سهمٌ كالمِفتاح - 1
جلستْ مَاجدُولِين على كُرسيّ صُنع من خشب لتُمسك بالدَّفتر الذي غُلِّف سَطحه بالجلد، توقَّفتْ عند أَول ورقة فيه لتغمِس الريشة في عُلبة الحبر وتسحبها بعد ثوانٍ معدُودة، ثمَّ بدأتْ تخطُّ على الأَوراق.
كان ذلك كأيِّ يومِ صيدٍ عاديّ حيثُ النِّساء والرِّجال يُشاركون في الصَّيد للحصول على أندر الفَرائس وأكبَرها رَغبةً في إهدائها لأحبَّائهم، ذَاك يُعطيها لزوجته وهذا لوالدته، كما تلك تُعطيها لوالديها وهذه لأُختها .. وهكذا، فارتَديتُ زِيي المُكوَّن من قميصٍ أبيض ذي أكمامٍ طويلة قد طُويت أطرَافها لتظهر بلونٍ فضِي لامع، وزُيِّنت ياقته بخطٍّ ذهبي بينما في أعلاه كان هُنالك سهمَيْن مُتعاكسَيْن، وبنطالٍ أبيض ينتصفه خطَّان في كلتا القدمَيْن، وأيضًا تنورة زرقَاء من أسفلِ الصَّدر حتى أعلى الفَخذين مُزيَّنة بخطوط وأزرار ذهبيَّة ينتصِفها حزامٌ مصنوعٌ من جلد بُني، كما ارتديتُ حذاءً أسود طويلًا حتى الرُّكبة، أخيرًا نصفُ عباءة زرقاء ذَات سلاسل ذهبيَّة تتدلَّى منها على كتفي الأيسر.
مضت نصفُ ساعة منذ بدء الصَّيد، كنتُ قد حصلتُ على عدَّة فرائس وسجَّلتُ العديد من النقاط على أثرِها احتللتُ المركَز الأوَّل، وبَينما كنتُ أعمل على توسيع الفَارق بِيني وبَين المركَز الثَّاني، جَذبتني حَركة صَدَر منها صوتٌ خافتٌ بَين الأَشجار، فأمسكتُ بقوسي وَاضعةً عليه سَهمًا مِن حَقيبة الأَسهُم خاصَّتي، ثمَّ ضبطتُ وضعيَّتي لأسحب السَّهم نَحو الخلف بأقصى ما يُمكن مُنتظرةً الوقت المُناسب لإطلاقه، لَكن بينما كنتُ أنتظر أدهشنِي سُقوط الحارس الذي يُرافقني وصهيل فرسه العَالي، انفلتَ السَّهمُ دُون قصدٍ منِّي واستقرَّ في قَلبِ الشَّجرة، فأمسكتُ بصهوةِ فرسي لننطلق مُتَّجهين للفرس المُسمَّى أشقَر حتى نُطفِئ هيجانه الذي اشتَعل عِندما سَقط صَاحبه، فَصهل رفيقي الجَناح يُحادثه ويُهدِّئه، ويُخبرُه بكونِه مَعه حتى هدأ واستَقرَّ لِجانِبه وَاضعًا جَبينه على جَبين الجَناح مستمدًّا الأمان مِنه، ابتسمتُ لأَمسح على رَأس كليهما، ونزلتُ من على ظهر فرسي لأفحص الحارس السَّاقط أرضًا، فوجدتُ سهمًا كان قد اخترق خَاصِرته، حملتُه على ظهري لينحني الأشقَر بظهره للأسفل حتى أضع الحارس على ظَهره، وضعتُه بحذر ليقف الأَشقر باستقامة وهمستُ لَه : عُد إِلى خيمة راغب وسيكُون بخير.
صَهل الأشقَر ليُهرول ناحية الخِيَام حتى يُسعَفَ صاحبه في حين أخذتُ أُحدِّق حولي باحثة عن مصدر ذلك السَّهم، فامتطيتُ الجَناح مُجددًا ولي رغبة في تغيير مكاني، لذلكَ سحبتُ صهوة الجَناح ليتَّجه ناحية اليمين حيثُ كان هُنالك طَريق ضيِّق تُحيطه أشجارٌ طويلة ذات فرُوع نَحيفة وطويلة من كلا الجانبَيْن، كان المكان هادئًا بشكل مريب حيثُ لَم تَظهر أيُّ حركةٍ حتى من الطُّيور الصَّغيرة المُنتشرة.
قُوطِع تأمُّلي لذلك الهدوء سهمٌ خاطف مرَّ مِن جَانبِي الأيسر مُخلِّفًا سُقوط تلك السَّلاسل الذَّهبيَّة مُستقرًّا على أحدِ الأَشجار ممَّا جعلني أَستدير نحوَ المصدر بسُرعة غَير مُعتادة، رأيتُ عندها شخصًا لَم أستطِع تمييز ما إن كان ذكرًا أم أُنثى، وكان ذلك الشَّخص يرتدي عباءة ذات قبَّعة كبيرة تُخفِي معالِم وَجهه.
اتَّسعت عَيناي بفزع عندما رأيتُه يُوجِّه سَهمًا ناحيتي، فضربتُ صهوة الجَناح برفق صارخة : هيا أيُّها الجَناح.
أخذ الجَناح يُهرول مُتَّبعًا هذا الطَّريق الضَّيق حتى مضى أكثر من نصفِ سَاعة ونحنُ مُطاردان من ذلك الشَّخص الذي استطعتُ إضاعته، ربَّتُ على عُنق الجَناح كي يهدأ ويُخفف مِن هَرولته، فتوقَّف لأنزِل من على ظهره.
وضعتُ جبيني على جبينه لأردف : صديقي، عليكَ العودة لوالديّ وتخبرهُما بأمر هذا الخطر، سألحقُ بكَ حالما أتخلَّص مِنه.
رفض الجَناح هذه الفكرة ليصهل بصوتٍ خَافت ويُبعد جبينه بَعيدًا عنِّي كردة فعلٍ تدلُّ على رفضه، نظرتُ له بتأثُّر حيث كان دائمًا يرفُض تركي عندما نُواجه خَطرًا، فعدتُ مُقتربة مِنه : استمِع إِليَّ هذه المرَّة فقط يا صديقي، أعدكَ بأنِّي سألحقُ بكَ سريعًا.
رفض الجَناح مرَّة أُخرى لأقترب منه بصوتٍ حَازم : أيُّها الجَناح !
أنزل الجَناح رأسه ليُلقي نظرة عليَّ ثمَّ انطلَق سَريعًا نحو الخِيَام، تنهدتُ بخفَّة لأُثبِّتَ حقيبة السِّهام على ظَهري، أمسكتُ القوس بين يديَّ ثمَّ نظرتُ للعبَاءة الموضوعة على كَتفي، سحبتُها بيدي اليُمنى ليتمزَّق جُزء منها، وعلى أيِّة حال قمتُ برميها جَانبًا حتى لا تُعيقني وانطلقتُ أبحث عن مكانٍ أختبئ فيه، استغرقتُ ساعة حتى وَجدتُ مخبئًا بين أَشجارٍ مُكدَّسة فوق بَعضها البَعض، فجلستُ بينها بعد أن جمعتُ ماءً من النَّهر الصَّغير الصَّالح للشُّرب، ومن ثُم غَفوتُ من شدَّة تَعبِي، استيقظتُ بعد دقائق على صوتٍ خرجَ من بَين الأَشجار لأنهض بوضعيةِ الدِّفاع مُمسكةً بقوسِي ويدي الأُخرى تمتدُّ للخلف باتِّجاه حقيبة الأسهُم، أخذتُ أدور حولَ نَفْسِي أَترَقبُ أَي حَركة حَتى فاجأني سهمٌ من الخلف ليخترقَ كتفي الأيمن،فَشَعرتُ حينها بأوصالِ كتفِي تَتقطَّع، وعلى أثرِ ذلك خرجتْ صرخةٌ من فاهي جعلتِ الطُّيور تُهاجر من حولي.