أنستازيا: سر السحرة - 2
دخلت ‘أنستازيا’ غرفتها الصغيرة، ملجأها الآمن، المكان الوحيد الذي تستطيع أن تكون نفسها، بدون أن يُحكَمْ عليها، أخذت خطوات بطيئة نحو السرير محدثةً صوت صرير الخشب تحت نعلِ حذائِها كلما اقتَربتْ من حافة سريرها الذي يتوسط الغرفة، ارتمت عليها تدفن رأسها بين الملائات ولم تمضي دقيقةً واحدة منذُ دخُولِها الغرفة إذ بها تشرع بالبكاء مبللةً أغطية سريرها البيضاء بدموعٍ لم تكن جديدة عليها، لم تكن هذه المرة الأولى ل ‘أنستازيا’ بالبكاء لوحدها داخل غرفتها، لقد تعودت على هذا، لقد حفظت جدران غرفتها أصوات شهقاتها، وحَفِظَتْ وِسَاداتُها طعمَ دُموعِها.
شرعت ‘أنستازيا’ بإعادة التفكير بما حدث، حديثها مع والدها ثم صراعها مع ‘سيسلي’، امتلأ عقلها بأفكار سوداوية عن احتمال كونِها ساحرة، وكيف سَيَكرَهُها والدها الكَارِه للسحرة والذي أمضى حياتهُ كُلَّها يخدم في الجيش، يرى أبشع المناظر كل يوم لأشخاص قُتِلوا من طرفهم، بُتِرَت أطرافهم، عُذِّبوا بوحشية فقط لتحرير البلاد ومنح شعبهم السلام المنتظر مِن عقود.
بينما هي في منتصف تفكيرها سمِعتْ صوت دق على نافذة غرفتها، صوت حجارة صغيرة ترتطم بزجاج النافذة، ثم سَمِعت صوتًا ينادي باسمها، وعند سَمَاعِهِ عرِفت فورًا من الطارق، لذا أسرعت بمسح عيونها المُنتَفِخة والمُحمَرَّة ثم فتحت نافِذَتها ليتسلق الطارق الشرفة بمهارة وكأنهُ متعودُ على ذلك، وما إن وقَفَ أمامها صبيٌ بنفس عُمرِها، أطول منها ببضع إنشَاتْ فقط، ذا شعرٍ كستنائي اللون وعيونٍ بنفس البهاء، ونَمشٍ كثيف منتشر في أنحاء وجهه ورقبته، ‘إيثان’ رفيقُها الوحيد في معارِكِها الطويلة، الشخص الوحيد الذي هي متأكدة أنه يستَقبِلُها مهما كانت.
ابتسمت قليلًا عندما دخل، لم ينتظر حتى أن تدعوه بل أخذ مكانه المعتاد على الأريكة التي أقنعت أنستازيا والديها بوضعها داخل غرفتها من أجله بعدما أزعجها طويلًا عن كون غرفتها لا تحتوي على مكان مريح ليستلقي عليه عندما يأتي لزيارتها أو عندما يهرب من المنزل.
“إذن أخبرني لما أنتَ هنا؟، لقد رأيتك صباحًا هل هرَبْتَ من المنزل بِسَبَبِ والديك؟ هل تشاجرا مجددًا؟ بحقك إنها المرة الرابعة هذا الأسبوع”
“لا لم يتشاجرا لقد خَرَجْتُ من النافذة لآتي إلى ه- لِمَ عيناكِ مُحْمَرَّتان؟ هل كنتي تبكين؟”
استقام من الأريكة مسرعًا ثم هرع واقفًا حيثُ تقف ‘أنستازيا’ آخِذًا نظرة على عينيها الزرقاء الدائرية التي انتفخت واحمَرَّت من البكاء، كانت على وشك فتح فَمِها للتهرب من أسئلته لكن..
“لا تُفكِري حتى بالكذبِ علي، أخبريني الحقيقة”
عندما قاطعها قارئًا أفعالها وأقولها، استسلمت وأخبرتهُ بكلِّ ما حدثَ معها هذا اليوم، مِن تَحَدُثِ مُعلِّمِهم عن الفحص ووالدها كذلك إلى نقاشِها الحاد مع ‘سيسلي’ الذي أنهاه ‘مالوري’ في الوقت المناسب، قبل أن تنفجر أعصابها من التفكير والتفكير والتفكير بما قد يؤول إليهِ يومُ غد.
“لقد أخْبَرِتْكِ صباحًا ‘آني’ أن يوم الفحص مهم لكنك بكل تأكيد لن تكوني ساحرة، أهلُكِ الخالة ‘كاثرين’ والعم ‘إلفيس’ ليسوا سحرة، وإخوتك الأكبر كذلك، كونُكِ ساحرة يعتمد على الدماء لذا ما دمتي لا تمتلكين دم سحرة ستَكونينَ بخير”
“أعلم ذلك، لقد قال أبي و ‘مالوري’ نفس الشيء لكن قلبي غيرُ مطمئن لنتيجة الغد، أراهن على أنني سأفقد عقلي بحلول الغد”
“لا تقلقي، ها أنا ذا أمامك سأخضع للاختبار غدًا أيضًا لكنني لست خائفًا تعرفين لِمَ؟ اسأليني لِمَ؟”
“لِمَ لستَ خائفًا من النتيجة؟”
“لأنني ببساطة لا أستطيع تغيير النتيجة وبالطبع لأنني من المستحيل أن أكون ساحرًا”
“نعم كِلا والديك مقاتلين رائعين في جيش محاربة السحرة لذا بالتأكيد لن تكونَ ساحرًا”
“وأنتِ أيضًا لن ينتهي بِكِ المطاف كساحرة كذلك، تحلي ببعضِ الثقة”
منذُ الطفولة المُبَكِّرة كانَ ‘إيثان’ دائمًا متواجدًا لدعم ‘أنستازيا’ رغم كلِّ الظروف، هو صديقها الأقرب والوحيد، ولطالما كان سندًا لها كأخٍ حقيقي، لذا اقترب منها وحضنها ليطمئنها بأنَّ كل شيء سيكون على ما يرام.
” حسنًا، يجب أن أعود إلى المنزل قبل أن تكتشف والدتي أنني خرجتُ من المنزل تعلمين بأنها لن تتردد بتركي خارجًا لأتجمد طوال الليل، وأنتِ أيضًا اذهبِ للنوم، سنلتقي غدًا صباحًا”
و كما قَدُم، رحلَ ‘إيثان’ تاركًا ‘ أنستازيا’ بقلبِ مطمئن وابتسامة على وجهها، مدركةً أن حديثًا واحدًا معهُ كان كفيلًا بإعادة أي شكوكٍ أو ظُنُون، لنتمنى فقط أن يمضي يومُ غد على خير.
…………………………………
جلست ‘كاثرين’ على سريرها بتعابيرٍ قلقة ومضطربة تعيد التفكير في هاجسة راودتها عندما كان ‘ألفيس’ يُحَدِثُ ابنتها الصغرى عن يوم الفحص السنوي، هل مِن الممكن أن تكون ابنتها الصغرى ساحرة؟ لم يُغادرها هذا الوسواس منذُ ذلك الوقت.
جلس ‘ألفيس’ بجانبها واضعًا كَفَّ يدِهِ على أسفل ظهرها يمسح عليه ليهدئها.
“أنتِ بخير عزيزتي؟ بَدوتِي قلقة منذُ انتهائِنَا من طعام العشاء”
“في الواقع، راودتني فكرةٌ سيئة قبل قليل لذا أريد سؤالك بحُكم عملك، هل تعرف طريقة إجراء الفحص؟”
“نعم أنه من الأساسيات نتعلمه في مرحلة دراستنا في كلية الطب العسكرية، لكن لِمَ تسألين هذا السؤال مِن دونِ سابق إنذار؟”
“هل من الممكن أن يتبين في فحص الغد أن ‘أنستازيا’ ساحرة؟”
“لا هذا مستحيل، تنتقل قدرات السحرة عن طريق النسل، و نحن لا نملك سحرة من نسلنا لذا اهدئي واطردي هذه الفكرة من رأسك عزيزتي”
أراد ‘ألفيس’ تهدئة زوجته لذا طبع قبلة على جبينها يُحِثُّها على التوقف عن التفكير بأشياء مستحيلة الحصول والخلود إلى النوم ابتسمت هي الأخرى منفذة ما قاله.
…………………………
كان الرواق واسعًا ممتلئًا بالأطفال الذي وقفوا على جانِبَيْهِ، كانت تعابير الخوف طاغية على المكان، بعضُ الأطفال خائفين، والآخرون غاضبون، وبعضهم قد ذرفَ الدموع وهم ينظرون إلى جَلاَّدِهِم الذي كانَ يمشي في الرِّواق ذهابًا وإيابًا ممسكًا عصًا من خشب الصنوبر التي تذوقوا منها صنوفًا من العذاب الأليم، وبيده الأخرى يُمسِك سوطًا جلديًا أسود، ذو مقبضٍ عريض لطالما أبحر عَبَرَ ظهورهم وعَرَفَ طريقه إليها، والذي سَبَقَ ورسم كلَّ أنواع الخطوط والأشكال ذاتَ الألوانِ المختلفة المتدرجة من الأحمر الغامق إلى البنفسجي الغامق.
نطق أخيرًا مدير الميتم ضاربًا بِسَوطِه الهواء محدثًا ضجة من بكاء الأطفال وشهقاتهم العالية والتي لم يشفق لحالها لا هو ولا المربيات اللواتي ساهمن في عذاب الجميع.
“مَن مِنكم أيها المسوخ تسلل إلى المستودع وسرق الخبز ليلة أمس؟”
لم يتجرأ أحد عن الإجابة وبقوا ساكنين غيرَ قادرين عن الاستغناء عن أحدٍ منهم، لقد كانوا جميعا إخوة، لن يتركوا أحدًا منهم يعاني خاصة إذا كان هذا الشخص سرق لإطعامهم لا لإطعامِ نفسه.
عندما قوبل بسكوت الجميع ورفضهم إخباره عن من سرق ليلة البارحة، أعاد المدير ضرب سوطه في الهواء محدثًا صوتًا أقوى تعالى له صوت شهقات الأطفال الأصغر سنًا.
“إن لم تريدوا الاعتراف بِمَنْ فعلها ستنالون جميعًا عشرَ جلدات ولن تتناولوا أيَّ طعامِ ليومينِ كاملين وعندما تنتهي تلك العقوبة ستنالون قطعة خبز واحدة في اليوم، لكن إن اعتَرفتُم من هو الجاني سيعاقب هو فقط، لكم الاختيار”
ظنَّ الجَلاَّد أنه بهذا سَيُخيفُ الأطفال فيعترفون بِمَنْ سرق الخبز، ولكن تفاجئ بعدم حراك أو فَتح أيَّ أحدٍ من الأطفال أفواههم أبدًا، جعلت وِحْدَتهُمْ وعصيانهم لهُ دَمَهُ يغلي وعينيه تشتعل بشرارات الغضب.
“حسنا أظنُ أنكم اخترتم العقاب الجماعي”
بدأ بسحب أحد الأطفال الأصغر سنًا والذي كان الأقربَ لهُ، ليبدأ الطفل بالبكاء و التوسل لتركه، لكن المدير لم يشفق عليه و رفع سوطه عاليا جاهزا لضرب جسمه الصغير، حتى دوى صوت طفلة في الحادية عشرة.
“أنا من فعلت، لقد سرقت الخبز، عاقبني لوحدي أترك بقية إخوتي”
“أخيرا قررتِ الاعتراف، لا تَظُني أيتها البطلة أنك سَتُكافئينَ على شجاعتك لأنك ستذوقين لونًا جديدًا وطريقة تعذيبٍ جديدة هذه المرة”
أمسكَ المدير بيدِ الشابة الصغيرة يجُرها وراءه لِمكتَبِهِ بِعُنف، و الشيء الوحيد الذي سَمِعَهُ الأطفال تلك الليلة هي صوت صرخات أختهم التي دوت في جميع الميتم والتي لم تتوقف حتى الفجر.
اِستيقَظتْ كاثرين مذعورة من عودة تلك الكوابيس والذكريات لها بعد اِنقِطِاعِهِا لسنوات، لكن هذه المرة عزمت على تحقيق ما عقدت العزم على فعله ومهما كلفها الثمن باهظًا.
……………………………………………………
يتبع