جميل بشكل مأساوي - 1
أضحيتُ ثلاثة أيامٍ لا أنام، بدأتُ بقتل كل خلية تعيش بين ثنايا جسدي ، ضجيجي و أفكاري ، حزني و طموحي ، لكن انت و طفولتي !..
لم أستطع التخلي عنك يا أبي ، حاولتُ كثيرًا.. صدقني يا أبي أردت نسيان كل شيء ، أردت فقدان ذاكِرتي لعل الحُزن يفقدني، لكن بِئسًا فأنا عاجِزةٌ عن نسيان طفولتي بجانبك، فكيف لي أن اطمُس تلك الحقيقة المُرّة؟
أنا يا أبي كَرِهتُ إهمالك في بعض الأيام ، كُنت امقت البحر الذي يأخذك مني ، حقيقةً أنا أكره حُبك للبحار؛ فَبسبب حُبك أَضْحيتُ شُهورًا أُراقب طريق عودتك و لكن في تِلك المرة..أنت صعدت للسفينة بدون أن احتضنك و اتمنى لك رحلةً سعيدة ، لم أستطع رؤية ابتسامتك قبل ذهابك لشهورٍ أُخرى و كل هذا بسبب استيائي الأحمق.
خاصمتُك لأسبوع و لم اقضي معك أي وقت بسبب غبائي، ظننت أنك ستبقى لوقتٍ أطول ، ظننت أنه من المسموح لي التظاهر بالغضب منك، لكنك غادرت في ذلك الصباح حين كُنت أتظاهر النوم تارِكًا لي رسالة اعتذار تُرافِقُها وردةً بيضاء .. و من ثُمَّ لم أراك مرةً أُخرى الا في ثلاجة الموتى .
أنا أسفة يا أبي لأنني لم أُقدّر ذلك الأسبوع ، أنا آسفة لأنني ظننتك ستعود في أي وقت و دائِما ستبقى معي ،
أنا آسفة لأنني فتاةٌ حمقاء تجاهلت عائلتها الوحيدة
فهل لك ان تقبل اعتذاري و تغفر لي ؟هل لك أن تعود قائلًا انها مجرد دعابة سخيفة؟أرجوك .
________________________
5:32 مساءً، ألمانيا
وِجهة نظر مارتينا ثيوبالد
تَنَهَّدَتُ بَيْنَمَا ارتدي ملابسي راغِبةً بالخروج والتقاط بعض الهواء النقي أتناسى به مُر أيامي ، لكن بمُجرد خروجي وجدت نفسي سوداء قاتِمة بَيْنَمَا تملئ وجوه الآخرين البهجة بسبب المطر.. لكن لسببٍ ما…لم أتلذذ كَكُل مرة، لأن هذِه المرة لا أركض معه تحت المطر..لا أُلقي عليه بماء الطريق المتسخ؛حينها علمت أنني لم أكُن أُحب المطر.. أنا أُحب أبي ، أنا أُحب التُربة التي يدوس بقدمه عليها ، أنا اتوق شوقًا لرؤية مؤنسي الوحيد الذي تركني وحيدة.
رفعت مُقلتاي للسماء ثُمَّ بدأت بالهرولة ، لا أعلم إلى أين فقط إلى حيث تُرشدني قدماي. بدون أي ادراكٍ مني أرى نفسي أقف أمام مركز الشرطة ، لادخل باحِثةً عنه بعيناي في حين أن المكان اتسخ بالماء و الطين بسبب ملابسي المُبللة و حذائي المتسخ.
” يا آنسة ، ارجو منك عدم الحراك لأنك تقومين بتلطيخ المكان بالطين؛تفضلي بالجلوس هُنا و سنساعدك “أشار على كُرسيٍ من البلاستيك لأنظر له بدون اي ردة فعل على كلامه.
” يا انسة؟” حاول معي مرةً أخرى مشيرًا بيديه على الكرسي لأجلس ، كان قاطبًا يتسأل ما بها هذه المجنونة؟
أنزلت رأسي انظر حيث قدماي خوفًا من أن تخونني دمعتي امامهم” لماذا؟ ” قُلت بصوتٍ أشبه بالهمس لكنه استطاع التقاط ما أقوله فقال لي : ” لم أفهم مقصدك يا آنسة”
اخذت نفسًا عميقًا و نطقت :” لماذا لم تنقذوه؟ أعني ليس الأمر و كأنه ذنبكم على وجه الخصوص.. لكن أنا حقًا اتسائل لماذا لم تنقذوه؟ ألم آتي إلى هُنا قائلةً أنه مفقود؟ لماذا تجاهلتم كلامي؟ لماذا لم تبحثوا عنه؟ رُبما لو لم تتجاهلوني لكان معي اليوم !
ماذا عن رئيس القسم الذي كان ينعتني بالمختلة فقط لأنني بقيت هنا لأيامٍ متواصلة أرجو منكم البحث عنه؟ أين ذهب؟
لماذا لا أراه يُكفر عن ذنبه؟ “
خرجت الكلمات بدون أي تفكير مني، فقط أراد فمِ نطقها، رفعت رأسي لأرى وجهه المتجهم.. و قال :
” أنا أتفهم وضعك يا انستي.. ل-“
قاطعت كلامه و قلت ” هل هو يرتشف كوبًا من القهوة مع قطعةٍ من الكعك؟ بينما ابنة الميت لم تضع شيئًا في فمها سوى
قليلًا من الماء تجنبًا للموت-“.
“يا انسة المُحقق المسؤول عن قضيتك في إجازة كما أنه ليس لدينا أدلة!!!” قاطع كلامي صارخًا بسبب تجاهلي التام لمحاولات تهدئتي
” عذرًا على مقاطعتك لكنني كنت مضطرًا ، على أي حال المُحقق في إجازة ولا نملك مُحققًا اخر سوى بعض المستجدين نحن ننتظر المحقق البديل ان يأتي و قضيتك معقدة و لن يستطيع حلها ش—”
رأيته يضع يده على شعره رافعًا اياه منزعجًا من انسداله على البحار القابعة في عينيه، أدرت ظهري مُغادرةً المكان ركضًا كأنني أحاول الهرب من الحقيقة
لكن كلانا نعلم انها لن تتغير
ركضت الى منزلي و هو لايبعد كثيرًأ عن مركز الشرطة، قد يكون هناك شيء غير صحيح، ربما لم يمت؟ ربما كانت جثة شخصٍ آخر؟ من يعلم!
بعد دقائقٍ معدودة وصلت منزلي و وَلجتُ الى غرفة والدي ..
حينها أدركتُ أنّ بعض الأمور لا أستطيع التحكم بها في حياتي، حتى ولو تهرّبت منها أو بذلتُ قصارى جهدي لا يُمكنني فعل
أي شيء،ففي النهاية، هناك أمورٌ عليّ التعايش معها وتحمّلها .
عليّ تحمّل موتك إلى حين مماتي.
________________________
في تلك الاثناء بمركز الشرطة دخل قاطبًا إلى المركز
” ماذا حدث هنا؟ ما بها تلك الفتاة ؟” تسائل بينما يرتشف قليلًا من قهوته.
“إنها ابنة الرجل الذي وجدنا جثته في بئر الغابة السوداء ” قال ذو زوج أعين البحار و الشعر الداكن كالسماءِ ليلًا.
“همم” هز رأسه متفهمًا حالتها، ” ماثياس، أرسِّل لي عنوانها السكني”ضغط على شفتيه يعلم أنه من الخطأ الذهاب لها بدون سببٍ يُذكر.. لكنه يشعر بالفضول،لذلك سوف يتبع فضوله بكل بساطة.
” لكنك في إجازة يا آرون” نطق ماثياس متعجبًا من وجود محققهم في هذا اليوم.
وضع يده داخل بنطاله الأسود الغير رسمي “ليس بعد اليوم “ابتسم آرون لصديقه ماثياس، وضع يده اليسرى
على مؤخرة رأسه وقال:” إذًا ، هل يوجد تقدم في قضية والدها؟ ماذا عن الطب الشرعي؟ هل حصلنا على النتيجة؟”.
تنهد ماثياس على صديقه الذي لن يضيع أي قضية تجذب انتباهه” هل كنت تجبر المستجدين على اعطائك معلومات
عن القضايا؟ألهذا أنت هنا؟ رغم أن إجازتك لم تنتهي بعد”.
شخر آرون ساخِرًا من صديقه و قال :” أنت تعلم أني لم أذهب في اجازة لأخذ راحة، لذلك نعم أجبرتهم على إخطاري بأهم القضايا التي..”
صمت آرون مستفزًا ماثياس الذي قال” أكمل كلامك ! توقف عن استفزازي ” قهقه آرون و اقترب من صديقه
و بدأ بإعادة شعره للخلف و نطق مكملًا جملته” التي تحتاج ذكائي لحلها” غمز لصديقه ماثياس الذي أظهر رغبته بالتقيؤ
بسبب غرور الأخر.
في الحقيقة ماثياس يشعر بسعادةٍ لا توصف، وجود آرون مَعَهُ في المكانِ نفسه يُشعِرهُ بالأمان المُطلق. هو ابدًا لن يُظّهِر حقيقة
مشاعِره،حقيقة أن آرون هو صّديقُه المُفضل و الوحيد و سيفعل كُل شيء لأجله ، حتى إذا كان التخلي عن وظيفته سَيُساعد
الآخر فسوف يستقيل بكل هدوء.
ذهب آرون لقسم الأدلة الجنائية و صاح ناطِقًا ” تيمبو !” التفت المَعني بفزعٍ كبير كونه لم يسمع هذا الاسم مُنذُ فترةٍ طويلة،
بالنسبة له.
أردف آرون:
“أرى أن دهون جسدك أصبحت في الإمام ، هل تنوي الحمل يا صديقي العزيز؟ ما بك لا تُراقب صحتك ! “
قهقه تيمبو مستمتعًا بوجود زميله و صديقه وأجاب عارِجًا لآرون” يا رجُل ! كيف لي ان أهتم بصحتي في حين أن لا أحد يمنعني من تناول كل شيء في المطبخ! هم قلقين من رد فعلي إن تصرفوا مِثلك”.
” هل هذا يعني انني مميز؟! “سأل متعجبًا من مشاعر صديقه الصريحة، لطالما كان تيمبو عصبيًا بسبب الطعام و يصبح كالثور الهائج عند شعوره بالجوع و أكثر ما يُمزّق دواخله و يزيد من عصبيته هي النتائج التي تأخذ وقتًا وعملًا كثير.
” آرون، أظنك تعلم ما هي إجابتي ! “
نطق مصتنعنًا العبوس على وجهه المنتفخ بسبب الدهون المُفرطة التي تناولها خلال اجازة آرون.
“تيمبو ، أنت الأفضل و لأنني أُحِبُك يا صديقي طَلبتُ لك وجبةً صحية و خالية من الدهون ، فقط لأنني أملك هذه المشاعر
لصديقي العزيز ! ” احتضن آرون صديقه تيمبو الذي بالمقابل دفع آرون و ابعده عنه و قال
” النتيجة النهائية أن الضحية شيبرد ثيوبالد قُتل مُنذ ثلاثةِ أشهُر حرقًا ، لديه كسر في الجمجمة والساق اليُسرى ،كما أن لديه كدمات
في جسده مثل الجزء السفلي من البطن الذي نتج عنه ( ورم دموي) كما أن الكدمات الاخرى تدل على الصراع،لم نجد الكثير من الأشياء التي تُساعد بإيجاد القاتل “
رد تيمبو بعد أن علم عن سبب شراء الطعام له، هو مُتأكد أن صديقه لن يُبذر أمواله التي يحصل عليها بتعبٍ شديد على معدته.
” واه صديقي، أنت حقًا صديقي لدرجة أنك أخبرتني كل ما أريده ، لكن تيمبو كُن يقظًا أي شيء تجده قم بتسجيله وأخبرني
عنه ،لا نعلم ! أي شيء بسيط قد يكون ذو فائدة في التحقيق”
رد آرون مُرَبَّتًا على كتف تيمبو ، مُرسلًا له إشارةً بعينيه تقول ” اعمل بجد”
” انا لم انتهي بعد “
قال تيمبو متنهدًا يشّعُر بثقلٍ في صدره، رأى صَدّيقهُ يعقد ما بين عينيه و أردف
” لقد وجدنا جُثثًا أخرى معه ، إن لم تكن تعلم وجدنا الضحية بِداخل البئر في الغابة.. و للأسف لم يَكُن الضحية الوحيدة التي
بِداخِله..” صمت تيمبو قليلًا مُحاولًا صياغة هذا الإجرام، يحاول استيعاب هذا القدر الهائل من الشر.
” هذا سيء، سيء جِدًا يا تيمبو، عليك الكشف عن سبب موت بقية الضحايا، يجب أن نكتشف إن كانت جرائم مُخططة مِنْ قاتل متسلسل ، أم أنها مَحض صُدفة “
قال آرون شاعِرًا بالتوتر بسبب ذلك الشعور، شعور ان شيئًا سيئًا على وشك الحدوث.
” للأسف لا تبدو مجرد صدفة، من خلال رؤيتي للعظام و تشابه الكسور و أماكن الإصابات لا يمكنني القول انها صدفة “
قال تيمبو بينما قلقه واضح للغاية امام آرون
أخذ آرون نفسًا عميقًا و قال متسائِلًا ” الأعمار.. هل جميع الضحايا بنفس العُمر؟ أقصد هل يستهدف فئة عمرية مُحددة؟ “
أنهى سؤاله مُفرقعًا لأصابِعه محاوِلًا تخفيف التوتر
” لا، استطعت تحديد العمر والجنس وكانت الأعمار مُخالِفةً لبعضها ، فقط شخصين كان لهم نفس العُمر، امرأة ورجل في الخمسين، بالنسبة لبقية الضحايا فَهُمّ فتى بعمر السادسة عشر وفتاة بعمر الثامنة” أجاب تيمبو يُلقي كمًا هائل من المعلومات على آرون، الذي شعر أن الصداع بدأ يتسلل إلى رأسه شيئًا فشيء.
أردف تيمبو:” لا اعلم ان كان تفصيلًا مهمًا، لكن وجدنا بقايا من خيط محترق في رقبة والدها، كان بها مادة الفلورسنت لو لم أستخدم ضوء الاشعة الفوق بنفسجية لم أكن لاجده..أنت تعلم ما هو الفلورسنت صحيح؟”
“بالتأكيد لا” قال مبتسمًا بطريقةٍ بلهاء ينتظر تفسير الأخر
“يا الهي، الفلورسنت مادة بها ظاهرة التلون الفلورية لذلك احتجت لضوء الاشعة الفوق بنفسجية” أجاب تيمبو مُبسطًا الأمر
لاحظ تيمبو تغير ملامح آرون و شعر أنه لا يزال مُتعبًا ولا يجب عليه أن يثقل عليه بهذه المعلومات و قال :
” لا تقلق.. سوف أجد لك طرف الخيط كَكُل مرة ، ثِّق بي ! “
أبتسم تيمبو مطمئنًا للأخر ، هو يعلم أن صديقه يهتم لكل التفاصيل لذلك يحاول جاهِدًا أن لا يَخذُل آرون أبدًا و بنفس الوقت لا يود ان يُرهق رفيقه.
” أيها الأحمق ! لو لم أثق بك لم أكن سأتي لك منذ البداية”
قهقه آرون مُظهرًا تِلك الحُفرتين التي تزيد من جاذبيته و أردف
” سأذهب للقاء ابنة الضحية ، رأيتها مُنذُ قليل و كانت في حالٍ لاتُحسد عليه”
رفع تيمبو إحدى حاجبيه و قال مُستنكرًا لفعل آرون ” كيف لك أن تذهب بدون إذنٍ مُسبق؟ ثُمَّ ماذا ستقول عند سؤالهم عن
سبب ذهابك؟! أنت حتى لا تملك مُذكرة تفتيش و أيضًا هي قامت بإدلاء شهادتها ، كما تعلم هي من أبلغت عن اختفائه ! “
تنهَّدْ آرون يحك رقبته من الخلف بسبب توتره و قال ” لا عليك سأذهب و أرى ما سأقوم بتلفيقه”
أمسك تيمبو برأسه متأملًا أن لا تحدث مشكلة مع صديقه بسبب تهوره و فضوله الدائم ، هو لن يمنعه، ليس لانه لا يرغب بذلك بل لأنه لن يقدر على كَبح رغبات الأخر.
لوح آرون لتيمبو و خرج مُسرِعًا يرغب بلقاء تلك الفتاة، يُفكر بالأعذار التي سيقولها.