إيروسيا - 2
قبل تلك اللحظة النافذة إلى الأمل، كانت حياتي هشة وُمهجورة، تفتقد دفء العائلة والألحان التي تحيي روحي المتعبة. غير أن ذلك اليوم، وأنا أتخطى الطرق المكتظة وأرقب من خلال الزجاج الملطخ بعقابيل الحياة، تهاوت دقائق الزمن إلى لحظة سكون. كان البريق النابع من تلك الزاوية ينبئ بولادة حدث يلوح كنسمة ربيع في فصل شتاء قاتم.
رؤيا عائلة تحتفي بالفرح كانت تتألق أمامي. عبرت نظراتي الى أفراد يملؤون فضاء الوجود بفرحة عارمة، تحول ذلك الألم الراكد إلى إحساس بصحوة القلب. للحظة، أغمضت جفوني، لأعود وأفتحها على فصلٍ جديد.
مشهد الأم تتبعها ضحكات أطفالها البريئة التي تحوم كفراشات حول نور شمسها، ذلك كان كافيًا ليزرع في صدري حرارة تنبض بالتفاؤل. تلك الابتسامات، يا لها من مشاعل توجِّه خطاي من بحر اليأس إلى شاطئ الأمان.
صدى الضحكات كان يتهادى في الفضاء، يستقر بأذني، ويعزف ألحانًا تراقص أوتار قلبي الجريح. نمق صغير من الرجاء بدأ ينساب من أعماق قلبي المثخن بالجراح ليغذي كياني المنهك، لحظة محتشمة لكن بتأثير ممتد.
أدركت وقتها أن تلك الفسحة من السعادة كانت رفضًا للرضوخ للأقدار الموجعة. إن البذور المشاع للأمل والسرور بدأت تجدد من عبق حياتي المظلمة. ذاك الشعور بالحيوية وإيمان بأفق جديد عاد ينبض في أوصالي.
وبالمغادرة من ذاك السطوع المفاجئ، وبالمواجهة مجددًا لواقعي الأليم، اتضح لي أن الانفتاح نحو العالم الخارجي وبناء صلات ذات مغزى، يمكن أن يعيد رسم ملامح المصير. وثبتت في ذهني صورة الانتصار على الظروف، قابلةً للتحقق.
.
.
وأنا هناك، واقفة في المركز، عيني تتتبع آريا وهي تُلقي بأحضانها حول شخصين يبدو من المؤكد أنهما إخوتها، اللذين كانت قد حكت لي عنهم من قبل. امتلىء قلبي بالسعادة لرؤيتها بهذه البهجة، ولذلك عندما اقترب الطبيب من الباب، انسحبت بهدوء لأعود إلى حديقة المستشفى. امتلكني شعور يشبه الحنين، الأمر الذي أعادني للشوق إلى الأيام التي قضيتها مع احبابي
…..
…..
…..
…..
تلعب الرياح بخصلات شعرها البنية وتبرز عيناها الزرقاوان، متألقتان كالألماس في سطوعها. تسحب خصلاتها خلف أذنها في حين تتطاير أوراق الأشجار من حولها، تاركةً انطباعًا يوحي بأنها بطلة فيلم سينمائي ما.
“سيرا”،
هكذا دعاها صوت أنثوي ليجذب انتباهها. التفتت لترى الممرضة الأمينة واقفة بجانبها، تنحني قليلاً وتقرب وجهها من وجه سيليا.
“ألم أقل لك أن تأخذي دواءك؟ لماذا تتجنبينه هكذا؟”
قالت الأخيرة بنبرة مليئة بالعتاب.
“آسفة، يا إيفا، لكن الدواء طعمه مُر جدًا.” أجابت بخفوت.
إيفا استقامت بظهرها، مدت يدها إلى سيرا ورفعت لها خصلات شعرها الأشقر برفق إلى الخلف.
“هيا، يا عزيزتي، لا تتخطي موعد دوائك. ألا ترغبين في الشفاء سريعًا؟”
سيرا أشرقت بابتسامة خجولة وتلقفت يد إيفا، فسارتا معًا في الحديقة لبضع لحظات أخرى قبل أن تعدّا لمبنى المستشفى مرة أخرى.
.
.
“سأتولى تغيير ماء المزهرية، انتظروا لحظة”،
أطلق أوريون هذه العبارة وهو متجهٌ صوب الباب. الأروقة الطويلة والمعقمة للمستشفى تعبر عن النقاء بمظهرها الأبيض، سواء جدرانها أم أرضياتها – كل شيء ينضح بهدوء علاجي.
يتخذ خطواته برفق، بلا صدى يعكر صمت الممرات، ويسير في الحديقة حيث أقحوان اللافندر الذي جذب عينيه. أشعة الشمس تسترق النظر بين الأغصان، فتضفي سحرًا خالدًا على المشهد. ينعم بسلام يغمره، كأنه انتقل لواقع آخر بأكمله.
عبق اللافندر يأسر الروح، وأوريون يتنقل بينه بإجلال، مُكرِّمًا وقاره ونعومته. هذه الأزهار مترادفة مع الحب والتفاؤل. فهل ستُبشِّر هذه الزهور بفصل جديد؟
يحمل المسارات البيضاء العديد من الأسرار، وأوريون ينشد الإجابات وهو يخوضها بهمة شاخصة إلى ما يخبئه غدُهُ. ترى، هل سيكتشف المستقبل الذي يتوق إليه هنا أم أن مروره سيشكل حلقة عابرة في ملحمة العمر؟
…
….
….
….
على جانبٍ هادئ داخل غرفة المستشفى، تتخذ فتاة يافعة مقعدها. تطوّقها راحة تخلق جوًا من الانعتاق من قيود الواقع، ومهما كانت حالتها الصحية، إلا أن ثمة نورٌ إبداعي يفيض من روحها.
أُمامها لوحة بيضاء تستغيث بالتلوين، والألوان المتناثرة تنثُّ أمامها كعشبةٍ تنتظر الزرع. تنغمس في تنسيق فكرها وتستنهض الوحي في قلبها. تعانق الفرشاة بدفء تواق لتَصوغ في اللوحة صَدى الحياة بكل احتفاء بألوانها.
تسترق النظر من النافذة إلى الزهور، فتستقي منها انحناءات وأصباغ. تصوّر بلوحاتها مشاهد بديعة، أحيانًا تمزج الألوان مع خطوطها لتشكل أمنيات وحكايات.
تنساب على شفتيها ابتسامة عذبة إذ ترقب لوحتها، وكأنها تتأمل كونًا ما تفيض به الحياة. مع أنها رسامة بين الظلال، فإن لوحاتها تنقل إحساسًا ليس للأقوال فيه نصيب.
هي وريشتها سمفونية متفردة، تخاطب البال وتقدم الشفاء لجراحاتها بالفن، مانحةً إياها همّة لتستزيد من أجل جديد.
“سيرا، ما الذي تعكفين عليه؟”،
همست الممرضة بلطف، متسائلة عن ما تقوم به الجالسة عند النافذة.
“أصوغ من تفاصيل الحياة حكايات، أجمع اللحظات البهية وأنقشها على القماش لتروي قصص الأزمان.”،
كانت إجابة سيرا بنبرة حالمة.
“سيرا، تمسكي بزمام الحياة، يا عزيزتي لا تجعلي الفن وحده محور وجودك. اطلبي لنفسك معانٍ شتى، اخلقي بواعث جديدة لهذا الوجود. لا تستسلمي للذبول!”،
حثّتها إيفا بصدق.
“وأين أجد دافعًا للتأقلم؟”،
سؤال تسلل من بين شفاه سيرا، وبذهول تام ردت إيفا بحنان وهي تمسك وجه الأخرى لتوجهه نحوها، همسًا يكاد يُسمع:
“لن أتركك تذوين وأنت غارقة في حزنك، يا عزيزتي.”
ابتسمت سيرا ابتسامة مكتومة الألم، وهي تتأمل لوحتها التي اكتست باللون الأزرق.
“سيرا، أراك تهملين حديقتك الصغيرة؛ لا تدعي الأزهار تذبل هكذا!”،
ردّت إيفا وهي تقف لتوجه الحديث إليها.
“أنا في الطريق.”،
جاء ردها بهمسة وهي تنهض رويدًا….
.
.
.
” أوريون، إلى أين تمضي باستمرار؟ دائمًا أراك تختفي من هنا”،
عابسة الوجه كانت نبرة آريا.
“اكتشفت زاوية جميلة هناك، أرغب في قضاء بعض الوقت بها”،
رد أوريون بتهدج.
“إذاً لا تنسَ اصطحابي معك المرة القادمة!”،
قالتها آريا بمرح. هو أومأ بابتسامة واعدة قبل أن يغادر باتجاه أقحوان اللافندر.
.
.
.
.
أحيانًا تكون الصدفة قدرًا، وفي أحيان أخرى، القدر يتحول صدفة. ولكن من وجهة نظري، اللقاءات جزء من سيناريو القدر، إذ يحشد المسرات والأحزان في غمار الحياة. الصدف قد تُعطي أوقاتًا محدودة، لكن القدر يخلد المعاني. واقتنعت أكثر بذلك بعد ما شاهدته.
….
كلماتها تتراقص بين أصابعها، وشعرها يلوح برقصة عشوائية. تحمل قنينة الري بكفيها النديَّتين، تنثر العطف على أزهاري المحببة.
تتجسد السمو في تلك اللحظة عبر نظراتها، وكأنها تتهادى في روضة أحلامها، والنجوم تتراصف كالألماس في تاج شعرها الرامي، تلف الليل بعناق من الأناقة والإبداع.
في عالمي، الوقت يتباطأ، والعبارات تسيل كأنها جدول من سمفونية الألوان. يُسقى بذاك الشعور أرومة النفس فيتفتق الدفء، وأبحر كجذل في بحيرة عيونها الآسرة.
لتستمر فصول رقصها، وتبقى قنينة الري تغمر بذور الأمل، وتتألق الأزهار بألوان يومٍ جديد، فهي شاعرية تلك الأثناء، وعلى عرش البلاغة تجلس ملكة.