نَجْمِ سُهَيْل - 3
وقف يامن مذعورًا على بحيرةٍ من الدماء.
لقد كان خائفًا…
أجَل كانَ خائفًا…
ولكن لَيسَ مِن الدماء…
بل كان خائفًا من مصدَرِهَا
الذي يَكون هِتَان الصغيرة التي كانت نائمة بسكينة على تلك الأريكة البيضاء الباهِتَة بُهوتًا لا يُعلى عَلَيه…
حيث كانَ ذاك الخُنجُرِ المُهيب يخترق جسد تِلكَ الصغِيرَةِ مِن قِبل بضع وحوشٍ لا تعرف الرحمة، هي مجرد طفلةٌ بريئةٌ منهم في السادسة من عُمُرِها أُدخِلَت في هذه المعركة الشنيعة بين خالد برفقةِ مَن يَدعوهُم يزن ويامن ‘عبيده’ ووالدها يامن وصديقه يزن، بشَرٌ بلا قلوب أفرغوا غضبهم المكبوتَ من يامن… على ابنته الصغيرة، قرروا قتلها لمجرد شجارٍ ما حدث مع والدها في الظَّلامِ الحالك. صغيرةٌ لا تزال في نظير العمر، قلبها نقيٌ، ليس لها أمٌّ تَضُمُها حتى في وِحدتها! فما فعَلَت لتلقى تلك الطعنة الوحشية؟ من ذاك الخُنجرِ الدموي هذا ما نَطَقَ بهِ يامن لاحِقًا . . .
دخل يزن ببرود الأرض لغرفةِ المعيشة، وألقى بنظره على ذاك المنظر الدامي على أريكته الباهِتَة، والذي دُفع بقشعريرةٍ باردة في جسدهِ النحيل الذي لَم يُغَيِّر ملامِح وَجهِه لما رآه فبَقِيَ يُظهِر ملامِح البرود، هُوَ مَن كان ينتظرُ بشوقٍ عودة ذلك الطفل الصغير لحضنه البارد. بينما هو لا يعلم حاله أ إن كان ميِّتًا أم حيًا؛ أم كان مُهلَكًا مرمِيًا في أحد الطرقات من قِبل أولئك الوحوش قاسيةُ القلوب لا تعرفُ الرَّحمة حتى أمام طفلةٍ بالسادسةِ من عُمرها.
كان يامن يقف أمام هِتان الناثِرَةِ للدماءِ برهبةٍ ورُعب، يرى ابنته تموت أمام عينيه. لا يعلم هل ما يراهُ كابوسٌ أم واقع… شعر بعرقٍ بارد يسري في جسده… يهز ذلك الجسد الخالي من أي علامات للحياة… لا تزال عيناها مغمضتين ولم تصدر منها أي استجابة أو ردةُ فعل.
قال بصوتٍ هامس بينما هو يرتجف برعب ” هِتان؟ أنتِ بارِدَةٌ كالجُثَث! فلتَفَحِ عَيناكِ ولتأتي إلي أخبِئكِ مِن أهوالِ هذا العالَم! أنتِ قاسِيَة! افتحي عيناكِ أسرِعي!! “
بدأ يعلو صوته فَزِعًا وتحوَّل صوته لصوتٍ قلق وهو يُردد “أنتِ…! استَيقِظي!!.”
في تلك اللحظة… طرأ على ذاكرته ذلك المشهد، زوجتهُ رسيل… ساقِطةٌ على الأرض بينما دماؤها تملؤ الأرض بها، كل ما خطر في بال يامن في تلك اللحظة كونه لا يريد فقدان شخصٍ آخر.
في محاولةٍ يائسة منه لإنقاذها؛ وضع يده تحت أنفِها لعلَّهُ يستشعر نفسًا منخفضًا منه أو روحٌ مُتَبقِّيَة في هذا الجَسدِ البارِد، صرخ في يزن بترجي ليتَه يجِدُ فيهِ بعض الأمل لإنقاذها..
“أرجوك انقذها يزن.! ألم تكن مُسعفًا في ما قبل؟؟ سوف تموت إن لم ننقذها… حالاً… الآن!”
توجَّه يزن إليها ووقف ينظر إليها بنظرته الباردة المُعتادة دون أي ردةِ فعلٍ أمام رؤيته لذلك الدم على أريكته البيضاء، والتي قد أصبح لونها أحمرًا داكنًا إثر تفاعلها مع الدم. صرخ فيه يامن بغضب ” لما أنتَ واقِفٌ هكذَا؟ أسرِع!!”
اتصَلَ يَزن على بالإسعاف ثم هبَّ وذهب ليحضر عُلبة أدوات الإسعاف ليُسعِفَ بها إسعافًا أوَّليٌ سريع لا يوجَدُ وَقتٌ لإنتظار سيارةِ الإسعافِ لتأتي، قام يزن بلفِّ قماشٍ ما نظيف على مكان الجُرح بعد إخراجه للخِنجر من جسدها الصغير، حذِرَ يزن من أن يحرك المكان المُصاب لألَّا يسبب لها الضرر ثمَّ…
تم نقل هِتان للمستشفى بأمان وعلاجها عِلاجًا كاملًا.
– الساعة الحادية عشر صباحًا –
– يوم الأربعاء ٧ سبتمبر ٢٠١٦ –
مرَّت ثلاثةُ أيامٍ على الحادثة، توقف يامن عن آداءِ عمله الإضافي وبقي يمكث كمرافقٍ لهِتان الصغيرة في المشفى، فهو لا يريد منها البقاء وحيدةً في ذلك المشفى الكئيب كما كانت أُمها سابقًا.
يامن وهو منشغل بتعبئة بضعةِ أوراقٍ للمستشفى يحاوِلُ إظهارَ اللطفِ على ملامِحِ وَجهِه “كيف حالكِ اليوم صغيرتي؟”
هِتان بعيونٍ دامعة ” لا تزال تؤلم!”
أفلتَ يامِن بنظره عن الأوراق ليلقيه على هِتان، وقال وابتسامته المُصطَنَة قد رحلت عن وجهه “أعتقد بأنَّهُ يجب عليكِ إخبار الممرضة عن أوجاعك بدلًا من التظاهر بأنك بخير أمامهم”
هِتان وهي تنظر للنافذةِ مُتذمرة “هذا صعب!!”
“لن يكون صعبًا إن حاولتي “
” لكن أنا- “
قاطعَ حوارهما دخول المُمَرِضة لاستلام الأوراق من يامن ورحلت سريعًا بعد أن أخذت مطلب قدومها. التفتَ يامن وتنهد تنهيدةً طويلة حين رأى هِتان مُطأطِئةَ الرأس خجِلةً من قدوم الممرضة، وأخرج هاتفه وخرج للرواق دون أن ينطق بحرف.
– الساعة التاسعة عشر صباحًا –
– يوم الجمعة ١٦ سبتمبر ٢٠١٦ –
مرَّت الأيام وهِتان في المستشفى، حالما تحسَّنت حالتها تم نقلها إلى غرفةٍ أخرى لكونها خرجت من طور حالتها الحرجة، حيث كانت تركد في وحدةِ العناية المركزة*. كانت تحوم بأرجاء الغرفة رائحة المطهرات والمعقمات كحال أي غُرفةٍ من غرف المشفى، كما أن الغرفة التي وجّهوا هِتان إليها من النوع المشترك، حيث أن هناك من يرقدُ بإنزعاجٍ ملحوظ بهذه الغرفة.
عجوزٌ كبيرةٌ بالسن تُظهر ملامح الإنزعاج من حقيقةِ مشاركتها لغرفتها مع طفلة عاشت هي أضعاف عمرها، عجوزٌ ذات بشرةٍ سمراء قصيرة ممتلئة، ذات شعرٍ متوسط الطول، وأصابع يدها المجعده التي تخترقها أنابيب التغذية…تبدو كبيرةً بالعمر… ربما بالخامسةِ والستين مِن عُمرها، لها شفاةٌ نحيلة مدفونة بذقنها، وعيناها صغيرتان مدورتان جاحظتان غاضبتان غيرُ راضيةٍ بقرار نقل هِتان معها لمشاركتها الغرفة.
بقِيت هِتان تراقب ذلك الطير الذي يجمع الأغصان الصغيرة في فمه لأجل بناء عشه ليبني بيتًا يَضعُ فيهِ أطفاله من خلف النافذة الصغيرة… في انتظار قدومِ يامن من إدارة المستشفى لدقائق، لكن بالنسبة لها كانت هذه الدقائق ساعاتٍ طويلة مُملة، شعرَت بالعطشِ ولم تَستَطِع انتظارَ يامنًا ليحضر لها كأسًا مِن الماء البارد لتشربه وتروي به عطشها، التفتت لترى على الطاولة جانِبَ سريرها كأس ماءٍ بدى وكأنَّه قدَمَ لإنقاذها ويروي عطشها ويُصبِّرَهَا على تأخُّرِ يامن.
رفعت يدِها المُرتجفةِ من التعب و أخذت كأس الماء من أعلى الطاولةِ بيدها المترنحة.
بسبب رجفةِ وحركة يد هِتان الصعبة، سقط كأسُ الماء من يدها… لينسكب على الأرض وينكسر الكأس الزجاجي ويحدث ضجةً صغيرة لثوانٍ معدودة، موقظًا تلك العجوز النائمة. فزع اثنيهما أثرَ ذلك، بينما قالت هِتان بهمس “ألم تكُن تلك العجوزُ ميِّتة؟” .
صرخت تلك العجوز في هذه الطفلةِ الصبُوحَة بِرُغِّي “ماذا تفعل طفلةٌ شقيةٌ مثلكِ هنا؟! ألا يُمكن لأحدٍ أن ينام بسلامٍ في هذا المستشفى السمِج!!”
صمتت هِتان واكتفت بالنظر إليها بهدوءٍ مُستغرَب، دون أي ردِّ فعلٍ يُذكر.
“أهٍ من أطفال جيل هذا اليوم… بعمرك كنتُ أستطيع أن أُجابه شيخًا بالكلام! ماهذا؟! ألم يعلمك أهلك الكلام؟!!”
لم ترُد هِتان بأي شيء سوى أن تغيرت ملامح وجهها لملامحَ قلقةٍ مُرتابة.
غضبتِ العجوز، وصرخت مجددًا ساخِطةً في هِتان وقد احمرَّ وجهها من غضبها وهي تنهض من على الفراش مستندةً على عكازها المهترئ بني اللون “لم يتم أخباري بأن شريكي بالغرفة سيكون أبكمًا” أطلقت بعدها ضحكةً سخيفةً تناسب عجوزًا مثلها، واعتدلت بجلستها ممسكةً بعكازها القديم المُهتَرئ.
التَّفت هِتان إلى النافذةِ متجاهلةً تَسَخُّطَ تلك العجوز البدينة، احتدمت غَيظًا لتتحرك العجوز وتقوم من مجلسها بثُقلٍ متداحمٍ، وتسير بمساندةِ العكاز بني اللون في اتجاه هِتان المُستسلمةِ على سريرها من هول الأوجاع والآلام التي لا تُناسب فتاةً بعمرها…
التفتت هِتان إليها بينما قامت العجوز برفع عكازها عن الأرض وضربهِ بالأرض بقوة ليُصدرَ صوتًا نتيجةَ ذلك. بدأت العجوز بجمِّ غضبها وإفراغه عبر عِتاب هِتان على أشياء تافهةٍ حتى وصلت إلى نقطةٍ أساءت فيها إلى ذويها.
لم تمر أجزاءٌ من الثانية حتى وهِتان مُنقضَّةٌ قافِزةٌ متعلقةً بشعرِ تلك العجوز السمراء، رغم إرهاق وألم هِتان الشديد إلا أنها لم تستطع تمالك نفسها، شدَّت هِتان شَعر تلك العجوز بأقصى ما لديها وامتلكته مِن قوة، حتى أنها كادت وأن تخلع شَعر العجوز من رأسِها، ارتجحت العجوز بهِتان وهي تصرخ يُمنةً ويسارًا ، حتى انقطعت مغذياتهما الوريدية وأصبحت هِتان تطير يسارًا ويمينًا مُتمسكةٍ بشعرِ العجوز والدمعة بعينيها، فهي على وشك البكاء، وكأن الحدُّ الفاصل لحياتها الدنيا يعتمد على عدم ترك شعر العجوز المُسيئةِ لوالديها.
هِتان فتاةٌ هادئة ساكنة لا تغضب أبدًا، حتى عند إهانتها بأقذر الألفاظ فقد اعتادت على تجاهل الأمر، لكن إن حال الأمر وتعلَّق على والديها… ستُصبِحُ وَحشًا.
. . .
تدخَّلت الممرضات في الوقت المناسب، وفصلنَ بينهن، وذلك إثر الضجَّة التي أحدثتها العجوز وهِتان العاجزة أمام تلك العجوز، والتي لم تفقد هدفها رغم عجزها الكامل.
بعد فصلهن دخل يامن مُسرعًا بعد ما سمع الضجة و كثرةِ الممرضات بالغرفة ظنًا منه أن مكروهًا قد أصاب ابنته، فوجدها قد فُتِح جرحُها و هي تنهمر بكاءً أثَرَ الألم الذي تشعر به..
جسديًا…
ونفسيًا…
ما إن فتحت هِتان عينيها بالصباح الباكر حتَّى استجمعت آخر نفسٍ تبقى برئتيها الصغيرتين بعد ما حدث بالأمس، وانهكها كثيرًا كونها خرجت قبل يومين من وحدةِ العناية المركزة، التقطت قِواها وحاولت تحريك يدها بخفةٍ وصعوبة بالوقت ذاته لترن الجرس الموجود على الطاولة المرتفعة المرصوصة بجانبها و المخصصة في الأصل لتناول الطعام، فاستيقظت العجوز على صوت الجرس المزعج.
أخذت تنهيدةً طويلة وبدأت بالعتاب “حقًا أطفال هذا الجيل! إنها السابعة صباحًا!! الأطفال الطبيعيين يكونون نائمين بسكينةٍ بهذا الوقت… لقد أيقظتي الجميع!”
“أعتذر، لم أقصد ذلك، لكن أشعر بالألم في جميع أنحاء جَسدي، ومكان الجُرح يؤلمني حقًا” قالت هِتان بأسفٍ جاحظ.
ردت عليها العجوز بنكدٍ شديد ” بالطبع سيكون الأمر كذلك… فأنتِ لستِ بطفلةٍ عادية بالتأكيد، يا حبة الأرز!”
” لا تُنادني بهذا هذا يزعجني” ردت هِتان بغضبٍ وهي تئنُّ و تتألم.
قالت العجوز وهي تضحك بسخرية ” ومن يهتم إن كان يزعجك الأمر أم لا؟ هاهاهاه! أنتِ صغيرةٌ كحبةِ الأرز يا طفلة، لستِ لطيفة” ضحِكت ضحكة مطوَّلة على ذلك، حتى أنها بدأت تسعل من شدة الضحك، مما أغاظ ذلك هِتان…
* انتهى الفصل الثالث*