الوردة السوداء - 1
الزهرة سوداء
كانت عند نافذتها تكتب على الورق حينا، و تراقب النجوم و البدرالذي بدأت الغيوم تخفيه خلفها أحيانا أخرى، تجلس في مكانها هادئة و تداعب نسمات الهواء المتسللة من النافذة قسمات وجهها، وتعبث بخصلات شعرها الرمادي فتجعله ينساب معها على هواها، الهدوء يعم المكان، يمكنك سماع النملة أثناء هربها خشية أن يخطو عليها الناس، ولكن هذا الهدوء لم يدم طويلا…
“آنستي… السيد. ي. يريدك” قالت كلامها خائفة من الذي قد يحدث، فهي تعرف حدة طباع سيدها، و عناد آنستها
“هممم… حقا… أعتقد أني أعرف السبب” قالت بصوت هادئ و عيناها تشعان غضبا
“ه. هل تريدين م. مني شيئا” كانت خائفة، بل مرعوبة من الذي قد يحصل
“كلا، يمكنك المغادرة” أردفت بهدوء و هي تشير للخادمة بالمغادرة بدون أي كلمة
ظلت الفتاة تتأمل القمر و النجوم المضيئة في السماء المظلمة و كأنها ألماسات منيرة منثورة فوق صبغة سوداء حالكة، تتساءل إذا كانت ستستطيع الحفاظ على وعدها لها، و عهدها لنفسها، تنهض من كرسيها و تتوجه نحو الباب، و قبل أن تضع يدها على مقبض الباب فتح على مصرعيه، ” اختي.. اياك.. أن.. تنزلي.. للأسفل” قال الواقف أمامها بنفس متقطع
“و لماذا؟!” قالت بصوت هادئ أو الأصح بارد، هي لا تحب أن يناقشها أحد فيما تفعله، و في هذه الحالة ما تقدم على فعله…
” رئيس أكاديمية سيكيل هنا، و قد تكلم مع والدي قبل قليل في خصوص إنضمامك لها” قال كل شيء بسرعة، أو بالأصح ألقى قنبلة على وشك الإنفجار على أخرى شدة انفجارها أقوى بكثير…
“أنا أعرف بمجيئه، و أنا ذاهبة لأرى ما يريده مني والدنا العزيز” قالت ببرود و كأنها معتادة على هذا، حسنا هي معتادة على هذا الوضع، ظل الواقف أمامها يحدق في رماديتها لعله يكتشف القليل مما تفكر فيه، و لكن هيهات، باردة جامدة و كأن الحياة اقتلعت منها، لم يتبقى أي معنى لأي شيء في تلك العينين اللتين تأسران المرء فور رأيتهما، و كأنهما أحجار كريمة نادرة…
تجاوزت أخاها و حددت وجهتها في ذلك القصر الواسع إلى غرفة معينة… غرفة الإجتماعات…
صوت طرق كعبها على رخام الممر الفاخر… همسات الخدم في كل خطوة تخطوها… صوتهم و هم يحيونها باحترام كبير و وخوف شديد…. هذه كل الأصوات التي ترافقها في كل مرة يحصل هذا… لماذا؟ لا أحد يعلم!!
تمشي بخطوات واثقة و ذقنها نحو الأعلى … من يراها يشعر بالثقة و الهيبة و الغموض في هالتها… تتنقل عيناها إلى الوجوه المألوفة لها… نظراتهم الخائفة و وقفتهم المنحنية لها توحي بأمر كبير … هذه الفتاة غير عادية … وهاهي الآن تقف أمام ذلك الباب … باب غرفة الإجتماعات المهيب… مصنوع من خشب امريكان بلاكوود النادر… أخذت نفسا عميقا و وضعت يدها على الباب تدفعه … تحولت جميع الأنظار لها … صمت رهيب لا يسمع فيه سوى الأنفاس الدافئة في ذلك الجو الشتوي البارد … و ما إن نقرت على الأرض بكعبها العالي … حتى ضربت صاعقة و سمع صوت الرعد المزمجر بعدها… لم يبعد احد عينه عنها… منها الدائفة التي تنظر لها بحب اخوي كبير… و نظرات باردة لا تحمل في داخلها سوى الجمود… و نظرات تحتوي على كره دفين لا تحاول حتى إخفاءه …
“إيلينا أخيرا اتيتي … تعالي و اجلسي” قال بابتسامة لا تغادر وجهه و نبرة هادئة
” شكراً يا أبي ” قالت ببرود يشابه برودة الطقس في هذا الوقت من السنة و لم تتعب حتى نفسها من النظر إلى بنيتيه اللتان تنظران لها بحذر لترقب كل فعل صادر عنها
” احم… أعرفك على ضيوفنا ” قال و بعض الخجل من فعل ابنته قبل قليل بادٍ على وجهه و نبرته… ثم تابع وهو يوجه نظره نحو رجل غزى الشيب رأسه و ذو عيون خضراء تحيطه هالة من الوقار.. ” هذا هو السيد جاك بيليز، مالك شركات بيليز و أكاديمية سيكيل لقوات النخبة ” قال بجدية و هدوء و هو ينظر لعيني ابنته كي يعرف رأيها فيما سيأتي
” أهلا و سهلا بك سيد جاك ” نبست بهدوء و كأن لا شيء يعنيها هنا
” شكرا على استضافتكم لنا ” قال بابتسامة تزين وجهه و اكتفت الأخرى بالتحديق بصمت و إيماءها برأسها… حولت نظرها نحو الجالس بجانب السيد جاك… ذلك الشخص ذو العيون الشبيهة بالذهب و الشعر البني المصفف بدقة متناهية ” أهلا بك يا سيد إيڤل بيليز ” وجهت كلامها له بشكل مباشر بدون مبادرة أحد غيرها… هذا و إن دلَّ على شيء فيدلُّ على كارثة ستحدث و دماء ستراق على أرضية هاته الغرفة….
” شكرا على استضافتنا يا آنسة إيلينا دينجيستي ” قال بهدوء و عيناه معلقة بعينيها ينظران لبعضهما البعض بشيء من العدوانية و التوعد بالإنتقام و التحدي المغلف بستار من الجمود
” إذا يا آنسة دينجيستي … السبب الذي دفعني للمجيء إلى هنا هو دعوتك للانضمام إلى اكاديميتنا سيكيل ” قال بهدوء محاولا تخفيف الجو المشحون فكل من يدخل هذه الغرفة قد يختنق بسبب المشاعر السيئة و التي تزايد كل لحظة
أبعدت إيلينا عينيها عن إيڤل الجالس أمامها و تمعنت في وجه والده … لحظات إلى أن فتحت فاهها لتقول:” يؤسفني إخبارك أنني سأرفض دعوتك ” بكل هدوء و بدون أدنى تعبير على وجهها يوحي بما تفكر به رمت قنبلة عليهم … لحظات من الصمت عمت المكان … يتبادل فيها الحاضرون النظرات … والدها … أخويها … جاك بيليز … سيليسيا الحاقدة … و الأهم بالنسبة لها … إيڤل بيليز … يتبادلون نظرات هادئة و مستغربة و مصدومة … بينما هي ترتشف من كوب قوتها بكل هدوء تراقب حوارهم الصامت … ” آنسة دينجيستي … ما من داعٍ لإعطائي الجواب الآن … فكري بروية و قرري ” نبس بهدوء كاذب محاولًا إخفاء دهشته … و هذا من حقه … لو كان شخصًا آخر لقبل الدعوة فمجرد القبول في الإختبار يعد شرفًا … لكنها ليست أي شخص … هي إيلينا دينجيستي … الزهرة السوداء
.
.
.
” هل تمزحين معنا الآن؟! ” صرخت في وجهها بقوة مخرجةً بعضًا من غضبها عليها … لم تستطع تحمل فكرة أنَّ فتاة لا قيمة لها ترفض دعوةً شخصية من رئيس العائلة لدخول الأكاديمية التي فقط القبول لاجتياز الإمتحان يعدُّ شرفًا لأغنياء العالم!
أغمض جاك عينيه بتعب … يعرف تصرفات إبنته الهوجاء المغرورة … إنه أحيانا ما يندم على تدليلها و تفضيلها على الباقين
” أنا لا أمزح في هذه الأمور ” قالت بجمود و عيونها لا تترك عيني الواقفة أمامها فهي قد قررت و انتهى الأمر … كلمة خاطئة واحدة … و ستتصرف معها على طريقتها الخاصة
” توقفي الآن يا إيلينا ” صوت هادئ جاء من قربها أوقفها عن سحب مسدسها … ما إن تكلم حتى انجذبت الأعين جميعها نحوه… ألكسندر دينجيستي … وريث عائلة دينجيستي
إذا تكلم ينصت الجميع … كما هو الحال هنا
” آنسة سيليسيا أنتِ ضيفة عندنا … لا تتصرفي و كأنكِ في منزلك لو سمحتي … و أيضاً لا دخل لكِ في قرارات الآخرين … خاصةً قرارات أعضاء عائلتنا… لهذا لو سمحتي تفضلي بالجلوس و كوني هادئة إلى غاية مغادرة أرضنا و العودة لمنزلك ” قال بهدوء شديد و عيناه تتفحصان ذات العيون العشبية … إنتهى الأمر …
و رفعت الجلسة…
إنتهى …