Li - 04 - 1
– الفصل ١ –
[ الفصل الأول – هواجس مبعثرة – ]
——————————————————
في ذلك اليوم، حين قابلتها أول مرة، تلك الطفلة ذات الخمس سنوات، بشعرها الأشقر المنساب على وجنتها الوردية، بينما تحدق عيناها الذهبيتين في الأرض، بانكسار و ضياع .
هيأ لي حينها أنها كانت تبحث عن شيء مبعثر تحت قدميها، ذكرى، أمل، أو ربما مستقبل…
لم أعرها أدنى اهتمام حينها، لا شيء يثير اهتمامي في فتاة يتيمة بائسة. و على كلٍ، أنا أكره الأطفال، من صوت بكائهم، إلى رغباتهم الا متناهية. صعدت إلى غرفتي هناك حيث استلقيت على السرير أنتظر من أعمالي المتراكمة إنجاز نفسها بنفسها، كما لدي مهمة مساءً على إنجازها…، تنهدت بقوة،…
“ سحقًا “
بقيت أنظر لسقف الغرفة و أفكر بالكثير…، في كم هو ناصع البياض، أعني السقف، للأسف لا يشبه قلبي على الإطلاق..
طرق الباب بينما أسرح في خيالي تهربًا من الواقع، لم أشأ النهوض و لم أشأ التحدث، لكن طرق الباب المتواصل جعلني أفتح وعي و إدراكي للحياة التعيسة.
“من هناك ؟ ، فلتدخل “
“ سيد رينجي، السيد يطلب حضورك “
اخترق صوت ريكو الباب حينها، و كان يبدو أنها غاضبة و منزعجة، فقد بقيت واقفة لخمس دقائق تطرق الباب. ريكو مربية تعمل في إدارة شؤون المنزل و قد كانت صديقةً لأمي في الماضي رغم الفرق الشاسع بينهما إلا أن والدتي كانت تقدرها كثيرًا. كنت أتمنى لو طلبت مني تنظيف المنزل، أو طهو الطعام أو أي شيء آخر، عدا الذهاب و خوض نقاش حاد مع والدي غالبًا ما سينتهي بصفعة على وجهي.
نهضت بتململ و تكاسل كم أتمنى أن أفقد وعي الآن، أن أموت…. و أختفي للأبد..
عندما خرجت كانت لا تزال واقفة، فبينما هي تنظر لي بغضب و انزعاج، كانت نظراتي تسرح في الهواء بجفاء، و بعد أن أدركت أنه لا فائدة ترجى مني، تنهدت، ثم انصرفت بامتعاض بادٍ على وجهها.
طرقت الباب بتثاقل
“ أدخل “
فتحت الباب وقد كان والدي ممتعضًا هو الآخر، جالسًا خلف مكتبه يضرب القلم على الطاولة باحتدام، يبدو أنني كتلة برود و جفاء متنقلة لا تشعر بتأنيب الضمير إطلاقًا، لقولي له و هو على وشك الانفجار:
“ هل هناك شيء؟ “
نظراته التي تتمنى صفعي حينها كانت مخيفة، أشحت بوجهي فالنظر في عينيه مدة طويلة متعب أكثر من وقوفي، حقيقةً لن ألومه على ما ينوي عليه الآن، فرغم تأخري و تكديسي لأعمالي، سألت ببراءة إن كان هناك شيء، لكن يبدو أنه ليس من خطط والدي توبيخي اليوم فجدول أعماله هو الآخر مزدحم….، الحياة لا ترحم حقًا.
وضع يده على رأسه و تنهد بقوة، يمكنني تخيل كم يعاني الآن، رفع رأسه و تناول أحد الملفات المرصوصة بجانبه و رماه على الطاولة نحوي، اقتربت منه و التقط الملف و بدأت أقلبه بين يدي، مهما كان محتواه أتمنى أن يحترق فأنا أملك ٣٣ ملفًا في غرفتي بالفعل، و لا أحتاج المزيد، و الظاهر أن والدي لم يقم بالنظر في مضمونه، فتحته و أخرجت أوراقه، كانت مقالات قصير عن حوادث انفجار، ثم عن المصابين، ثم عن رايف و مشروع كو، ثم….. إيري رايدر ، الطفلة ذاتها الجالسة في الأسفل، تنتظر بيأس الأعوام حتى الجحيم… . أغلقت الملف و نظرت لوالدي الذي لاحظ في عيني الرفض القاطع لأي كلمة ينوي قولها، لكن مع هذا قال بشكل حاسم:
“ منذ الغد ستتكفل بكل شؤنها، فأنا لا أملك الوقت للاعتناء بها، و لا تنتظر مني جعل الخدم يقومون بهذا، كما أنها فرصة جيدة لتطور مهاراتك المرهفة في التعامل مع الآخرين، و أيضًا، أنا لا أعتقد أنك تملك أدنى نية في الرفض، أليس كذلك ؟ “
“ أ..أجل “
قلتها بضيق، فأنا أيضًا لا أملك الوقت لأمر كهذا، وربما طريقة كلامي كانت تنم عن عدم الاهتمام و الانزعاج الواضح لأني عندما هممت بالخروج قال لي:
“ لا تقم بقتلها رجاءً “
لست قاسيًا لهذه الدرجة!، إلا إن كان من ناحية الإهمال. على كلٍ عدت لغرفتي حينها ورميت الملف مع جبل الملفات الأخرى المنسية، و ألقيت بجسدي المرهق على السرير طالبًا أخذ غفوة من كل شيء.
استيقظت بعد مدة، نظرت للساعة على الجدار، فاكتشفت انها لم تكن غفوة فقد أمضيت ساعتين ممددًا على السرير كالجثة. و قد تجاوزت الساعة الحادية عشر، نهضت فزعًا بسرعة كان يجب علي التواجد قرب المحطة الساعة الثانية عشر، فتحت هاتفي فوجدت زميلتي في العمل رين قد اتصلت ١٠ مرات دون فائدة، رتبت أغراضي و ارتديت ملابسي و انطلقت للأسفل مسرعًا، و بينما أسير في الرواق الفاصل بين الباحة الخلفية و غرف الضيوف، لمحت كائنًا صغيرًا ممددًا على أريكة الرواق، بجسد منهك، مليئ بالندوب و الكدمات، مع أني كنت متأخرًا إلا أن وجودها هناك أوقفني للحظة، و جعلني أفكر، من هذه الفتاة ولما تتمدد على أريكة الرواق، هل أوقظها ، أم أبقيها نائمة حتى أعود لأتدبر أمرها، كان الجو باردًا إلا أنها كانت تتصبب عرقًا، من الأحمق الذي ينام في الرواق؟. فجأة تذكرت أن والدي طلب مني الاعتناء بها، و طلب مني أن لا أقتلها، صحيح! الفتاة من رايف!. لكن بالتفكير في الأمر يبدو أنها لم تبرح مكانها منذ وصلت إلى هنا، كان يجب أن أسرع لكن النظر إليها يجعلني أشعر أن للماضي أوجه عدة لا تزال تكرر نفسها، البقاء هنا بلا غطاء…، الشعور بالبرد و التعرق في الوقت ذاته، البكاء بصمت و الصراخ دون صوت، احتضان الجراح بوجم، أنا أتذكر …. فعلى هذه الأريكة… ذاتها التي تستلقي عليها الآن،… كنت أبكي عليها لساعات …. حتى تستسلم عينيّ لسبات من الكوابيس…. المؤلمة و الفارغة، نفضت ذكرى الماضي العابرة بسرعة، و قررت إيقاضها، اردت الاقتراب منها بهدوء كي لا أفاجئها، لكن و بمجرد اقترابي منها بضع خطوات، فإذا بها تنهض فزعة تتلفت يمنة و شمالًا، حتى استقرت عيناها الخائفتين على الرجل الغريب الواقف أمامها، بقيت تحدقي في وجهي بخوف، كأنها تحاول تذكر شيء ما بين قسمات وجهي، ثم نهضت معتدلة و هي تلهث بشدة، أطرقت برأسها أرضًا، و لم تنطق بشيء، كان واضحًا أني كنت كافيًا لأظهر في كوابيسها مستقبلًا.
“ هل أنت حمقاء؟، لا يمكنك النوم في الرواق مطلقًا “
قلت معاتبًا بمزيج من الانزعاج، رفعت رأسها و رمقتني بنظرة حادة تنم عن الغضب و القلق، ثم اشاحت بوجهها وعادت تنظر للأرض، أنا حقًا لا أعلم ما الذي تجده مثيرًا بين قدميها في بلاط الأرض.
تنهدت بقوة ثم قلت :
“ ألم يخبرك أحد عن مكان نومك ؟ “
لم تجب، بل بقيت تحدق في قدميها، حتى أنني شككت بوجود شيء معين تنظر له هناك، اقتربت منها و رفعت رأسها باتجاهي لأجبرها على النظر في وجهي.
“ عندما أتحدث يجب أن تنظري لي، لا أن تنظري لقدميك و هي تتحرك“
بدت غاضبة، أبعدت يدي و أشاحت بوجهها ثم نطقت أخيرًا :
“ النظر في قدمي خير من النظر لأمثالك “
عفوًا!، هذه الطفلة…، سـ…. ، لا، لا يهم يجب أن أسرع و إلا تلقيت توبيخًا محترمًا غدًا.
بعض الأطفال لا يستحقون الرحمة..، سحبت يدها بعنف، قاصدًا أخذها لأحد الغرف الشاغرة، كنت أسير بسرعة ممسكًا يدها بقوة، كنت أشعر بها تتعثر خلفي محاولةً مواكبة وتيرة سرعتي لكنه خطأها منذ البداية. كان يوجد العديد من الغرف التي تكون فارغة غالبًا، إلا أنها مقفلة، فكلما حاولت فتح أحدها وجدتها موصدة بإحكام، فمدبر المنزل يقفل جميع الغرف بعد منتصف الليل كما أنه لا يبقي الغرف مفتوحة أغلب الوقت. ضربت بيدي على الجدار أحاول تدارك الوقت، فمذا أفعل بها الآن؟، يجب أن أسرع!، فكلما ألمح الساعة أرى الدقائق تنطوي طيًا. التفت حينها أنظر لها، فوجدتها تمسك بمعصمها، يبدو أنني شددت عليه كثيرًا..، لا يهم، قررت أخيرًا بعد أن يأست من البحث أن آخذها لغرفتي، ترددت في بادئ الأمر فكونها تجلس في غرفتي لوحدها أمر لا يطمئن مطلقًا إلا أنني لم أجد خيارًا آخر. أخذتها للغرفة و فتحت الباب وطلبت منها الدخول، فألقت نظرة علي ثم إلى الغرفة ثم لمعصمها ثم عادت بنظرها للأرض و دخلت الغرفة، فتاة غريبة! . طلبت منها الجلوس على السرير، ثم هممت بالانصراف مسرعًا، و قبل إغلاقي للباب التفت لها و قلت محذرًا:
“ لا تلمسي أي شيء عدا السرير الذي تجلسين عليه، مفهوم ؟ “
لم تنطق بشيء، و لهذه المرة فقط لم أطمئن لصمتها :
“ هل تستمعين إلي ؟! “
و لم تجب، نفذ صبري و جن جنوني، و بدون وعي مني وجدت نفسي أضع السكين أسفل عنقها مباشرةً، فبدأت أناملها الصغيرة ترتجف بينما تحدق في بفزع و خوف، فقلت بحدة مهددًا:
“ هل ما قلته واضح؟ “
لم تجب أيضًا، إلا أنها أومأت برأسها إيجابًا، فأرخيت يدي و انصرفت خارجًا من الغرفة، تاركًا خلفي فتاة مذعورة تحاول بعينيها النظر إلى عالم مظلم….
—————————
“ أوه جين!، هل تذكرت توًا أن لديك عملًا مهمًا يجب إنجازه قبل الواحدة ليلًا ؟! … “
“ فلتخرسي رجاءً “
“ أوه أعتذر أيها الرئيس لم أقصد رفع صوتي! “
رمفتها بنظرة حادة، لتغلق فمها للحظات ، فاشاحت بوجهها غاضبة، ثم قالت بامتعاض واضح:
“ أنا سأقود السيارة ! “
“ إنها سيارتي “
نظرت لي من طرف عينها ثم قالت:
“ أليس هذا السبب الذي سيدفعك للنزول الآن؟ “
جدالها سيكون متعبًا، لذا قررت التنازل هذه المرة.
——————————————————
– يتبع –