رجاءًا “، نظرَ ايزيك إلى الكونتِ نظرةً ملأها السخطُ و الغضب: “أسامحك؟ ..كيف لروبي أنْ تقتربَ من جين؟ .. لم أكنْ أعرفُ أنك بهذهِ الجرأةِ! أظننتَ أننيِ لنْ أعلم بحفلتكَ؟” بعدها نادى ايزيك خادمهِ طالبًا إحضارَ السوطِ، قامَ ايزيك بضربِ الكونت مرارًا وتكرارًا مخرِجًا كلَّ الحقدِ والغضبِ المتراكمِ في قلبهِ، بذلك السوطِ المصنوعِ من أقوى الحبالِ والأشواكِ. بينما استمرَّ الكونت بطلبِ السماحِ والرحمةِ.
استيقظت روبي بعد أسبوعين من إغمائها الذي أثار القلقَ والتوترَ في نفسِ جين. هرعَ نحوَ غرفتها و عانقها بشدةٍ فور أن علمَ بأمر استيقاظها، بينما تيبّست روبي متفاجئةً من فعله.
بعد دقائق، غادر جين غرفةَ روبي من غيرنَبْسِ شَفَةٍ ثم أمرَ الخدمَ بالإعتناءِ بها جيداً…
جين: “ماركو، أخبر الخدمَ أنْ يُجهّزوا الحديقةَ والمقبلاتِ، كذلك أخبر روبي أنني أُريد رؤيتها بعدَ ساعتين..”
ماركو: “حاضر سيدي..”
(في الحديقة)
جين: “أهلًا زوجتي العزيزة روبي، ما رأيُكِ في هذهِ الزهرةِ؟ أحضرتُها لكِ، فهل تقبلينها؟
اندهشت روبي إثر تصرفاتِ جين، فقد وصلَ بهِ الحالُ إلى أن يعانقها ويهديها زهرةً ولأولِ مرةٍ، ردّت عليهِ بصوتٍ مرتعشٍ، وحاجبٍ مائلٍ: “شكرًا لكَ لكن … لماذا طلبتني؟”
جين: “تفضلي بالجلوسِ أولًا. كُلُّ ما في الأمرِ أنني أردتُ رؤيتك …”
اِبتسمت روبي بعيونٍ محتقنةٍ: “حقا! هل لأجلِ هذا فقط؟!… يالسعادتي! شكراً لاهتمامكَ حضرةَ الدوقِ.”
انزعجَ جين من لهجةِ روبي الرسميةِ التي لم يرى لها أيَّ نهايةٍ قريبةٍ، فقال منزعجًا: “توقفي عن مناداتي بحضرةِ الدوقِ، ناديني جين فقط، لاداعيَ لرسمياتٍ بيننا.”
روبي: “حسنًا…جين”
جين: “مارأيكِ في الذهابِ بنزهةٍ غدًا؟ إلى السوقِ أو إلى أيِّ مكانٍ تُريدينهُ، سآتي معك.”
فرحت روبي لِما قالهُ جين فهذا أولُ موعدٍ لهُما، غمرتها سعادةٌ لم تشعر بمثلها قط، كما لو أن مُهجتها قد تخرجُ منْ مكانها، لم تستطع وصفَ مشاعرها المُتضاربةِ.”حسنًا شكرًا لك حقًا، أريدُ الذهابَ إلى أسواقِ الشعب برفقتكَ من دونِ حرَّاسنا، بمفردنا فقط.”
جين: “موافقٌ على ذلك.”
ثمَّ استمرَّ الحديثُ بهدوءٍ لأولِ مرةٍ من غيرِ أيّ مشكلةٍ. حلَّ الليلُ، وأعلمَ جين ماركو وسيزار أنهُ سيخرجُ غدًا رفقةَ روبي في وقتِ الظهيرةِ حتى ينتبهَ لشؤونِ القصر جيدًا.
(في اليومِ التالي)
خرجَ جين رفقةَ روبي منَ القصرِ مرتدين ثيابًا عاميةً ليختلطوا بِكُلِّ أريحيةٍ مع العامةِ، لمْ يأخُذوا معهم أيَّ حارسٍ من الحرسِ، لم يكن الأمرُ خطيرًا فجين أحدُ أمهرِ سيافي المملكةِ. وصلُوا إلى السوقِ الذيِ كانت أصواتُ الضجيجِ والفرحِ تُسمعُ من على بعدِ أمتارٍ بعيدةٍ عنه، كانَ يُقام احتفالٌ لِأفضلِ شُعراءِ مملكةِ جيلان، بينما يمشونَ براحةِ بالٍ، أمسكَ جين بطرفِ يدِ روبي مديرًا وجههُ نحوَ الجانبِ الآخرِ مخفيًا خجلهُ …
روبي: “يا إلهي! هذا المكان جميلٌ جداً…”
وبينما تنظرُ روبي حولها في سرورٍ لفتَ انتباهَ جين عقدٌ مِنَ الألماسِ، فتخيلَها مرتديةً إياه. كان المشهدُ من خيالهِ وهي مرتديةٌ العقدَ جميلًا: “أنظريِ إلى هذا العقدِ. جميلٌ، أليسَ كذلك؟”
روبي: “نعم، إنه كذلك.”
جين: “إذا سأشتريهِ.”
بينما هم يستمعونَ بإنصاتٍ إلى عزفِ لحنٍ مشهور بآلةِ الكمانِ. الآلةُ المُفضلةُ لجين و روبي فقد كانت بدايةَ حبِهما، رأتهُما فتاةٌ قصيرةُ القامةِ ذات شعرٍ أصفرٍ ذهبي، وجنتاها يملؤهما النمشُ، مرتديةً ثوبًا جميلًا. يرافقها رجلٌ ذو شعرٍ أخضرَ ناعمٍ، معتدلُ القامةِ يرتدي بدلةً كبدلةِ النبلاءِ، يعلِّقُ على خصره سيفًا. ركضت تلكَ الفتاةُ باندفاعٍ قاطعةً ذاك السلامَ الذي دارَ بينَ الزوجينِ لتحتضنَ يدَ جين إثرَ غيرةٍ قد أعمتها: “جين، حضرةَ الدوقِ جين ….”
جين: “اخفضي صوتكِ رجاءًا… سوف يسمعُك العامة آنسة لونا…”
كانَ جين منزعجًا من تصرفِ لونا الوقحِ فكيفَ لها أن تحتضنَ يدهُ بهذهِ الجرأةِ. بينما كانتَ روبي تستذكرُ ماضي رؤيتها خطبةَ لونا وجين بعدَ طلاقهما مُتخليًا عنها وعن طفلِهما. فاحترقَ فؤادها حينما رأت لونا، رغمَ أنهُ ماضٍ لم يحدُث حتى الآن، إلا أنّ الخوفَ وأثرهُ لازالَ باقيًا في جوفِ فؤادها.
تحدثت لونا بِخُبثٍ: “روبي لقد اشتقتُ لكِ، لمْ أركِ منذُ حفلةِ الأمير ايزيك.. هلّا تَمشَّيْنا معًا؟ لنترك الرجالَ بمفردهم”.
روبيِ : “عذرًا آنسة لونا ولكن…”
جين: “فلتذهبَا معًا نحنُ خلفكما.”
أثناءَ تجوالِهم استمرت لونا مزعجةً روبي بكثرةِ أسئلتها التى لا تُفيد. ” لماذا أنتما هُنا؟ وماذاَ تفعلان؟ وماذا يحبُ الدوق؟ ” متناسيةً أدابَ الحديثِ و أخلاقَ النبلاءِ وأن التي تُخاطِبُها زوجةُ الدوق. فجأةً، أسقطت لونا نفسها على الأرض ثم تحدثت بصوتٍ عالٍ وهي تبكي وتشهق: “حضرةَ الدوقة روبي أنا أسفة…لم أقصد أن أقولَ لكِ ذلك رجاءًا اِغفري لي.”
روبي: “ماذا تقصدين، ماخطبكِ؟”
ذُعرت روبي من تغيُرها المُفاجئ، فهي لم تفعل شيءًا، فلماذا تبكي وتعتذر؟!.
جيلبرت: “آنسة لونا ماذا حدثَ لكِ؟…هل انتي بخير؟”
جين: “هل أنتم بخير؟”
(في تلك الأثناءِ كان عامةُ الناسِ ينظرون إليهم بسببِ الجلبةِ التي افتعلتها لونا.)
لونا: “الدوقةُ دفعتني بعدَ أنْ قلتُ لها أنهُ عليهاَ أنْ..تبتعدَ عن الأميرِ ايزيك لأنها متزوجةٌ منَ الدوق بالفعل.”
تنهدت روبي تنهيدةً طويلةً وهي تنظُرُ نحوَ لونا: “كلّا… لا، هذا كذب.”
لونا: “أتقصدينَ أننيِ (تشهق).. كاذبة!.”
تحدثَ جين بنبرةٍ غاضبةٍ وحازمة: “كفى، لنعُد إلى القصرِ.”
الآن، بدأ الشك يتملكهُ شيءًا فشيءًا نحو روبي، فأيُّ وجهٍ من وجوهها هو الحقيقي؟ كيفَ لها أن تحُبَّ الأميرَ بينما هو زوجها؟ رقصت مع الأميرِ في حفلتِهِ وأمسكت بمعصمهُ في حفلةِ الكونتِ، والآن غاضبةٌ من لونا صديقةِ طفولتهِ وأبنةِ خالتهِ العزيزةِ دفاعًا عن الأمير! لم يعد يملكُ أيَّ عذرٍ يُقدِّمهُ لروبي بعد ما حدث الآن، ليس له رفيقٌ غيرَ الشَّكِ.