الكتاب المسحور - 12
°•|————————–|•°
إيف°•
——-
وقفنا في ساحةٍ واسعة خلف القصر، فارغةٌ من الأبنية و السكان. مازلتُ لا أعلم مانفعله هنا أو ما سنستفيده من نداء تنينهم، لكن من سيضيِّعُ لقاءً نادرًا مع مخلوقٍ أسطوري؟
اتجهتُ نحو ريهانش و إيزرا، لأجد ريهانش متحمسًا بالكلام “لن تصدق ما حدث!”.
“إيزرا! منذ متى و أنت مستيقظ؟” سألته متعجبة.
فتح إيزرا فمه ليجيب، فقاطعه ريهانش “استيقظ للتو، رأيته يفتح عيناه ولم أتمكن من إيقاف نفسي عن الكلام”.
“جميل… على ما أظن، اختصر سرد الأحداث له فعليه مساعدة آشر”.
“أساعده في ماذا؟” رد إيزرا، حائرٌ و ناعس الصوت.
“ستساعد والدك باستدعاء التنين، سيخبرك ريهانش بكل شيء الآن”.
تربَّص إيزرا آشر لمدة، ربما يحاول تذكره بطريقةٍ ما. عقدتُ حاجباي سائلة “ماذا بك؟”.
“أهو خلافٌ عائلي؟… أيكون خلافًا عائليًا إلَّم يعلموا أنهم عائلة؟” تدخَّل ريهانش.
“سأدعك تفكر بالإجابة وحدك”.
دلَّكَ إيزرا جبينه، يحللُ المحيط حوله سائلًا “من أين لكم اليقين بأنه على صلةٍ بي؟”.
“مجرد شعور” أجبته “مازال مرجحًا أنكم لم تتقابلوا من قبل”.
أكمل ريهانش عني “لكن هناك احتمالٌ أن يكون والدك، و إلَّا لما وقفتَ كالتماثيل حين رأيته أول مرة”.
“لا يمكنني فهمكم الآن، لكن لا يمكنني مساعدته حتى إن أردت”
“… أحقًا هذا؟”.
“يملك الملك الكتاب و يملك الرجل الآخر الصولجان” شرح إيزرا بملل.
“… لديك وجهةُ نظر” أجبته قبل التفاتي نحو ريهانش سائلة “ما الفائدةُ من كلِّ هذا؟” أشرتُ إلى الملك و مستشاره.
“إعادة الرابط بين التنين و آشر، كي يتوقف المواطنون عن الشجار” أجاب ريهانش، و بدأ بإخبار إيزرا عمَّا حدث.
تقدَّم آشر لمنتصف الساحة الفارغة، غارزًا الصولجان داخل الجليد؛ وهذا حين شعرتُ بضغطٍ جسيم في سائر جسدي.
لم يحدث شيءٌ بعد، لم يظهر التنين أو أي شيءٍ آخر لكني شعرتُ بحضورٍ قوي، ولا أظنه حضورًا جيدًا. اندفعتُ مسرعةً لتحذير المستشار “آشر! لا فكرة لي عمَّا تفعله الآن لكن المكان غير آمن، هذا التنين يستشيط غضبًا! آشر؟!”.
لم يعرني اهتمامًا، لا أظنه يسمعني من الأساس “ابتعدي من هناك!” نادى تريشولا ” لقد وجَّه جمَّ تركيزه على الصولجان بالفعل، لا تفسدي الأمر!”.
نظرت للكتاب في يد الملك، يضيء و يقلبُ صفحاته بنفسه بسرعة البرق. ربما أجدُ فيه الحل لكبتِ كلِّ هذا الغضب. تركتُ آشر و وقفتُ أمام الملك مباشرة، الضغط في جسدي يزيدُ شيئًا فشيئًا “أحتاجُ كتابك، لن أفعل شيئًا لإفساد الخطوات، فقط أحتاج للتصفح بسرعة”.
لم يُبعد الملك نظره عن الصفحات، و بدأت عيناه تلمع كما الكتاب “لا يهم ما تريدينه فليس بوسعي إعطاؤك الكتاب قبل انتهاء دوري”.
“إذًا ابحث أنت! إن خرج تنينكم دون وسيلة دفاع فستتدمر المملكة!”.
“لمَ تظنين أن هذا ما سيحدث؟!”.
“لأني أشعر ب-“.
شعرتُ بيدٍ على كتفي المصاب، و التفتُّ دافعةً ذراع جيلان بقوة. لم أعلم أنها هي في البداية، ولم أعلم متى تحركَّت من موقعها من الأساس “لا يهم ماتقولينه الآن فلا يمكن لأحدٍ التوقف حتى يخرج ساركو من مسكنه” أخبرتني بوجهٍ يملئه الحزن.
“لكن-“.
“حالما ينتهي استدعاؤه سنبحث عن طريقةٍ للدفاع عن المملكة، ولا تقلقي على آشر؛ فمن المستحيل أن يتوقع لقاءً مسالمًا، أهذا جيدٌ لكِ؟”.
“… ستحددُ النتيجة الإجابة” عدتُ لأقف بجانب ريهانش و إيزرا، القلق و الألم لا يفارقاني.
“محاولةٌ جيدة، كنتُ لأستمع لكِ فورًا” قال ريهانش مبتسمًا.
حدقتُ به آملةً أن يصمت، فقال مجددًا “حقًا، محاولةٌ جيدة! راقبي ما يفعله الملك هناك، يبدو مقتنعًا برأيي”.
التفتُّ نحو تريشولا، واقفًا الآن بجانب آشر. و مهما كان ما فعله فقد أضاء نورًا ساطعًا من الصولجان. نظرتُ نحو ريهانش مجددًا “كيف تعلم أنها ليست أحد خطوات الاستدعاء؟”.
هزَّ القائد كتفه “مجرد حدس”.
أمسكتُ قلبي بقوة، أتمكن بالكاد من أخذ أنفاسي، زاد الضغط بشدة ولستُ متأكدةً إن كان بسبب التنين أم ريهانش.
“قد لا يكون مخطئًا” سانده إيزرا، يركز نظره للأعلى “تلك الكرات ليست عادية”.
نظرتُ للأعلى، كراتٌ مائية تتساقط من كلِّ زاوية، تتبخر حالما تلمس الأرض لتعود للهواء و تتكون من جديد. مدَّ إيزرا يداه ممسكًا بأحدها، و لامسها مع وجهه لتختفي الحروق من عليه، تعيدُ وجهه سليمًا من أيِّ إصابة.
“مهلًا لحظة!” أمسك ريهانش بأحدها أيضًا “هذه التقنية التي كنت تتحدثُ عنها أليس كذلك؟!”.
أومأ إيزرا، وابتسم ريهانش متحمسًا “… إيف، أمازال كتفكِ مصابًا؟”.
مددتُ كتفي المصاب، وشعرتُ بلدغةٍ باردة بمجرَّدِ لمسها لي. كانت ثوانٍ عدة قبل شفاء كتفي تمامًا و تمكُّني من تحريكه كما أشاء أخيرًا.
و مع هذا مازلتُ لا أشعر بالراحة…
“هل أخبرته بكلِّ شيء؟” سألتُ ريهانش في محاولةٍ يائسة لتشتيت نفسي عن هذا الضغط المخيف.
“أخبرته بما تمكنتُ من قوله؛ فالأمر كآخر مرة، أصل للجزء المهم و ينعقدُ لساني”.
“ما آخر شيءٍ تمكَّنتَ من قوله؟”.
“علقتُ عند محتوى مذكرة آشر، و ربما يكون هذا للأفضل؛ لا نريد أن يفقد صديقنا وعيه مجددًا، أليس كذلك؟” سخر ريهانش متكئًا على إيزرا، الذي تجاهل وجوده تمامًا.
اهتزَّت الأرض قبل أن تسنح الفرصة لي لأجيبه، و برز صراخ السكان من بعيد، أجراس الإنذار تدقُّ بعدها بدقائق.
بدأ الجليد بالتكسر، صوتُ تهدُّم الأرضُ بمبانيها يجتاح المملكة و من فيها، و أمامي مباشرةً طارت هيئةٌ عملاقة من أعماق الجليد، هائلة الحجم لم يفارق ذيلها الأرض إلَّا بعد دقائق من ارتفاعها، يغطِّي رأسها وحده شمس العصرِ بأكملها.
تثاقلت أنفاسي و عَلَت دقات قلبي، تمسَّكتُ بإيزرا غارزةً يداي بكتفه من شدة الألم، ظننتُ أن خروج التنين سيعني اختفاء الضغط، لكن لم يحدث شيءٌ سوى زيادة حالتي سوءًا.
كان صوته أسوأ ما في الأمر، صوتٌ عميقٌ، هائج، يجتاح العقل قبل الأذنان. لم أتحمل هجومه علي، لا أحد سيتحمل هجومه! تغبَّشت رؤيتي و استسلمت قدماي للأرض، لم يكن أمامي سوى الصراخ، فأخرجتُ نواحي حتى تعب صوتي.
يمكنني سماع نداء إيزرا و ريهانش، و ليس بوسعي إجابتهما. أجبرت عيناي على التركيز و النظر للأعلى، حيث يحلق ساركوفاغِس؛ عيناه بيضاء كالثلج، و المياه تحوم حوله كدرعٍ لولبي.
لم تكن مدةً طويلة قبل تحركه، يطيرُ نحو السكان بفكرٍ واحدٍ في ذهنه.
“علينا إيقافه! أحتاجه أمامي لأتمكن من التواصل معه!” أمر آشر، و انطلق الملك و ريهانش خلف التنين.
“إيف، أتسمعينني؟” نادى إيزرا للمرة الألف، جالسًا معي على الأرض دون فكرةٍ عما يجب عليه فعله.
أومأتُ له، أركزُّ على ضبط أنفاسي، ولا بدَّ أنه فهم عدم قدرتي على الكلام؛ فقد كوَّن مكعبًا مائيًا كبيرًا، و قربه من يداي.
“ركزي على أفكارك و غيري شكل المكعب”.
تذكرتُ اختبار الدخول، كانت أول مرةٍ أشعر بها بذرات العنصر ذاتها، لكن هذا لم يحدث الآن، لم أرى سوى قطراتٍ عادية. مددتُ ذراعي، و بدأت بتغيير شكله دون وعي رسمت الصورة الوحيدة في ذهني؛ رأس التنين، و هيئةٌ مشوشة تقفُ أمامه، تتصل معه أخيرًا قبل تدمير المكان.
أخذتُ أنفاسًا عميقة، واحدًا تلو الآخر حتى أدركتُ ما حدث؛ كانت تلك رؤيةً، وتلك الهيئة أمام التنين ليست آشر.
التفتُّ لإيزرا، عيناه متسعةٌ في رعب، لا بدَّ أنه يشارك أفكاري “عليك أن تأخذ مكانه”.
هزَّ رأسه رافضًا تمامًا “لا يمكنني، ماذا إن كانت تلك الهيئة هي آشر نفسه؟ علينا فقط إبقاء المواطنين بأمان”.
“و ماذا إن كنتُ محقة؟ لا يمكنني سوى الشعور بأن تلك الهيئة ليست آشر”.
“ربما تكون أنتِ، أو الملك نفسه”.
“لا تخف، فلن يحدث شيء”.
تجهَّم إيزرا، لايفارق الصورة المائية أمامه “لستُ خائفًا، بل أنا قلق. إن كنتِ على حق فسيتعين علي العيش هنا لأراقب التنين، و إن أخطأتِ فسيُدمَّر المكان”.
” لقد تدمر المكان بالفعل! استمع إلي، لن يمنعك شيءٌ من العودة لوطنك، وإلَّم تجرب الآن فلن يمنع شيءٌ هذا التنين من قتل المزيد من الأبرياء”.
حدَّق إيزرا بعيناي، يفكِّر بجدِّيةٍ بأمر النبوءة، لم يكن مقتنعًا، حتى حين وقف متجهًا نحو التنين، كانت ملامحه مليئةٌ بالشك “سأعطيه فرصةً واحدة” قال قبل اختفائه خلف جدار القصر.
و فرصةٌ واحدة هي كل ما يحتاجه لكن… كان بإمكانه مساعدتي على الوقوف.
لحقتُ بهم بعد عناءٍ طويل، لأواجه بكاء حربٍ و رجلٌ يأتي من خلفي دون إنذار “مع من أنتِ؟!”.
“معكم بالطبع! ما الذي تفعله هنا والعدو طليق؟!” أجبتُ دون تفكير.
تركني الرجل، واستمر بالهجوم على… أناسٍ ما. نظرتُ حولي إلى الساحة المدمرة، كان الجنود يكافحون لكبتِ السكان والدفاع عن أنفسهم منهم، والرجل الغريب منذ قليل، كان من أصحاب الطبقة الدنيا… بدأ هؤلاء ثورتهم الآن!؟
ألم يجدوا وقتًا آخر؟! لمحتُ ريهانش بين المدافعين وناديتُه “ما الذي يحدث هنا؟!!”.
لم يلتفت نحوي، منشغلٌ بصدِّ الثائرين وتوجيه جنوده، مجيبًا بعجلة “لم تعد هذه الساحة آمنةً للتسكع، ابتعدي عن هنا واذهبي نحو ساركوفاغِس! سبقكِ إيزرا لهناك بالفعل!”.
اندفعتُ بأقصى سرعتي نحو التنين المحلِّق في الهواء، يشنُّ هجومه على القريب و البعيد، و أملتُ ألَّا يكون إيزرا أحدهم بالفعل.
“إيزرا؟!”.
“هنا!” أجاب تريشولا من مسافة، إيزرا وآشر يقفان بجانبه، وكان إيزرا ممسكًا بالصولجان دون القيام بشيء.
اندفعتُ نحوهم وبدأ تريشولا، مصدقًا بالكاد لما آلت إليه الأمور “لا أعلم كيف فعلتِها لكنكِ على حق، حاول آشر التواصل مع ساركوفاغِس بكل طريقةٍ مذكورة ولم تعمل أيٌ منها”.
“بالتأكيد لن تعمل فهو لا يتذكر شيئًا عن ارتباطه السابق ليفعله مجددًا! يحتاج إلى ارتباطٍ جديد مع أحدٍ يمكنه الوثوق به!”.
“هذا ماقاله ابنه! وقد أعطيناه الصولجان لكنه مترددٌ لتجربة الترابط منذ سماعه عن الآثار المتحتمة لفشله” كبتُّ بالكاد غضبي، من يخبر أحدًا قلقًا بالفعل عن العواقب؟!
التفتُّ لإيزرا، وأخذتُ الصولجان منه ليركز على كلامي “جرب فحسب! وأعدك أننا سنجد حلًا إن ساءت الأمور” حتى حين وعدته ما زالت ملامح الشك على وجهه، لكنه أخذ الصولجان مجددًا، وأبدى استعداده لتلقي المعلومات.
بدأ تريشولا بالقراءة “ثبِّت الصولجان في الجليد، ومهما حدث، لا تترك للتردد مجالًا”.
“قل المهم”.
“لا تتعجل! اهدأ” ذكرتُ إيزرا، و أكمل الملك.
“ركز كلَّ قوتك على الصولجان، انفصل عن محيطك تمامًا ثم ابحث عن رابطٍ مشترك بينك و بينه”.
“أيُّ نوعٍ من الروابط؟” سأل إيزرا، و تدخل آشر.
“فكِّر بعمق، أنت وذاك التنين متشابهان، لكلاكما عقلٌ معقد، و مشاعر قوية، ابحث داخلك عمَّا يريده كلاكما بشدة”.
توقفَ إيزرا عن الاستماع؛ مواجهًا قلقه أخيرًا. غرز الصولجان بالأرض، و هالةٌ جديدةٌ أحاطت بالمكان. مرَّت عدة دقائق منذ أغلق عيناه، و توقف عن التفاعل مع أيٍّ منا. شعرتُ بأن روح الفتى في مكانٍ آخر تمامًا.
هدأ صريخ السكان قليلًا فنظرتُ خلفي، مازالت الثورة قائمة، لكن التنين ثابت. اقشعرَّ جسدي من نظرته؛ يحدِّق بنا دون أن يرمش، تاركًا كلَّ شيءٍ ليثبِّتَ عيناه الفارغة علينا.
أثناء اندهاشي أعماني بريقٌ من جانبي؛ توهُّجٌ يبرز من الصولجان ببطئ، منتقلًا لإيزرا حتى غطَّى كفَّيه. نجح الأمر إذًا… أعدتُ تركيزي إلى تريشولا و مستشاره، هذا حين تذكرت “أين الملكة جيلان؟”.
“قالت أن هناك أمرًا مهمًا لفعله وعادت للقصر” أجاب تريشولا وأومأتُ له، هذا حين لاحظتُ ظلًا يغطينا.
ترك ساركوفاغِس موقعه السابق، وأصبح يطير حولنا بسرعةٍ فائقة “لنبتعد عن هنا” أمر آشر، وتحرَّكنا حتى أصبح دوران التنين حول إيزرا فقط.
راقبتُ بتمعنٍ حين ذاب جليدُ الأرض من حول إيزرا، ملتفًا بالتدريج حول هيئته. و كانت عدَّة دقائق حتى يشتدَّ وهج الصولجان، مرتفعًا بهدوءٍ ساحبًا إيزرا؛ مرتفعًا حتى واجه رأس التنين مباشرة.
“كيف لم يشعر إيزرا بأيٍ من هذا…” همستُ متعجِّبة، فأجاب آشر بثبات.
“لقد فصل نفسه عن المحيط الخارجي، أو أي تواصلٍ فيه، و يعدُّ جسده وسيطًا للتواصل الخارجي لهذا انفصل عنه. ما يحدث في الوقت الحالي تواصلٌ روحي بحت”.
“… كيف تعرف هذا؟” سأل تريشولا.
ضحك آشر “ماذا تعني بكيف أعرف؟ لقد قمت بهذه الخطوات من قبل”.
التفتُُّ نحو آشر، كيف لم أدرك الأمر من قبل؟! “كيف تذكر هذه المعلومات؟! لم تكن تعلمُ شيئًا عن عائلتك أو الصولجان منذ لحظات!”.
“معها حق. لمَ لم تفقد ذاكرتك بعد؟” سأل تريشولا.
عقد آشر حاجباه، تتحول ضحكته لابتسامةٍ قلقة، ربما يكون حائرًا أكثر منا؛ لهذا غيَّر الموضوع “لا دراية لي بما تتحدثون عنه، لكن ربما عليكم التركيز على هذان الاثنان” أشار للأعلى، حيثُ يحدِّق التنين وإيزرا نحوي، عيناهما بيضاء لحدٍ مخيف، ليسا جزءًا من هذا العالم بعد الآن.
أشار إيزرا بصولجانه، إشارةٌ لساركوفاغِس، وأغلق التنين عيناه. عاد الضغطُ لسائر الجسد، وجلَّا النور عيناي؛ ليصبح العالم أبيضًا نقيًّا بلمح البصر.
ألمٌ حادٌ أفقدني أنفاسي أسقطني على الأرض؛ صورٌ مشتتة توجع رأسي، لكنها ليست رؤيةً لأرسمها، بل كانت صورًا للتذكر؛ جزءًا ماضي التنين.
أمسكتُ قلبي بقوة، وبدأتُ أركز على الصور شيئًا فشيئًا. لم يكن الصولجان بيد إيزرا بهذا الشكل، هناك أجزاءٌ ناقصة، جوهرةٌ خضراء ونقوشٌ تغطيه من كلِّ جهة. أمسكت به امرأةٌ جميلة، ذات شعرٍ أبيض يغطِّي ملامحها بالكامل، ألا يذكر التنين وجهها؟
لم أعلم متى أغلقتُ عيناي، لكن كان الجميع متوقفًا حين فتحتها، أنظر للكلِّ ثابتًا دون حراك، اختفى الألم الحاد، وتمكنتُ من أخذ أنفاسي، جاهلةً إن كان اختفاؤه إثر توقف الزمن أم انتهاء الصور.
توقف الزمن عند الجميع سوى إيزرا، متحدِّثًا بصوتٍ عميق، كأن الآلاف يتحدثون داخله “يخفي المسؤول حقيقته في الظلال؛ ومن أجزائي سيظهرُ المعدن الدخيل. أوجديه، لإنقاذ عالمنا، وإكمال حياتك”.
اقشعرَّ بدني، لا فكرة لدي عمَّا يعنيه لكن لا تكفُّ الأفكار عن التغلغل لذهني “أشعر بروعةٍ شديدة الآن، ولدي العديد من الأسئلة لكن المهم أولًا؛ هل اخباري بالقصة الكاملة جريمةٌ لك؟”.
تجاهلني إيزرا، و خلال ثوانٍ عادت الأصوات، تعلو أكثر فأكثر تدريجيًا… والآن أشعر بالإهانة.
ببطئ، نزل إيزرا إلى الأرض حتى أصبح مستلقيًا دون حراك. اختفى الوميض و المياه من حوله فذهبتُ مسرعةً له بفكرٍ واحدٍ في ذهني، علي أن أعرف إن كان يتذكرُ شيئًا مما حدث.
جلستُ بجانبه لأتفقد نبضه، وبدأتُ أصفعه حين تأكدتُ أنه حي. لم يستيقظ مهما ضربته؛ فاستعملتُ قوتي لأغرقه بالماء الذائب حتى استيقظ لينجو بحياته، أسأله حالما أُبعدُ الماء عنه.
“لا تسأل، لا تفكر، فقط أجب؛ من هو الشرير الحقيقي؟”.
“ما الذي يحدث هنا؟!-” سأل إيزرا ملتقطًا أنفاسه.
“أتمزح معي؟ متى تمكنت من النسيان؟!” لن أتمكن من الوصول لشيءٍ بهذا الغضب؛ أخذت نفسًا عميقًا آمرةً “لا يهم، فقط أخبرني بما تتذكره”.
عبس إيزرا بوجهي، قبل أن يبدأ متنهدًا، حائرًا ومدلِّكًا رأسه بقوة “فعَّلتُ الصولجان بطريقةٍ ما، وجدت الرابط و توق-“.
“بالتفصيل”.
“… توقف الزمن، وأمرتُ ساركوفاغِس بمساعدتكِ لمعرفة ما حلَّ بنا؛ فتلبَّس جسدي ليتمكن من إخبارك. لا أذكر شيئًا بعدها”.
تأتأتُ ووقفتُ في حسرة، عليَّ العمل بما لدي في الوقت الحالي، و الذهاب إلى مملكة النار لأفهم مايحدث في هذا العالم…
… التفتُّ لإيزرا، مازال جالسًا مكانه، ينظر حوله في تعجُّب “إيزرا! أعد ماقلته للتو” ناديتُ عليه.
لم يردَّ علي، جلس محدقًا ينتظر تلميحًا ما، وبالطبع هذا ما سيفعله! أظنني فهمتُ ما يجري هنا.
أسرعتُ نحو تريشولا بسعادةٍ غامرة، أهزُّ كتفه بحماسٍ مفرط “عرفتُ الحل، عرفتُ الحل تمامًا ولا يمكن أن أكون مخطئة أيها الملك!”.
“أبعدي يداكِ” نفذتُ أوامره، شاعرةً بفكي يؤلمني من شدة الإبتسام.
“لأذكرك أولًا، مازال شعبك ثائرًا بسبب خيانتك لآشر وعليكَ تصفية الأمور معهم. ثانيًا، لا يمكن لإيزرا أو الصولجان البقاء، أو كتابك حتى. أحتاج إليهم معي”.
“أفقدتِ عقلك؟” قاطع آشر الملك قبل أن يتحدث “يذهب ساركو حيثما ذهب الصولجان، بإمكان إيزرا الرحيل لكن على الصولجان البقاء و إلَّا فسيثور في الأرجاء!”.
“هذا ما كنتُ سأقوله، شكرًا أيها المستشار…” همس تريشولا.
“إن كان هذا صحيحًا لمَ أخبرني بتجميع أجزاءه إذًا؟”.
“أخبركِ بنفسه؟” تجهَّم تريشولا.
“نعم أخبرني بنفسه! أحتاج إلى الصولجان والكتاب. أما من طريقةٍ لإخراج الصولجان من المملكة دون مشاكل؟”.
لم يرُد أحد، في الأغلب لم يفكر أحدهم بفعل هذا خلال التسع السنين الفائتة في هذا المكان… فتح تريشولا كتابه وبدأ بالبحث فيه “لستُ متأكدًا من وجود تقنيةٍ مماثلة، لكن ربما واحدةٌ مشابهة”.
دفَعَنا آشر للأرض فور سماعه لصوت السهام، خلفنا تمامًا أُطلِقت ثلاث سهام، مخترقةً الجليد كأنه كومة طين.
ناولني تريشولا الكتاب، ناهضًا بغضبٍ صافِ على وجهه “خذيه، هناك أمورٌ أهم لأهتم بها” تحرَّك تريشولا نحو مطلق السهام، الذي هرب حالما عرف مصيره، يسرعُ آشر خلفه مباشرة.
أخذتُ الكتاب ونهضتُ لأذهب عند إيزرا، متجاهلةً التنين العملاق خلفه. ظلَّ يتربص آشر حتى دفعتُ كتفه “لا أعلم ما إن كنت حاقدًا أم مشتبهًا به”.
تهكَّم ضاحكًا بخفة، و شعرتُ بالغرابة لاعتقادي أنه غير قادرٍ على الشعور بالمتعة على الإطلاق…
“كنتُ بالثامنة حين اختفى، سنةٌ واحدة بعدها وأصبحت والدتي طريحة الفراش” حكى فجأةً.
“وأصبحت تعمل في الاسطبل منذ ذاك الوقت؟”.
أومأ مكملًا “أردت الإنتقام منه، لكن إن كان هو آشر فلن يكون الأمر جيدًا إن قتلته”.
لا أظن أن القتل فكرةٌ جيدة من البداية… لم أعرف كيف أواسيه، أو ماذا أقول؛ فلجأتُ بتغيير الموضوع “مما فهمته فإنك تشك أيضًا أنه هو والدك، أليس كذلك؟”.
“… ربما؟ لا أعلم”.
“حسنًا، إن أردت التأكد فساعدني بإيجاد طريقةٍ لإخراج الصولجان من المكان، سنخوض مغامرةً صعبة لكنها ستحل مشاكلك في الأغلب، أيمكنني الإعتماد عليك؟”.
أومأ إيزرا، فأكملت “عظيم! لنبحث عن تلك الطريقة!… وأمر التنين بالتوقف عن التحديق بي إلَّم تكن مشكلةً لك”.
“ستكون مشكلةً لي”.
عدة دقائق مرت لبحثي في الكتاب، حتى قوطعت بصوت تريشولا، عاليًا مكتفيًا من غضب شعبه المبالغ به “يومان، بعدها سيقابلني كل مواطنٍ منكم داخل القصر؛ بمحكمةٍ أخيرة، حيث تنتهي كلُّ هذه المهزلة. الآن عودو لمنازلكم إلَّم تُدمَّر بعد”.
“يا له من خطاب” همستُ بيني و بين نفسي، من الصعب رؤيته كملكٍ بعد الآن، على الأقل ليس كألفيلدا…
لكنه مازال ملكًا، وجملتان منه جعلت الصمت يعمُّ في المكان. صمتٌّ مريحٌ لولا ساركو، مازال يحدقُ بي من مكانه.
عدتُ للبحث في الكتاب بصمت، خطةٌ واضحة قد تكونت في رأسي الآن؛ سيكون علينا الانتقال لمرحلةٍ معقدة…
°•|——————————-|•°