نَجْمِ سُهَيْل - 5
بينَ ضجَّةِ هذهِ المدينةِ المُزدحمة تُمارس فتاةٌ في الخامسةِ والعشرين من عمرها رياضةَ المشي وهي تُرددُ أغنيةََ رومانسية بلَهجةٍ مَصرِيةٍ ركِيكة تَخُصُّ مُطرِبَةً مَشهورَةً بَينَ مَن هُم في نَفسِ عُمرِها، مُنغَمِسةً فِيما تَقضي وَقتَها بِه وغَيرَ مُنتَبِهَةٍ لما يجري حَولَها مما سبَّبَ تفاجُئها مِن قَفزِ فتاةٍ شابةٍ على ظَهرِها تبدو مقاربةً لها بالعُمرِ لدَيها ملامحُ أجنبيةٌ عن هذِه البلاد.
ثُمَّ وبِها تَبتَسِمُ وتصيحُ وهي تَلعَبُ بِشَعرِ المسكينةِ التي قَفَزَت وأرهَقَت ظَهرهَا بِوَضعِ حِمْلِ جَسَدِها عَليْه.
“ماذا تَفعلينَ بِهذِه الأنحاءِ آلاء؟”
ردّت عليها آلاء بِتَذَمُّر بَعدَ أن دَفعتها عَن ظهرها ” شَعرتُ بالمَلَلِ مِن البقاء بالمَنزِل فغادَرتُهُ مُنذُ بِضعَةِ ساعات و مِن فَضلِك لا تكسري عامودي الفقري دوبو! ”
دوبو ” يبدو بأنهُ حتى الأثرِياءُ يملونَ مِن ثرائهِم! إذا وَضعتُ نفسي بموضِعِك لن أغادِر مَنزِلي وأعتَكِفُ بهِ حتى شَيخوخَتي! ”
آلاء ” هذا ليس جيدًا لصحتكِ الجسدية والعقلية، ولا يوجد شيء لفعله في ذاك المنزل الكئيب ”
دوبو ” لكن انظري إليكِ! صحتكِ ممتازة وأنتِ جيدةٌ بالرياضيات وأكثر مني لياقةً حتى!”
تنهدت آلاء وقبل أن تحاوِل حتى النطق قاطعتها رفيقتها التي صاحت بتذمر ” مُستهترة!! لديك كُل أنواع التسلية متوفرة بمنزلك!”
آلاء “أنتِ حقًا!! ألم تسمعي بقول – المال لا يجلب السعادة- مسبقًا؟”
دوبو ” فهمتك فهمتك! لا داعي للغضب والتأفف بوجهي”
تأففت آلاء مِن تصرفات رفيقتها الطفوله ليحل الصمت ويصيب الرفيقتان بالصمت بينما يمشيان برفقة بعضهما البعض يمشيان للأمام بلا وجهة محددة في ذلك اليوم الحار رفقة صوت مواء القطط المتشردة مَن تتخذ تلك الشوارع والأزقة كمأوى لها عن حرارة الشمس بالنهار وبرودة صقيع النسيم بالليل، قططٌ جياع تلتف حول المارة توسلًا منهم لبعض الماء والطعام رفقة موائهم الظريف المغري بالنسبة لتلك الحسناء ذات الأعين الزمردية الخضراء المائلة للبياض برموش طويلة تلامسها خصلات شعرِها المتمردة لتطغي رونقًا يبهر العيوت لملامح وجهها الأجنبية وشفتاها المزهرتان ربانيًا المميزة عن غيرها مِن فتيات هذا البلاد وما يجعلها من النوع المفضل لجيل اليوم من الفتيان.
ركضت نحو متجرٍ قريب لتبتاع بآخر ما تبقى لها من مال بعض معلبات التونا وحليبًا طازجًا للقطط التي أغرتها خارجًا والتي بقيت تنتظرها رفقة صديقتها الضجرة من تصرفات رفيقتها اللطيفة.
سكبت بعض الحليب و فتحت علب التونا بينما تلاعب القطط بأناملها الرقيقة وتقف خلفها آلاء منتظرةً إياها تنهي هذا الروتين الممل رفقة تلك الكائنات الصغيرة المليئة بالشعر الناعم.
أنهت زمردية العينين فِعلها فنهضت نافضةً الغبار المزعوم عن ثوبِها، لاحظت آلاء نهوض صديقتها فانتفضت بسعادة وقالت مربتتًا على كتف دوبو من الخلف
آلاء ” تلويث يديك بملامسة هذه الملوثات المليئة بالبكتيريا والأمراض الخطيرة للبشر أمثالنا”
تأففت دوبو و أخبرتها مبعدةً يد آلاء عن كتفها من الخلف ” أنتِ قاسية!! لطالما حلمتُ وتمنيت بالحصول على قطٍ سمينٍ أبيض اللون، لطيفٌ بأرجلَ ناعمة!”
آلاء ساخرة ” يبدو بأنك تحبين أن تسرحي في خيالك أثناء الحديث”
دوبو بهمس ” تشه ”
آلاء ” أ نقرتي بلسانك لي الآن؟!”
دوبو ” أنتِ تتوهمين!”
مشت آلاء بخطواتٍ سريعة مبتعدةً عن صديقتها التي تحاول باجتهاد اللحاق بها بينما الأخرى تبتسمُ بالخفاء محاولةً كتم ضحكتها.
…
دخل يزن بمفرده الى ذاك المكان الوحشي حيث يجْمعُ فيه المرضى حسَب ما رآه يزن … ، مكانٌ قذرٌ مليءٌ بالقاذورات التي تخفي ملامحها القذرة أمام العالم ليحصلوا وينالوا على سمعةٍ حسنة ، مُعتقدين بأن هذه الأقنعة سـتضع الستار عليهم فـتختفي وحشيتهم أمام مرأَى الناس .. ، أغلبيتهم وإن لم يكونوا كُلِهِم أشخاص معروفون بالعالم الخارجي ذوي أحساب وأنساب ، وأعمال وإنجازات ، سياسيون و أُناس دين ، يضعون أقنعة الطيبة الكرم والأمانة فـيخدعوا الناس بطيبتهم السخية ، هؤلاء من جهة أخرى يطلق عليهم ( منافقون ) . حين ما يضعون أقنعةً تخفي وجيههم ( كي لا تتأثر أعمالهم او ما شابه) يميلون لأفعال قذرة تبتعد كل البعد عن مفهوم الرحمة والإنسانية والعطف او حتى الشفقة … مقرفين.
” مقرف ” قال يزن باشمئزاز مما رآه حوله من أناس فقدوا إنسانيتهم فور ما وضعوا القناع الحيواني .
ضِحكةٌ مُقرِفة أتت من خلف يزن ليتفت ويرى رجلًا نحِيلَ العظام طويلَ الأنامل يقف مترهِلًا كعمود إنارة، يضحك بقذارةٍ خلف ذلك القناع الحيواني المناسب له ليخفي قباحةَ معالم وجهه المهترئ، اقترب من يزن بينما يترنح يمنةً وشمالًا كالثمل السكير، رفع يده محاوِلًا الإمساك بيزن من مرفقه ليعطي يزن ردة فعل سريعة ويلكمه بمعدته ليبصق الآخر لُعابًا تمركز بعد بصقه بالجهة الخلفية مِن القناع فيسقط أرضًا ممسكًا بمعدته يترنح بصمتٍ وكأن تلك اللكمة أخرسته.
” رائع خالد، جمعت كل أنواع الحيوانات القذرة هنا! ما هو بحق هدفك من هذا؟ماذا تريد؟!”
نطق يزن هامِسًا ليسك أسنانه على بعضها شاتمًا خالدًا ومن رافقه وسيَّرهُ بحماقته.
سارَ يزن نحو زاوية مطلةٍ نافذتها على سماء الليل ليريح بها أعصابه بعيدًا عن المجتمع الحثالة من حوله مبتعدًا عن كل ما يشتت ذهنه مُركزًا على ما يحبه ويستسيغه قلبه من نجوم أو مِن نجمٍ بشكلٍ أصح.. ولكن قبل أن يدخل ويتعمق بأحلامه البنفسجية الممزوجة باللون الأحمر قاطعَ طريقه يدٌ ناعمة أمسكت مِرفقه من الخلف.
لنعومة تلك اليد والدفئ المحيط بها ظنَّ أنها امرأةٌ تريد اللعب قليلًا داعسةً على نفسها بقوة، شتم يزن نفسه لتواجده هناك والتفت رافضًا تلك الغامضة… ولكن
..
ياللـمفاجأة!
…
“خالد؟”
هذا ما نطق به يزن وهو يرى خالد ممسكًا بمرفقه بحنيةٍ وعطف وكأنه ممسك يدَ فتاةٍ رهيفة ما أثار ذلك حيرةَ يزن كيف لفتى أن يكون بهذه النعومة… لكن إن دار الحديث عن خالد وفبالطبع متوقع أن تكون يد هذا المدلل أرهف من بعض الفتيات، فما شغلته غير التحلطم من عمل والده الصعب على حد قوله وإفساد حياة يزن وهو مرتاح على فراشٍ ناعمٍ من حرير يفكر بخطط تناسب مُخ** مثله.
اشمأزَّ يزن لوهلة حين أدرك أن هذه اليد الحقيرة تمسك مُحتضنةً يد ابنه طوال هذه السنين إن لم يكن بشكل يومي على حد قول خالد.
بحركة بديهية سريعة أبعد يزن يد خالد عن مرفقه حتى لا يلوث نقاء يده بخطاياه المميتة كما يظن مما أغضب خالد وجعله يمسكه من قميصه بابتسامة خفيفة تكاد تظهر خجلةً من الظهور على شفتيه من شدة قرفها واحتقارها بدونية ليزن الواقف منتصِبًا بأعينَ مشمئزةٍ هناك هو الآخر.
لنترك هؤلاء الرفاق قليلًا وننتقل ليومٍ سابق من أيام هذا الصيف الحار…
عندما ترتَكز الشمسُ في منتصف السماء وتُلقي بأشعتها الحارةِ على المارةِ في الشارِعِ الخامِس والستين بوسطِ المدينة، تَجلِسُ على الرصيف الساخِن فتاةٌ جميلةٌ بِشعرٍ أسوَد حريريٍ أملس منسدل يصِلُ لمنتصف ظهرِها وأعيُنَ خضراءَ تَتَلألأ كالزُمرد الذي يَبرُق بَين ظُلُماتِ الكهوف وغَيهبانِها، ترتدي رداءً خفيفًا أحَمرَ اللونِ مُزهر، حافِيَةِ القدمَينِ لم يَلمس بَشَرَتِها أيًا مِن مساحيق التجميل قط.
تَحتَ حرارةِ الشمسِ الطاغية هبَّ نسيم بارِدٌ داعبَ خصلات شعرِها المُتمَرِدة وأضافَ رونقََا جميلًا في هذه الأجواء الحارّة، قَدِم مِن بعيد كَهلٌ يرتدي ثيابًا كثِيابِ التجار يبدو على مَعرِفةٍ بهذه الفتاةِ الغانِيَة.
” يالكِ مِن بطيئة أسرعي سنبدأ الآن ”
الفتاة وهي تَلتَفِتُ للجهةِ المُغايِرة ” مهلًا.. ”
تنهّدَ التاجِر وقال “أ كنتِ تَبكين؟ ” أبتسم ثم أردف ” مُدلّلة ”
الفتاة وهي تستَدمِع ” هذا طبيعي! في لحظةِ الحزن أبكي، أيضًا لا تنعتني بالمُدللة! ”
التاجِر بسخرية ” سَتَكون هيَ هناك إذهبي وأحكي همومكِ إليها ”
الفتاة بعبوس ” أحتاجُ بَهجَتَها كي أحكي..”
تَقَدّمَ صبيٌ بِثيابٍ قَذرة مِن خَلفِ الفتاةِ وقال ” لو أنهم سمعوني أو حتى حاولوا فهمي فلربما لم تَمُت”
قاطعتهُ الفتاةُ وهي تنهضُ مُسرعةٍ ” هي لم تَمُت! كُفَّ عَن تُرهاتِكَ يا أُوَيس وأمضي في طريقكَ”
أُوَيس بضَجر مُوَجِهًا كلامَهُ للتاجِر ” أخبرتُكَ بأنها بكَّاءه ”
لم يُنصت لهُ التاجِرُ الكهل في حديثه وأكملَ طريقه يمشي وراء الفتاة التي تمشي بخطواتٍ مُسرعة بينما يتراقص شعرها يُمنةً وشِمالًا ثمّ أردف بصوتٍ خفيض
” عليكِ بالتوقف عن أوهامِك يا صغيرة ” ومضى في طريقه وراءها.
راود خالد طوال هذه السنين شعور دائم بالدونية والاستصغار تجاه يزن.
يرى وكأنه حشرة يستطيع دعسها ببساطة وتحطيم حياتها وأحلامها وآمالها ثم التظاهر وكأن شيء ما لم يحدث، لكن الآن يريد حبس يزن بزنزانة مظلمة يخبره بأن لا أحد يحبه في هذا العالم وإنما من أحبوه يخادعونه لمصالحهم الخاصة غير آبهين بما سيحل به لو طعن مرة أخرى بعد، ثم يبدأ بإطلاع يزن على جحيمه متلذذًا بهذا المعذب أمامه المقيد الأيادي والأقدام، بلا أنامل تتحسس له أوجاعه وملامحه لقطعه لها عن جسده، لا عيون لهُ تبكي وتستنجد بنظراتها، لا لسان يشكو حاله لآذانٍ قد تكون صاغيةً منصتة وقد لا تكون، لا أقدام تنجيه من قيدٍ ما يمنعه عن موته، لا أحد يشارك أو يسمع أنينه وعذابه…. وحيدًا بالظلمة لا يدًا تسعفه ولا صوتٌ يرد عليه او حتى شخصُ يشفق عليه….حسنًا، هذا ما يريد خالد فعله بيزن بعد أن ينهي مهزلة البطل والشرير…. أفكارٌ مريضة…
تليق به تمامًا.
قرر يزن سماع أهازيل خالد لتذكره ذلك الفتى الصغير المنتظر لديه تحريره لينطلق لأبيه بحرية مطلقة.
تبع يزن خالد لمراده بينما الآخر يسحبه من قميصه لوجهةٍ لا علم له بها ، توالت أفكار تنبض بقوة في قلب يزن عن محاولة قتل خالد سواء كان ذلك عن طريق خنقه أو سحق يده الناعمة بأيديه التي أقساها الزمان، لكن نظرات طارق الخارقة لهشاشة عظامه منعته من التصرف بما لا يرضي سيده المدلل…
في منزلٍ شَعبيٍ مُظلم يَحتضن شابٌ شقيقهُ الذي لا يبادلَهُ دفأه.
دفع الأصغر الأكبر بقوةٍ بينما الآخر تساهل مع أخيه ولم يجابهه بالقوةِ واندفع للوراء مصطدمًا بالحائط بعنفٍ بإبتسامة ساخرة.
“قُل لي يامن يا أخي الصغير يا فلذة كبدي لما اخترتهُ علي؟ أ يعجبك هذا التشتت يا شقيقي!”
نطق يامن بحسرةٍ من بينِ أسنانه
” ياسِر .. أنت تعرف بشكلٍ جيد بأننا توأم! أمنيةٌ واحدةٌ فقط تتردد ببالي .. إن تُزِل عني قَرَفك لأصبحنا طبيعيين كأي توأمٍ من التوائم بهذا العالم المشبوه! أنت على علمٍ تمامًا كيف هيَ علاقاتُ الإخوة الأخرى، علاقةٌ صحية خاليةٌ مِن تلك العثرات لكن أنا وأنت مُختلفين كامل الإختلاف عن أي علاقةٍ أخوية صحية مثالية! ركز معي ياسر توقف عن حـ- ”
قاطعه ياسر بابتسامة منكسرة قائلًا بصوتٍ هادئٍ ونظرات مُختلفة عن السابقة
” أراك أتيتَ كي تُعاتبني أخي ..” تنهد بصوتٍ واضح وأكمل
” لا يوجد توأم مثالي كما تعتقد يا نسختي المُزهِرة! نحنُ مختلفين والإختلاف إن لم يكن متخلفًا فهو جميلٌ يا نصفَ روحي … يامن-”
صرخَ يامن مقاطعًا لأكبرِه
” كلامُكَ خالٍ من الصحة ياسر! وأيضًا ..”
توقف يامن عن الحديث حالما شاهَدَ ياسِر يرفع يدهُ ويخلخل أصابعه لامسًا فروة شَعرِه بأنامله الخشِنة.
كان يامن مُتأكِدًا أكدًا تامًا أن ياسِرَ سيشدُّ شعرهُ ويطردهُ خارجًا بطريقةٍ مُزعجةٍ له لكن بدلًا مِن فعل ما ورد بعقل يامن فهاهو ياسر ينحنى ملصقًا جبهته على جبهة أخيه أثناء تمسيده لشعر متمتمًا بخفوت خلال دهشةِ يامنَ من تصرف توأمه
” آسف ..”
تحدث يامن بهدوء
” على ماذا؟ …..”
تنهد ياسر بصمت وأردف
” على هذا ..”
فتح يامن عيناه ليرى مقصد أخاه فصادفه رموش أخيه الطويلة وعيناه الزمردية المختلفة عنه …
فقد انتباهه لثواني ليجذبه الظلام اليه رامٍ بسحره عليه مغلقٍا عيناه في سباتٍ طويل في ذلك السواد الحنون…
*انتهى الفصل الخامس*