لوحة الربيع - 12
في الصباح نزل هارو ليجد يومي جالسة في غرفة المعيشة تنظف، وكازو يجلب أطباقًا مغطاة ليضعها على طاولة المعيشة.
-“صباح الخير”.
-“صباح النور، اجلس، للتو وضع كازو إفطارك”.
-“ألن تأكلا؟”.
-“انتهينا مسبقًا ورفعنا حصتك”.
أدرك هارو أنه غط في نومه كثيرًا .. لم تعد هناك والدته لتوقظه بتوبيخ حينما يتأخر .. جلس وبدأ في تناول إفطاره الذي كان شبيهًا في شكله بطعام والدته لكن طعمه إختلف كثيرًا، ابتلع قضمته الأولى وقد اختلطت بالغصة والحزن، فلم يعد لوالدته وجود، جلست يومي وتبعها كازو مقابل هارو بصمت، ثم سألا إن كان يحتاج شيئًا لكنَّه أجاب بالنفي.
سأل هارو يومي :
-“لطالما أردت سؤالكِ عن شيء”.
-“ماهو؟”.
-“كيف علمتِ بمرض أمي؟”.
-“اما سألتُكَ قبلًا ما إن كانت مريضة؟ كُنت ألاحظ عليها التعب والشحوب أحيانًا كوني رفقتها غالب الوقت؛ حتى أنها كانت تتناوب على المشفى من فترة لأخرى”.
-“أشعر بالخِزي .. لم أنتبه لأمي ولم الاحظ .. “.
-“كلانا لم نلحظ لكن لا فائدة من الندم، هي الآن في مكان ترتاح فيه ياهارو”.
-“كيف علمْتَ بسوء حال خالتي وردة ياكازو؟”.
-“لم أعلم .. شعرتُ بخنقة وألم واحتجت رؤيتها حتى وصلت ورأيتكما تدخلان بسرعة فعلمتُ أن هناك أمرًا ما”.
-“لاتذهبا مجددًا فماعاد لي سواكما .. “.
شعرت يومي بالضيق ووقفت حالًا ذاهبة لإرتداء ثياب الحقل، ثم همت بالخروج حتى أوقفها هارو :
-“إلى أين؟”.
-“للحقل”.
-“ما الفائدة؟ فقد قارب الموت”.
-“لكنَّه لم يمت بعد، وعدتُ خالتي وردة وسأفي بوعدي”.
-“إذًا لنذهب سويًا”.
وذهبو جميعهم لإنعاش حقل السيدة وردة، أثرٌ يبقى علّه يُشعرهم بوجودها وكأنها لازالت معهم.
مضت ٣ أسابيع على موت السيدة وردة، انشغلوا في الحقل الذي بدأ يثمر ويزهو وكأنّه لم يذبل قط، فُجعت يومي من حلم وكأنها في محكمتها الأخيرة وقد قُرر أن تُسجن هي بسبب افترائها، استيقظت تلهث خوفًا وتتصبب عرقًا :
-“نسيت أمر المحكمة!!”.
ذهبت فورًا لتُجهز حقيبتها وتنزل مسرعة تركض حتى سقطت من الدرج
-“مابكِ تركضين كالمجنونة”.
-“محاكمتي النهائية بعد يومين ولازلت هنا!!”.
-“هااااه! انتظري سأجهز حقيبتي وآتي معك”.
ركض هارو مسرعًا مالبث ٥ دقائق حتى عاود النزول وسقط هو بدوره من الدرج، لتخر يومي ضاحكةً بسخرية عليه،
دخل كازو وسخر من حماقة يومي وهارو ثم ذهب يحضِّر حقيبته للذهاب معهما.
ترقب هارو ويومي نزول كازو ليشهدو على سقوطه هو أيضًا ، دقائق ونزل كازو ويومي وهارو يكتمان الضحكة المسبقة، لكن ياللخيبة فلم يحدث ماتمنياه.
-“أسرعا أيها الأحمقان يجب أن نصل قبل مساء الغد”.
هارو ويومي يمشيان ببطئ ويهمسان :
-“هارو .. ظننت أنّ كازو سيسقط أيضًا”.
-“لاتلقي له بالًا نحن سقطنا من فرط حجم عقلنا وثقله”.
-“صحيح صحيح!، الحمقى فقط لايمرضون ولا يسقطون”.
-“يالكِ من حكيمة”.
مالبثا يضحكان حتى قاطعهما كازو :
-“ياثقيلا العقل هلّا أسرعنا للعربة؟”.
-“يالك من مفسد للمزاج”.
اكتفى كازو بالسكوت، مشى وعلى محياه ابتسامة ضاحكة.
أتى اليوم التالي ووصلو أخيرًا قبل المغيب للمدينة وقصدوا منزل الخباز للبقاء عنده حتى المحكمة، أدخلهم ورحب بهم، أسعده لقاءه بمن حدثته عنهم يومي، ذهب مع كازو لتحضير الطعام بينما ذهبت يومي مع هارو لتحضير فراش كازو وهارو.
-“أظن أنّ الفراش هُنا، أتذكر أنّه قال في هذه الخزانة”.
-“أسننام على الأرض لتنكسر ظهورنا؟”.
-“تحمّل نتيجة قراراتك”.
-“يالكِ من خائنة أتينا لأجلك”.
-“هاهاها”.
-“الخباز لطيف فعلًا”.
-“أجل، هو من أواني عندما تشردت، آههه كم أتوق لخبزه المغطى بالجبن الطري”.
-“أمسكي الفراش جيدًا وكفاكِ تفكيرًا بالطعام”.
-“إنتبه أكاد أسقط!”.
ظلا يجران الفراش معًا، تارة يميل فيسقط على يومي لتندفن داخله ويضحك عليها هارو، وتارة أخرى تمد يومي قدمها لتسقط هارو لتنتقم فتضحك عليه، حتى وضعا المفارش بسلام وناداهما كازو لتناول العشاء.
هارو وهو يأكل بشراهة ويختنق ثم يعاود الأكل مجددًا : -“الخبز لذيييذ ياعم والحساء شهي سلمت يداك”.
-“يسرّني ذلك يابني، احذر الإختناق”.
-“يالك من شره خفف من أكلك ياهذا”.
-“ستختنق علينا ونتورط بجريمة قتل ونحن لاندري ومحاكمتي بالغد”.
ضحك الخباز عليهم وقال :
-“يالكم من ممتعون، أنتم كما حدثتني يومي حقًا ! سرّني لقاؤكم”.
هارو بفم ممتلئ :
-“تشرفنا بمعرفتك ياعم”.
كازو بيأس :
-” ابتلع قبل أن تتحدث أرجوك”.
يومي بسخرية :
-“لافائدة ترجى منه”.
حالما أنهوا طعامهم جمعو الأطباق سويًا، ذهب ثلاثتهم لغسيلها وسط شجار بسيط بينهم وبعض السخرية، بينما ذهب الخباز لتسخين الحليب والكعك وتجهيز حطب النار للجلوس حولها.
هرب هارو من غسيل الأطباق وتعذر بأنه سيشعل نار الحطب ويساعد الخباز.
كازو : “لست أدري كيف ستتحملك يومي إن تزوجتما”.
يومي وهي منغمسة بالغسيل:
-“وكأني سأدعه يهرب من مساعدتي حينها”.
توقف هارو والتفت بابتسامته الساخرة المعتادة :
-“أقلتما زواج؟”.
سقط الصحن من يدي يومي في الماء واتسعت عيناها بعدما أدركت ماقالته، أخذت المنشفة ورمتها على وجه هارو بقوة :
-“لم أقل شيئًا اذهب!!”.
-“احضر المنشفة ياهذا كيف سأنشف الأطباق الآن”.
إقترب هارو وأعطى كازو المنشفة وابتعدت يومي بخطواتها قليلًا، أمال هارو برأسه ليومي وابتسم :
-“اُبلغي الثامنة عشرة بسرعة حتى نتزوج”.
كازو بسخرية :
-“اووووه عرض جريء! لم أتوقعه منك “.
يومي بوجه محمر بشدة :
-“اصمتا كلاكما واذهب للعم قبل أن يشعلها بنفسه”.
مشى هارو ضاحكًا وهو يردد “حسنًا حسنًا كما تأمرين”.
بعدما أنهوا عملهم اجتمعوا على النار يتبادلون أطراف الحديث والضحكات قبل موعد محاكمة الغد، سأل الخباز :
-“صحيح أتذكر أنّكِ حدثتني عن رفيق ثالث كان صديق طفولتك وحارسك، أسيأتي معكِ بعد المحاكمة ؟”.
صمتت يومي وابتسمت بحسرة وهي تشاهد انعكاسها في كوب حليبها تتذكر ماحدث وكأنه شريطٌ يُعرض أمامها،
فهم الخباز أنه هناك خطبًا ما ولبث الصمت حتى رفعت يومي عينيها بنظرات الخيبة والألم وهي تجيب :
-“لم يعد حيًا”.
عم الصمت حتى استأذنتهم يومي للذهاب للنوم قبل محاكمة الغد.
في صباح اليوم التالي، وبعدما انتهو من إفطارهم وذهبوا للمحكمة جميعهم لدعم يومي في يومها المصيري المهم،
دخلت يومي بكل ثقة ضامنة فوزها في هذه القضية، جلست في مكانها تنتظر من القاضي فقط إصدار الحكم، بعدما أعاد القاضي رؤوس القضية مذ بدأت منذ ٣ أشهر حتى تعدّي لوي وقتله لآلبرت حكمت المحكمة أخيرًا بالقصاص حتى الموت للوي وعمها، والسجن المؤبد لقائد الجيش وزوجته وزوجة عمها، والصك على جميع ممتلكاتهم وأموالهم للحكومة، حتى حق يومي في الأملاك لم يعد ملكًا لها، لكنها لم تهتم ولم تعبأ فهي لم تشأ شيئًا لمسه عمها قبلًا.
طلبت من القاضي السماح بتنازل واحد وهو أن تأخذ يومي تذكارً لوالديها، كان ذلك أبسط حق لها وتم السماح مالم يكن ذا قيمة مادية، همّت لتخرج لكن ركض عمها لتحت قدميها يترجاها للإفراج عنه والعفو عن حياته وهو يحاول تقبيل قدمها لولا أنها أبعدتها قرفًا منه، ظل يترجاها حتى أمسك الحراس به وأبعدوه عنها.
مشت لتخرج أخيرًا بعدما إنتهى قيدها الذي طال ١٣ عامًا وكأنها طائر حبيس قد تحرر، قبيل خروجها التفتت ونظرت لعمها بكل حقد وألم
– “لن أنسى أنني هُنت لهذا الحد، لن أُسامحك ماحييت”.
ثم بصقت على لوي وقالت بغيض :
-“حتى موتك لن يُطفئ حريق قلبي، حياتك لاتعني شيئًا مقابل حياة آلبرت التي سرقتها منه ومني!”.
خرجت ورفعت نظرها للسماء وسألت بيأس :
-” أمي وأبي .. عزيزي آلبرت .. هل ارتاحت أرواحكم وهنأت بعدما نلتُ بثأركم؟”.
أمسكا هارو وكازو بيديها وغادرت رفقة عائلتها الوحيدة، قابضة بيديهم ودموع الفرح تنهمر بشدة معلنةً إنتهاء آلام يومي.
يُتبع ..
حساب الانستغرام : @imamy03