إيروسيا - 1
في هذه الفسحة الفسيحة من الوجود، تنبض قلوب طاهرة كالسماء الصافية التي تتأرجح بين اللمسات الأزرق السماوي والنقاء المعصوم، وتسبح فيها غيوم بياضها كالقطن، تطفي بعضاً من شمس الأحزان. وغير أنها قد تلفحها سعير المعاناة، تنقلب السماء مذبح القتام؛ حيث تتخلى الغيوم النديّة عن وقارها لتصير غياهب الأسى والبرق الغاضب، تصبُ جام غضبها وتعزف سيمفونية الرعد الهادر، صاغة من أدمع السماء معزوفة تليق بالقلب النازف، ومن ثم، تطهر السماء نفسها وتولد من جديد، بريئة ومسالمة، متحررة من كل دلالات ألمها المتخفي.
أيحتضن هذا الكون بشراً بمثل هذه اللوحة الطبيعية؟ أطيافٌ يكتنفها الجمال بإبتسامة خالدة وقلب رحيم وصدر يمور بالطهر وإن عصفت به أمطار الوجع وظلماته، يخفي خلف العيون هدير المعاناة، آثر السكوت حذراً من أنياب هذا العالم المتلبد بالقسوة. يتساءل في سهد، هل ستأتي اللحظة التي ترسم الكدر على صفحة قلبه الوضاء، مخلفةً وشماً من سوء؟
أيكمن في طيات الأرض من هم من هذا النمط الفريد؟ أجل، قد يختبئ خلف كل زاوية، لكنه، لم يشهد بعد وحي تلك الأرواح. كل مخلوقاته التي شهد جمال قناعها تحجب عن العيون أعماقًا تستوطنها المرارة والحقد الدفين.
يحلم بأمل شديد، يرتجي من فلك الأيام، بأن يفسح له مجالًا يلمح فيه الانفس ويرى أشباه قلوبهم، يعرف إيقاع أنفاسهم ويدرك كيف يمتزج مع خفقانها. مع أنها قد تكون حلماً خارقاً للعادة، يظل ذلك الضرب من الأماني ينبت في ركن نفسه مؤمناً بيوم يصير فيه الحلم حقيقة.
_أخي… يا أخي… أوريون.
صدى النداء يتردد في الأفق، وتلك العينان المتسائلتان تحوطهما هالة من الحيرة. متى خرج من غفوة الوعي، تُرى؟
_لماذا تغرق في أفكارك بذاك العمق؟ صوتي لاقى صداك مراراً لكن لا جواب.
_كنت أغزل خيوط أفكاري مع زرقة السماء.
عاد يوجه ناظريه إلى السماء، لكن معها إشكالية ألقت بثقلها على جلسة الأخوة، تساؤل أثقلت كلماته الهواء حولهما.
_أتعتقد بأن الزمن قد يغسل قلبي بلون العتمة، فيصير كقطعة الليل الدامس؟
نيك، غارق في تأمل وجه أخيه، لم يلحظ أن نظرات أوريون قد فرت بعيداً نحو لوحة الزرقة المعلقة خارج نافذة الطائرة، وكأنها ستثقب جمجمته بحدتها.
_لا ترمقني بهذا النظر المعمق، إنها مجرد خاطرة، أغفلها.
أدار نيك رأسه يستوعب وجوه من معه في الجو، لكنه سرعان ما عاد لينظر إلى أخيه السارح وتطل على ثغره ابتسامة صغيرة.
_لربما يأتي اليوم الذي نشعر فيه بالعزلة، نفتقد قرب من أحببنا، ونتساءل لاحقاً لما لم نكن أشد إحساساً بوجودهم، لما لم نقدّر وجودهم كما يليق. وقد يمر بنا يوم نتجرع فيه مرارة البغضاء والغل تجاه شخص ما، وقد يبدو لنا أن قلبنا يشرب من غدير الظلمة. لكن ثمة جزء من الفؤاد بقي بلون الثلج، لا أظن أن القلب يتخذ الحلكة ثوباً له بالكلية، بل هناك دائماً بصيص من الضياء يتوارى خلف الضباب، جزء منا ينبض بالنور الذي يقوى على غمر السواد. ينبغي لنا أن نضخ ذلك النور في رحاب القلب ليعود زاهياً، يمامة محلقة في سماء صافية من جديد.
كانت عيناه تحدقان عبر زجاج النافذة في السماء البعيدة، لكنها سرعان ما تحولت لتلقي بنظرها على أخيه الذي انغمس بالفعل في عالمه الخاص، متسلحاً بسماعات الأذن وشاشة الهاتف. ارتسمت على محياه ابتسامة رحبة، دلالةً على مفاجأة سارة، إذ لم تكن هذه الحالة معتادة من أخيه.
_عليك حقاً أن تفكر في أن تصبح كاتباً.
صاغ عبارته بدعابة خفيفة، ولما وجه أنظاره مجدداً نحو أخيه، استقبله بابتسامة دافئة تنم عن سماع دقيق.
……
“أخي، ألا نتجه مباشرةً إلى المستشفى، أتوسل إليك، أرجوك!”
يتزاحم القلق والتحفز في صوته، وكأن البقاء خارج أسوار المستشفى يثقل كيانه. لم ينقطع صوت التمني حتى لحظة هبوطهما عن درج الطائرة، بينما هو يستسلم لإصرار أخيه على التجول بين المكتبات والمعارض، دون أن يسنح له الوقت كي يستريح.
“أوه،أيها الببغاء الثرثار، هل ستظل تطن في أذني؟ الأمتعة ثقيلة، يلزمنا قسط من الراحة قبل أن نغدو إلى المستشفى. لن يصيبك مكروه إن جلت عيناك عنها قليلاً. هيا، تقدم ولا تقاوم.”
انتفخت خديه، علامةً على استيائه الطفيف، واحتضن حقيبته بين ذراعيه وراح يسير خلف أخيه بخطوات مترددة ومنتظمة.
.
.
_أخي، هل لاحظت أن شيئاً ما في المنزل اختلف؟
كان صوت أخيه الخافت كفيلًا بإعادته من رحلة أفكاره إلى عتبة الحاضر، ليرفع بصره نحو المنزل الواقف أمامهما.
_غير النباتات التي احتضنت جدرانه، لم يتغير شيء يُذكر.
تمتم بها متقدماً نحو باب المنزل، حيث صوت الباب الصارخ بالصمت وبرده المائل للشحوب كأنه يعد العابرين بقصص أشباح، ولكن ما أن تخطو عتبته حتى تدرك الفارق الجلي؛ البيت يفيض رحابة ونقاءً، كلّ تفصيل فيه يشهد على تحفيز صاحبه على النظام والطهارة. استقبلتهما رفوف المكتبة بوهجها الأنيق، وديكور يعود بالذاكرة إلى أزمان قديمة.
انتشرت رائحة الطعام في أرجاء البيت، ما دفع نيك إلى اقتفاء أثر الرائحة نحو المطبخ، بينما كان أوريون يشق طريقه حاملًا الحقائب صعودًا. بعد أن وضعها، هبط الدرج ليجد عمته في انتظارهم.
_عمتي الغالية، كيف حالك؟ لقد اشتقنا إليكِ أشد الشوق.
_بخير، يا بني، وقلبي مملوء فرحاً برؤيتكما بصحة وعافية.
كانت تجيبه وهي تسعى لتخليص يديها برفق من أحضان نيك الدافئة التي كانت تكاد تخنقها في حماسه.
استدار أوريون نحو الجدران ملتقطًا الصور التي تزينها بعيون مشحونة بالذكريات واللوعة.
“عزيزي أوريون، ألا تنوي الذهاب للمستشفى اليوم؟ آريا في شوقّ لرؤياكم.”
حول نظره إليها، وابتسامة صافية تسبح على شفتيه.
“لن نذهب اليوم؛ سنزورها غداً. الليل يقترب وأبواب الزيارة ستغلق قريباً.”
“جيد جداً يا عزيزي. إذًا، هل تساعدني في تجهيز المائدة؟ ولا تنسى نيك… قبل أن يلتهمه الكلب.”
انفلتت منه ضحكة خفيفة وهو متوجه نحو مكان الكلب، ليلقي التحية على رفيق البيت الآخر.
…..
تحت قبة السقف المعانقة لأفكاري المنثورة، كان قلبي يرسم شروخاً على لوح الذكريات. تلك الجدران، متوشحة بالخضرة ومُصبوغة بلون بيج يريح الناظرين، وذاك السرير الذي يتلألأ بنعومته وبوسترات الأفلام التي كنت أعلقها بعناية بجانب النافذة… ما من شيء تغير هنا منذ رحلتي الأخيرة. ها قد مضى عامان، الحنين يغمرني لهذا المكان.
شريط الذكريات يجرفني إلى الأيام التي كنت فيها بعمر العشرة…
…
“أوريو… أوريو… أوريو”
كان نداء نيك الطفولي يتردد في الأرجاء، وهو يداعب لقب أخيه الكبير بقصد المرح.
“أمي، عمتي، تعاليا وانظرا إلى نيك، يطلق عليّ اسم بسكويت الأوريو مجدداً، أخبراه أن يتوقف، أرجوكما.”
الاثنتان تبادلتا النظرات وانطلق منهما ضحك خافت، يعلو رقة اللحظة، فمنذ أن ذاق نيكولاس طعم تلك الحلوى، لازمته مقارنة طريفة بين اسم البسكويت واسم أخيه، وما كان من أوريون إلا أن يظهر تحمله لأخيه الصغير.
“حبيبي نيك، لا تشاغب أخاك بهذه الطريقة، يا صغيري.”
تلفظها والدتهما بنبرة مفعمة بالعطف وابتسامة تزين محياها.
“لكن أمي، إنه لقب جميل! أرغب في مناداته به دوماً.”
كانت الأم والعمة تضحكان على روح الدعابة التي يحملها نيك، وكيف كان أوريون يحاول أن يسكت ضجيجه بأيديه الصغيرة.
أيامهما كانت مليئة بالمرح والمشاكسات البريئة، إلى أن جاء ذلك النبأ المفجع بوفاة الوالدة أثناء الوضع، لينقلب مسار حياتهما رأساً على عقب…
.
..
استندت ظهري إلى كرسي الغرفة محاولاً نفض تلك الذكرى المُرَّة. في الحادية عشر من عمري حينما رُزقت أمي بآريا، تلك الحادثة التي أودت بها؛ نعم، توفيت أمي بعد صراع مع سرطان الدم، ومخاض الولادة الذي لم تقوَ عليه. تبقت آريا خلفها، وبقدر ما هو قاسٍ، ورثت الصغيرة مرض الأم، وها هي اليوم تصارع بين خيوط الحياة والموت.
أنا ونيك نبذل قصارى جهدنا، نعمل بجد لتغطية تكاليف علاجها. لقد قررنا العمل خارج البلاد لمدة سنتين؛ أمسكت الكاميرا مصورًا بين اللحظات، وسعى نيك لتكوين خبرته كمدير أعمال في أمريكا. كلتا جبهتي عملنا كانت مسعى لمد يد العون لآريا، والتي بقيت في عناية عمتي، تلك القلب الدافئ الذي لم يتخلَّ عنَّا يومًا واحدًا، حتى بعدما رحل أبي ليبدأ حياة جديدة مع زوجة أخرى إثر وفاة أمي. وحالنا الآن، نقف على أرض الحيرة، غير مدركين لما تخفيه الأيام.
.
..
من ثنايا الستائر، انسلت خيوط الضوء الأولى لتزاحم هدوء غرفته وتداعب جفونه الثقيلة؛ عيناه تتفتحان ثم تُغلقان مرارًا، متبرمةً من إغراق النور لملجأه الدافئ. لم يدرك كم احتاج لتلك الغفوة التي امتدت عميقًا في ليله الماضي. العصافير تثرثر بِحس خارج النافذة، وهو مدين لهذا الصباح بلقاء أشتاق إليه. بعد أن استشف الوضوح، خلع النوم عن كتفيه ونهض يرتب فراشه بعناية.
هبط الدرج خفيفًا كظل، حريصًا على روح السكينة التي غطت على البيت، إلى أن أوقفته صوت عمته قبل أن يبارح الداخل.
“أوريون.”
“نعم، عمتي؟”
“لم أتوقع أن تشرع يومك هكذا من تلقاء نفسك، إنه أمرٌ غير معتاد.”
ابتسم لها بلطف، “هي لمحة زوال، لا تأبهي لها. سأذهب لأطعم الكلب، وعد سريعًا لأساعدك بتجهيز الإفطار.”
كانت قدماه تتجه نحو مأوى الكلب، معلنًا حضوره بمزاج مرح.
“بام… باممم… هل قررت التخلي عن أحلامك أخيرًا؟ يا بامبام، استفق يا صديق الكسل.”
رد الكلب بحركات استياء كسولة، لكنه سرعان ما تنبه لشذى الطعام الذي وضعه أوريون، واستجاب له بمرونة عندما جاءت يداه تربت على جلده.
“أصبحت كبيرًا، أيها السمين. كأن هذا المنزل، مع كل تقدُّمك في العمر، يزداد صغرًا.”
استأنف جولته بين أروقة الحديقة، حيث تناثرت ألوان اللافندر البنفسجي الذي زرعته يديّه ويدي والدته ذات انتظار لآريا. ذلك اللون الذي كانت تعشقه أمه، يعبق الآن بكل ركن من الحديقة، وهو يشعر بالامتنان لعمته ميا التي حافظت على رونق الزهور وروح المكان.
.
.
كانت خطواتهما تتابع بعضها بنهم؛ لقد وصلا أخيرًا للقاء تلك الزهرة الصغيرة التي فارقتهما منذ سنتين.
“آريا… آريا.. أخوك الكبير هنا!”
هكذا نطق نيك، خلف باب الغرفة وحماسه يكسر الصمت، ليجد وجهها الصغير متوجهًا لهُ من خلف نافذة الغرفة، والدموع تهيمن على ملامحها. بلا تردد، تدفق نيكولاس نحوها بعناق يستمد قوته من شوق محتبس، فيما انضم إليهم أوريون بذلك الضمّ الدافئ الذي شهد بكاءً لم يجف لخمس دقائق متواصلة.
“كفاكما، يا أصغر أطفالي. هذا البكاء المبالغ فيه لا ينتهي!”
أطلق أوريون تلك الكلمات وهو متجهم الوجه، ذراعيه مشدودتان أمام صدره بتصميم.
“أترانا نلتقي بعد غياب دام لسنتين، وتأتي أنت لتقطع علينا لحظة عناق حميمية؟ ليتك يا أوريو!”
عتبت آريا بنظراتها الغاضبة المتجهة نحوه.
“ويبدو أنك أيضًا قد تلقفتِ بعض الحماقة من أخيكِ الأشقر. بلا شك، كلاكما يجسد الحماقة في أسمى صورها!”
نظرت آريا ونيكولاس لأوريون بتمعن، وكأنما بتلك النظرة قررا الهجوم عليه انقضاضًا ودهشة.
…
“إلى هنا بالعبث الآن، أنتم الثلاثة! وأنتِ يا آريا، ألم أوصيكِ بالراحة؟ كم مرة يجب أن أعيد؟”
برز صوت الدكتور آرثر فجأة، قاطعًا تصادمهم المرح، ورَمَقَ أوريون الطبيب بنظرة شكر غامرة.
“أعتذر، يا سيدي، لكني لم أرَ أخويَّ منذ سنتين، وبعض الحماس لم يضر بعد.”
“يا عزيزتي، لا بأس. إنه وقت أخذ الدواء الآن، ويمكنكم جميعًا التنزه قليلًا بالخارج لاستنشاق الهواء الطلق.”
أجابته آريا بابتسامة واعدة وعيناها تلمعان بفرحة منتزعة من قلب يرفض الكلمات الأسيرة به..
….
The end part