إيروسيا - 3
عندما رأيتها لأول مرة، كانت تقف هناك مُحاطة بألوان الطبيعة الأخاذة، وكأنها جزء من لوحة ربيعية حية. شعرها الأشقر يتداخل بانسجام مع أشعة الشمس المتلألئة، وعيونها الزرقاء تعكس صفاء السماء في يوم مشرق. بيديها الرقيقتين، كانت تسقي جموع اللافندر، تلك الزهور الأرجوانية التي تفوح منها عطر السكينة. كل حركة منها تُغني هذه المشهد الساحر، وتغرس في روحي شعوراً بالهدوء والجمال، فما كان مني إلا أن ابتسمت بإمتنان لهذه اللحظة العذبة.
حملت كاميرتي في لهفة، إذ كانت كل نية لي تصب في التقاط جمال اللحظة التي يعجز الزمن عن تكرارها. وبينما أنا أعدّ العدسة لكي تحتوي صورتها الملائكيّة وهي تروي الورود، التقت عينينا. اخترقت نظراتها الزرقاء الهادئة إلى أعماقي، نظراتٍ خالية من التعابير، كأنما تخبئ خلف ثناياها أسرارًا عميقة. لم يكن فيها لوم ولا عتاب، ولا حتى الفرح الذي تحمله الروح عادةً. كان ثمة صمت يحيط بتلك النظرات، صمت يُرغم النفس على التأمل والتبصر.
وفي داخلي، شعرت بتموجات من مشاعر معقدة، مزيج من الرغبة في المعرفة والاحترام لتلك السكينة الأبدية التي تبدو عليها. لم أشأ أن أزعج سكونها بزناد الكاميرا، لم أتمكن من تعكير صفو ذاك السلام الخفي. فأنهيت المحاولة لالتقاط صورة كان يمكن أن تبقى للأبد، وأعدت كاميرتي إلى حقيبتي ببطء. ثم، وبقدمين ثقيلتين، انسحبت بهدوء، تاركًا هذا المشهد الأثيري خلفي، وعدت إلى المستشفى حيث يوجد الواقع المرير الذي لم يعد يسمح لي إلا بعيش لحظات الجمال هذه على استحياء.
…….
بعيون براقة ببراءة الطفولة ولكنها تخفي خلفها شيئًا من الإرهاق، تحدّثت آريا،
“أوريون، أعتقد أن عودتك كانت مبكرة جدًا، حدثني، ما الأمر؟”
السؤال البسيط جعل نيك يلتفت برأسه نحو الباب، فضولاً واهتمامًا.
أوريون وضع نظرة تقول كل شيء؛ إنه تفضيل الصمت، وقال،
“دعي هذا جانبًا، لم يعُد بخاطري المكوث هناك.”
ثم جاء السؤال الذي يشعل فتيل التحدي،
“أوريو، من منا سيبقى مع آريا الليلة؟”
تجهمت ملامحه للحظة وقال بصوتٍ تخلله بعض الضيق الشقيقي،
“أولًا، نيك، لا تنادني بأوريو؛ وثانيًا، أنا من سيبقى؛ استعد لتمضية الليلة مع عمتنا.”
رسم نيك تجاعيد العناد على جبينه ووقف صلباً أمام أخيه،
“لا، أنا سأبقى.”
التوتر ذوب في هواء الغرفة حين التقت نظراتهم الحادة كسيوف في مبارزة، قبل أن تقطع آريا الصمت،
“ما رأيكما في حسم هذا بوساطة لعبة حجرة ورقة مقص؟ الفائز يقضي الليلة برفقتي.”
حين تلك الكلمات، تبدد الخلاف وابتسامتهما المتبادلة كانت مزيجًا من المحبة والمرح.
بتزامن مثالي وصوت ممزوج بالمرح والتحدي، صرخا
“حجرة ورقة مقص!”
ترقب كل منهما يد الآخر. تجسد التنافس في اختيارات أصابعهما وفي جزء من الثانية، انحسم الأمر.
“، الفوز لي!”
انطلقت بهجة أوريون وهو يرى النصر يلوح في أصابعه.
بنظرة مصطنعة من الاستياء، وجه نيك الاتهام أثناء ابتسامته،
“يا لك من غشاش، أوريون. ما الذي جعلك تختار الحجرة بالتحديد؟”
أجاب أوريون بثقة غامرة،
“لأنني كنت على يقين تام بأن المقص هو خيارك الافتتاحي!”
تنهد نيك بخفة، وهو يقبض حاجبيه في ادعاء الجدية للحظة. ثم، معلنًا الاحترام للعبة وعقد القرار، حمل حقيبته وأطلق خطاه نحو الباب، ملوحًا بيد متساهلة لإخويه وكأنه يقول،
“ستفوزون اليوم، لكن الغد لا يزال مجهولاً.”
.
.
.
…….
نظرت إيفا إلى الأفق المتحول ألوانه باقتراب الغسق، ثم التفتت بنبرة حانية إلى رفيقتها وقالت،
“يا عزيزتي سيرا، لقد حان وقت العودة إلى الداخل، الظلام يحجب الضوء شيئًا فشيئًا، هيا بنا.”
سيرا، والتي كانت غارقة في التحديق بعمق السماء المتغيرة، أحست بدعوة إيفا، فقالت بهمس خافت،
“إيفا…”
صوتها الرقيق جعل إيفا تصغي بكل انتباه وتسأل بعيون واسعة الفضول،
“كيف تتعاملين مع حدقتين تلمعان لأجلك؟
سيرا هزت رأسها برفق وقد علتها نفحة من الغموض وأجابت ببساطة،
“دعي هذا السؤال جانباً.”
وبهذا، تحركت سيرا نحو باب المشفى تخترق الحدود بين الضياء والعتمة، وتركت إيفا خلفها تعيد ترتيب أفكارها المبعثرة بفعل الاستفهام العابر.
.
.
.
.
………
“الن تنامي اصبحت الساعة العاشرة”
لم تستطع النوم على الرغم من أن الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلا. بدت عيناها ناعسة ومتعبة وهي تنظر إليه، كأنما تبحث عن شيء واحد كفيل بأن يساعدها على الخلود إلى النوم. لم تكن تطلب الكثير؛ فقط قالت بصوت خافت:
“سأنام إذا أحضرت لي كأساً من الماء”.
نهض من مجلسه متنهدًا، مومئًا برأسه موافقًا على طلبها البسيط. خرج من الغرفة وتسللت خطاه في ممر المستشفى المظلم، حيث كانت الظلال تتلاعب على جدرانه. كان جميع الغرف مطفأة الأنوار ما عدا غرفة واحدة أثارت فضوله؛ غرفة مجاورة لغرفة آريا. ومع ذلك، ولما كان مصمماً على مهمته، لم يلقِ بالاً لها وتابع المسير بهدوء، قاصدًا احضار الماء الذي سيمنح آريا بعض الراحة ويساعدها على الانزلاق إلى النوم.
.
.
.
……
استفاق أوريون مع النسائم الأولى للصباح وصوت زقزقة العصافير المنبعث من خارج النافذة، محتكًا عينيه ببطء وملقيًا نظرة عابرة ولكنها دافئة على آريا التي كانت ما تزال غارقة في سباتها العميق. وقف قليلاً يتأملها قبل أن يتحرك متوجهاً صوب الباب بهدوء ليتعثر أقل ما يمكن بسكون الغرفة.
انسابت خطواته صامتة نحو الحمام ليغتسل ويستعيد نشاطه، ثم استدار وخرج إلى الحديقة ليستنشق بعض الهواء النقي.
“أتُرى هذه هي حديقة اللافندر الصغيرة التي تعتني بها تلك الفتاة؟”
وصل إلى الحديقة الصغيرة المليئة بزهور اللافندر، ووقف هناك متأملاً الإنسجام الفاتن للألوان والترتيب العناية المتناهية للزهور التي تنبت بجانب بعضها البعض بهذا الانسياب الذي لا يتوفر إلا نادرًا في حدائق المستشفيات.
“إنها مشابهة إلى حدٍ ما لحديقة أمي.”
تمتم أوريون بصوت خفيض، كانت نبرته محملة بلحظة من الذكريات والحنين، وهو يمسك بمرش الماء يروي الزهور بعناية فائقة وإصغاء.
“قدِ اكتملت المهمة.”
همس لنفسه بهدوء، وضع مرش الماء جانباً وأسرج نظره نحو السماء للحظات يستلهم صفاءها، قبل أن يعود أدراجه إلى غرفة آريا ليطمئن على إذا ما كانت قد استيقظت أم ما تزال في عوالم أحلامها الهادئة.
…….
وقف أوريون هناك، صامتًا أمام سرير آريا، غاصت عيناه بأمواج الحزن الراكدة، يتساءل في داخله بألم وحيرة، لماذا اختار السرطان أن يلامس حياة آريا البريئة، لماذا كانت هي يتلقى هذا القدر الموجع، فهي لا تزال في مقتبل العمر، لم تتسنَّ لها الفرصة قط لتغادر جدران هذا المستشفى الذي شهد طفولتها. كان يشتاق لأن يملأ قلبها بالفرحة والمغامرات، يحلم بأن يصطحبها في رحلة لا تُنسى، لكن المرض يحجم عنه هذا الأمل.
مدّ يده برقة، ليمسح على شعرها الأسود اللامع، ولوّن وجهه بابتسامة خفيفة عندما شاهد عيونها تتفتح ببطء.
“أخي..”
كانت كلمتها الوحيدة، نبرة صوتها تغمرها مزيجًا من الضعف والأمل.
هو همهم لها، مستمرًا في مداعبة شعرها،
“أنا مسرورة لأنك أنت ونيك دائمًا إلى جانبي. وعلى الرغم من أنني أشتاق أن أغادر المستشفى لأستكشف العالم خارج هذه الجدران، فإن قدومكما يزرع بداخلي الإحساس بالحياة من جديد.”
“لكن، لماذا تقولين ذلك الآن فجأة؟”
استفسر أوريون بلهفة، محاولًا استيعاب سبب كلماتها غير المتوقعة.
“لا أعلم، فقط أردت أن أشكركما بالطريقة اللائقة.”
أجابت آريا بصوت ضعيف ممزوج بالامتنان.
“عزيزتي، أنتِ أختنا الغالية، من الطبيعي أن نكون إلى جانبك. أريدك أن تثقي أننا، مهما حدث، لن نتخلى عنك، نحن هنا دائمًا معكِ.”
ببطء، ارتسمت ابتسامة على آريا وهي تنهض من فراشها بعد أن طبع أوريون قبلة مُفعمة بالحنان على جبينها، قبلة كانت كفيلة أن تستعيد بها كل ذرة من النشاط والحيوية.
……
“آريا، هل تتذكرين المكان الذي ذكرت لك سابقًا، أنني أود الذهاب إليه؟”
رفعت آريا نظرها إليه، وقد تلألأت عيناها ببريق الفضول.
“أرغب في اصطحابك إلى هناك؛ تعالي معي.”
أطلق أوريون العنان لحماسه وأمسك بيدها، مجرًّا إياها بلطف نحو الحديقة التي كانت تغمر الجو حولهم برائحة اللافندر الشذية.
“هذا المكان هو حديقة، ولكن ربما تتساءلين، لماذا استهوتني هذه الحديقة الصغيرة من بين كل الحدائق؟”
توقف قليلاً، ثم تابع بصوت مشحون بالعاطفة:
“ذلك لأنها تنبض بالذكريات ذاتها التي تحملها حديقة أمي. هنا، أشعر أنني قريب منها، كما لو أن روحها تعانق هذه الأزهار.”
The end part