أنستازيا: سر السحرة - 3
أشعلت ‘كاثرين’ قنديلًا، واتَّجهت إلى ناحيةِ زوجها من السرير. لقد اتخذت قرارها، لن تسمح بما حدث لها بأن يتكرر مع أطفالها، هزَّت جسد ‘إلفيس’ ببطئ مناديةً اسمه بخفة لإيقاظه من نومه.
“ماذا هناك؟… ألم تنامي؟ ماذا حدث عزيزتي؟ لمَ وجهكِ شاحبٌ هكذا؟”
“رجاءً، قم بفحص ‘أنستازيا’ قبل الغد”
“ما الذي تقصدينه؟ ستُفحص غدًا، لمَ عليَّ فحصها الآن؟”
“أرجوك قم بفحصها، لستُ مطمئنة بتاتًا مِن النتيجة. أريد أن أعرف، لا أستطيع النوم بسببِ القلق، لقد نهشتني الأفكار والكوابيس”
“هل سترتاحين لو قمتُ بفحصِها الآن؟”
لم تجُبه ‘كاثرين’ بل اكتفت بالإيماء برأسها، والرَّمق بنظراتٍ جادة ومتعبة في الآنِ ذاته.
استقام ‘إلفيس’ وأخذ حقيبتهُ الطبية من الخزانة، وطلب من زوجته أن تجلب له أعواد كبريت، وتوجه إلى غرفة ابنته الصغيرة، بقلبٍ غير مطمئن، وعقلٍ مليئ بالأسئلة، لمَ زوجته قلقة لهذه الدرجة من احتمالية كون ابنتهم ساحرة مع أن كونهم جميعًا بشر؟ ابتلع هذا الشعور طارقًا باب غرفة ابنته موقظًا إياها من نومها ومن على سريرها، واصطحبها إلى غرفةِ المعيشة، حيث وجد زوجته هناك ممسكةً بعلبةٍ من أعواد الثقاب بيديها المرتجفتين.
اقتربت ‘كاثرين’ من أبنتها التي تجلَّى على ملامحها القلق والارتياب من تصرفات والديها المثيرة للشك، أخذت والدتها بيدها تجرها نحو أريكتهم القديمة، مشيرةً لها بالجلوس عليها، فأطاعت بينما كثُر الشك والخوف على ملامحها عندما جلس والدها على حافة الطاولة المقابلة لها.
فتح ‘إلفيس’ حقيبته الجلدية مخرجًا منها حقنةً وأنبوب اختبار، ثم نظر إلى ‘أنستازيا’ الصغيرة المرتعبة مما يحدث أمامها. وضع والدها كفَّه على سطح يدها لكي يخفف من خوفها، ثم قال معيدًا محاولته في جعلها تُهدِّئ من روعها.
“أعرف أنكِ خائفة، لكن اهدئي لن يحصل أي شيءٍ سيء، إن والدتك قلقة من نتائج الغد لذا سأقوم بفحصك الآن، فقط ليطمئن قلب والدتك وتطمئني أنتِ كذلك، حسنا؟”
اكتفت ‘أنستازيا’ بهزِّ رأسها واضعةً على وجهها ابتسامةً متوترة، لكن كانت جيدة كفايةً لإقناع والدها بأنها جاهزة وتريد هذا أيضًا، مع أنها عكس ذلك، لقد أرادت أن تعرف غدًا مع جميع أطفال المدينة، وأن تحتفل وترقص مع زملائها، وتستمتع معهم بالمهرجان، لكن بما أن أهلها أرادوا القيام به الآن فلن تعترض على قرارهم.
عقَّم والدها يدها بالكحول الطبي، وقرَّب الحقنة، الطبِّية الكبيرة إلى ذراعها غارزًا إيَّاها عميقًا ساحبًا كمية من دمها، بينما تحاول ‘أنستازيا’ إخفاء الألم الذي انتشر عبر كافة يدها كلما سحب والدها كمية أكبر من الدم منها، ولم يخرجها إلا بعد أن استخرج كمِّية كافية من دمها، ساكبًا إياهُ في الأنبوب الطبي، ثم أشار لزوجته حتى تناوله أعواد الثقاب، وقبل أن يشعلها نظر إلى زوجته، ثم ابنته، وقال:
“تتم عملية الفحص عن طريق تعريض الدم للنار، لذا سأضع عود الثقاب داخل الأنبوب، إذا ما انطفئ عود الثقاب؛ فهذا يعني أنكِ بشرية عادية، وإذا اشتعل الدمُ بنارٍ حمراء؛ فهذا يعني أنكِ… ساحرة..”
أشعل ‘إلفيس’ عود الثقاب وحدَّق الجميع فيه بتوتر، الآن تراود الجميع نفس الأسئلة، ماذا سيحدث؟ هل سيشتعل الدم؟ ماذا سيحدث لو اشتعل؟
تردد ‘إلفيس’ عندما التقى بصره بنظرات ‘أنستازيا’ القلقة وعينيها البريئة الدامعة، وإلى زوجته التي رمقته بنظرات ثابتة و جدية معهودة منها، غير داريةٍ أن يدها الموضوعة على كتفه ترتجف. ألقى بعود الثقاب المشتعل الذي وصل إلى أنامل يده محرقًا إياها بشكلٍ طفيف، وما هي إلا لحظاتٌ فقط، لحظاتٌ حتى بدأت أعين ‘كاثرين’ بالاتساع، وما عادت قدماها قادرةٌ على حملها لثانيةٍ أخرى، سقطت أرضًا تحدق بالأنبوب، بينما حدَّقت أنستازيا’ بتعابيرٍ شاحبة و عيونٍ حمراء لا ترمش أو تتحرك، فقط تنظرُ للأنبوب الذي بين يدي والدها، وقد تجمَّد ‘إلفيس’ بمكانه غير قادرًا على الحراكِ هو الآخر، مسقطًا الأنبوب المشتعل أرضًا، والذي بدوره أحرق السَّجادة، لقد كانت هذه اللحظة التي لم يتوقعها أيٌّ منهم.
لم يتحرك أحدٌ منهم لعدةِ دقائق، حيث كانت النيران قد انتشرت، و خرج الطفلين الآخرين بسبب رائحة الحريق التي وصلتُ إلى مضاجعهم، معتليةً وجوههم ملامح الصدمة. أسرعوا لإطفاء النار حين لم يتحرك أي من والديهم ولا كأنَّ نارًا على وشك حرق المنزل أمامهم.
بعد انطفاء النار نهضت ‘أنستازيا’ من الكرسي متجهةً إلى غرفتها راكضة، مغلقةً الباب خلفها
………………………………………………….
أنستازيا
لقد مضى أسبوعان، أسبوعان من اليأس، من الإحباط والخِيبة. لم أبرح غرفتي منذ تلك الليلة المشؤومة، ولم يدخل غرفتي إنسيٌّ كذلك، الشخص الوحيد الذي قدم لزيارتي هو “إيثان”، لقد جاء يوم المهرجان لكنه طُرد من قبل والدي ومع ذلك لم يفقد عزمه على زيارتي مطلقًا، حيث تردَّد إلى هنا كل يوم طوال الأسبوعين الماضيين، يطرق بابنا ويستمر بالتعرض للطرد مِن قِبل والدي ووالدتي، ثم يبقى ساعاتٍ طويلة تحت نافذتي يُحدثني ويطلب مني فتح النافذة والحديث معه، غير عالمٍ أنني ممنوعةٌ من الحديث معه عن فحوى تلك الليلة، أو عن سبب توقفي عن الحديث معه.
…………………………..
كان وقتُ الظهيرة، ظهيرةُ اليوم الثالث بعد المهرجان، حيث انقشعَت وتبددت الليلة التي دمرتُها، وسرقتُ آمالها، وحرمتُها أحلامها، وجرَّدتها من كل ما تملك، مع ذلك لم يتبدد حزنها، ولم تُسرق تعاستها، ولم تعُد أحلامها، لقد تمنت كلَّ دقيقة أن تستيقظ، لقد تمنت أن تكون قد غرقت بنومٍ عميق وداخل كابوسٍ عظيم، وعندما تستيقظ يستقبلُها أهلُها، ولا تكون ساحرة، وأن تُحبها عائلتها كما اعتادت، مع ذلك لم تتحقق أمنيتها بالطبع، فما تعيشُه هو على أرضِ الواقع.
دخل والدها غرفتها وتعابير البرود والاشمئزاز تعلو محياه، الذي اعتاد على حمل نظرات الحب والفخر .
توقف ‘إلفيس’ عن تقدمه داخل الغرفة المظلمة حين قابل حافة
سريرها، واقفًا بعيدًا عنها ببضع إنشات فقط، ثم حدَّق بابنته الصغيرة المُستلقية واللحاف يُغطي جسمها بالكامل. سحب الغطاء عنها مظهرًا جسمها الصغير النحيل، وبشرتها البيضاء الشاحبة، وعندما استقامت من وضعية استلقائها السابقة معتدلةً على السرير؛ ظهر وجهها المُتغير الجديد، والسواد تحت عينيها، غير أن حالتها المزرية لم تزعزع في قُرارة نفسه شيئًا، ولم يتراجع عمَّا ينوي فعله.
“لقد أصبحت زيارات ذلك الشقي مزعجة للغاية، ستكتبين رسالة له تعلمينه أنك ستذهبين إلى مدرسة داخلية وأنكِ لا تريدين أن تتحدثي معه مرة أخرى، ولا تتجرئي على إخباره هو أو غيره عن كونكِ ساحرة قذرة.”
“هل أستطيع أن أعطيها لهُ شخصيًا على الأقل يا أبي؟”
“لا سأُعطيها ل ‘مالوري’ عندما يعود من مدرسته، أنتِ ممنوعة من التواصل مع أي شخص خارج حدودِ هذا المنزل”
قال ‘إلفيس’ ما عِنده وسار خارجًا من الغرفة، محطمًا أيَّ أمل بقي لدى ‘أنستازيا’ أن والدها سيسمح لها برؤية صديقها الوحيد وتوديعه، وقبل أن يُغادر والدها الغرفة؛ طرحت عليه سؤال آخر
“هل حقًا سترسلني لمدرسة داخلية يا أبي؟”
“هل تظنين أن أي مدرسة في ‘موريا’ سترضى باستقبال وحشٍ مثلك؟ ستبقينَ كلَّ أيامك البواقي داخل هذه الجدران ما دمتُ أتنفس”
أجابها بجمودٍ غير معهودٍ منه، مُصرًا على تذكيرها بحقيقتها البشعة في كل فرصة مُتاحة، ثم همَّ بمغادرة الغرفة مغلقًا الباب بعنف، لم يفعل شيئًا غير ترسيم حقيقة أنها خسرت والدها الحنون إلى الأبد.
……………………….
عصر ذلك اليوم دخل ‘مالوري’ غرفة ‘أنستازيا’ بغيةَ رؤيتها ، أخذ الرسالة التي أمرها والدها بكتابتها ليوصلها إلى ‘إيثان’ غير عالمٍ بحالةِ أخته المتدهورة، فعندما رأى الكربَ والخرابَ داخل عينيها وآثار الحطام والانهيارات على وجهها؛ أدرك كم أحدثت ليلة الرابع من كانون الأول من زلازل وانهيارات في روحها، وطوال تلك المدة لم يكن هناك من بجانبها يدعمها ويساعدها لتعود كما من قبل.
تقدَّمت ‘أنستازيا’ نحوه صامتة وعينيها دامعةٌ مُحمرة، ثم مدَّت الرسالة له بصمتٍ مُطبق، وبعد جولةِ تحديق مُطولة بينهما؛ كسر ‘مالوري’ الصمت مردفًا؛
“هل تريدين مقابلته على الأقل لآخر مرة؟”
“بالطبع أريد، لكن والدي لن يسمح بذلك مهما حصل”
“تستطيعين التسلل عندما يكون والدي غير متواجد”
“هل نسيت أمر والدتي و ‘سيسلي’ كذلك؟ سيُعلمون والدنا بكل تأكيد”
“لا تقلقي سأتدبر الأمر، بعد يومين سيذهب والدانا لاجتماع الأهالي في مجلس المدينة، و لن يعودا إلا مساءً، و ‘سيسلي’ أستطيع أن ألهيها طوال اليوم، لذا… ما رأيكِ؟”
-
- لم ترُد ‘أنستازيا’ عليه واكتفت بمعانقته، كما اكتفى هو أيضا بالابتسام والتَّربيت على ظهرها مُطمئنًا إياها أن خطته، ستنجح وستستطيع مقابلةَ صديقها مرة أخيرة قبل وداعٍ قد يكون الأخير، ثم همَّ خارجًا بعد بعثه شرارةَ أملٍ جديد داخلها.