المعجزة ٢٠٧ - 1
..رائحةُ دخانٍ قد اجتاحت المكان..
تقف تلك الفتاة الصغيرة ذات الشعر البرتقالي المموج،تضيق عينيها الزرقاوتين كلون بحرٍ ساحرٍ في وضح النهار،و هي تحاول ان تستوعب ما تشهده..!
مكانٌ قد أكلته الظلمات،تجتاحهُ النيران!
شدت قبضتها…خوفًا ربما..بل قلقًا..!
خطت بضع خطوات في ذلك المكان اللذي تأكله النيران،حتى لمحت عينيها،ذلك الطفل مجهول الهوية،مجهول الملامح،مجرد بشري مثلها
حاولت استنشاق بعض الهواء اللذي يكاد ان ينفذ بسبب دخان الحريق،حتى نطقت عتابًا و هي ترتعش خوفًا
“لماذا اشعلت تلك النار؟!”
لم تستطع تلك الفتاة رؤية نظراته بعد سؤالها،بل هي لم تشهد من وجهه ما يذكر،استطاعت فقط ان تلامس صوته،حين سمعته و هو يتمتم
“انتِ اشعلتِ تلك النار….”
تعجبت الفتاة من ذاتها،فهي لم تضرم النار في مكانٍ لا تنتمي اليه…
صرخت بتوتر و غضب قد رجّ نبرتها
“لماذا؟!”
بضع كلمات…فقط هي ما سمعت منه،و لآخر مرة
“لأننا…شخص واحد…”
فتحت تلك الشابة عينيها!!
اخذت تنهت بسرعةٍ و قلق..نهضت من فراشها حيث نظرت الى مرآتها الكبيرة في زاوية الغرفة،لتقول بنبرةٍ مسموعة
“كان ذلك كابوسًا مروّعًا”
دخل شبيهها الى الغرفة،اخيها التوأم،يرتدي مِأزرً و يحمل في يده اليمنى مقلاةً تفوح منها رائحة البيض و الزيت
فارقته نبرةً غاضبة و هو يعاتبها
“أ تعلمين كم مرةً ايقضتكِ يا ايفا!؟يجب ان نذهب الى المدرسة!هذه مرحلتنا الأخيرة دعيها تمرّ بسلام دون ان نطرد من اليوم الأول!!”
ضحكت ايفا بإستهزاء و هي ترتب شعرها المجعد البرتقالي الطويل
“أنت تشعرني بأنني سبب تأخيرك في اليوم الأول و في كل عام”
ليبتسم بإستهزاء و هو يجيبها
“لأنكِ كذلك!”
اكملت ترتيب شعرها التفتت نحوّ اخيها متسائلة
“هل استيقظ والدي؟”
اجابها
“ليس بعد”
لتركض الى الدرج بسرعة و تتمسك بمقبضه الطويل،لتنزلق عليه و بتهوّر،فتأخذ بجسدها قافزةً الى الأرض بلا خوف،صرخ شقيقها وليام بغضب
“ما هذه الحركات!!؟ستصيبينني بجلطةٍ بسبب افعالكِ الطفولية!”
اخذت تركض الى الخارج،وجهتها لم تكن المطبخ!
حافيةُ القدمين على الرخام الحديقة الساخن خارجًا،تقف امام صندوق البريد المهجور،ابدت ابتسامةً عريضة و هي تردد في نفسها
“بعد سنواتٍ طويلة من الحرمان،سأستطيع قراءة رسائلكِ دون ان يعلم ابي!”
انها ايفيلين،تركتها والدتها في عمرٍ صغير،و اصبحت تعيش مع ابيها و اخيها التوأم،كانت تتوق لرؤية امها او قراءة رسالةٍ منها،إلا ان والدها قد مزق كل رسالةٍ ارسلتها أمها،لأسباب يجهلها كلا الطفليين
فتحت الصندوق الساخن بسبب شمس الصيف الملتهبة،لتلتقط بين يديها،الرسالة!
ابتسمت بحماس و قررت فتحها دون اخيها!
لكن…بعد فتحها،اكتشفت ايفا ان ما في يديها ليس برسالةٍ حنونة من أمها…
بل هو طلب تجنيد أخيها وليام….
شدت بأناملها على الورقةِ بغضب،هي لم تكن سعيدة لأن اخيها سيحمي الوطن و سيصبح رمز فخرٍ لعائلتها،فهو قد تفوق عليها دراسيا أيضًا،إلا ان تلك المشاعر اللتي عصفت في قلبها،مشاعر القلق،الخوف،و الوحش الأكبر..الغيرة
جعلتها ترغب في أن تكون هي من يتم تجنيدها لا هو!
في عالمٍ…لا يعيش فيه إلا الأقوى،الفروقات الفردية تسود المجتمع
ايفيلين،تعيش في عالمٍ غريب…عالم اصبح يعتمد على قواعد عسكرية،تسند كل مدينة،تحميهم من وحوش غريبة خارج حواجز حديديةٍ و عالية احاطت كل بلاد في هذا العالم،و تأمن لهم السلام
بالرغم من الأمان اللذي تعيش فيه ايفيلين،إلا ان القاعدة لا تقدم ذلك الأمان بالمَجان،فهي في كل عام،تختار الشباب و الأطفال الأكثر كفاءة،و قوة،ليتم تجنيدهم و يحمو بلادهم،رجُلًا او إمرأة،لا يهم جنسك او عمرك،المهم ان تقف بعزم و تدعم القاعدة،و تأبى الخوف في مدينتك
لكن مع ذلك،فمن يتم أخذه للتجنيد،لم يعود لعائلته..
“من يدخل المدينة لا يخرجها،و من يخرج المدينة لا يدخلها،و كذلك القاعدة”
هذا هو شعار تلك الحكومة النزيهة
لذا و ببساطة
ايفيلين تريد نيل شرف خدمة بلادها،فهي تمتلك قوةً جسدية لا يستهان بها!
إذًا…لماذا تم اختيار أخيها..؟
هذا السؤال اللذي رددته في نفسها..
كفتاةٍ مراهقة و طائشة،قررت إتخاذ قرارٍ بسيط و سهل
الذهاب للقاعدة،و الطلب منهم بأن يأخذوها عوضًا عن اخيها!
و بذلك،تكون ايفا قد أمنت على اخيها من صعوبة تمارين التجنيد،و نالت التقدير من عائلتها و أمها
جعدت تلك الورقة و وضعتها في جيبها،فقررت ان تتغيب في يومها الأول للمدرسة،و تسلك طريقًا آخر..
طريقها الى القاعدة!
هربت قبل ان يلاحظ اخيها،و اخذت تركض في الشارع،تنهت تعبًا بسبب حرّ الصيف،ليمرّ بجانبها شاب على دراجته الهوائية،صرخ بعلوّ صوته
“ايفا!!!ماذا تفعلين؟!أ ستتغيبين اليوم؟!”
التفتت لتلمحه،انه صديقها المقرب منذ نعومة اظافرها،جاك!!
شاب ذو عينين خضراوتيين،و بشرة حليبية،شعرٌ كستنائي لامع و ناعم،و ملامح وجهِه بريئة
تمسكت ايفا بدراجته بعنف،ليضطر إلى التوقف!
صعدت خلفه و هي تنهت،صرخت بصخب
“تابع طريقك!”
تعجب جاك و اكمل طريقه،قال لها بنبرة قلق على حالها
“لا أضن انكِ تريدين الذهاب للمدرسة،ما الذي تفعلينه في هذا الصباح الباكر؟”
“خذني بالقرب من القاعدة،لدي شيء لأقوم به!”
اجابته بلا تردد
لكن،نظرات القلق بدت على محياه و هو يتسائل
“لماذا…القاعدة..؟هل سيجندوكِ!؟”
ضحكت هي بعلوّ صوتها،شدت على كتفه و هي تسهزأ
“لماذا قد يختارونَ فتاةً مثلي ليجندوها؟!”
ضحك هو بدوره حيث اجابها
“كنت قلقًا أن يتم اختياركِ”
انزلها بالقرب من القاعدة حيث سألها للمرة الأخيرة
“لم تدخلي الى هناك…صحيح؟”
اومأت نافيةً و هي تجيبه
“الحديقة هنا في غاية الجمال،جئت لاصنع تاج زهور الياسمين،لتقوم أنت بإهدائه لإيزابيل!!”
احمرّ وجهه خجلًا حيث تذمر
“توقفي عن مضايقتي!!”
اخذ يقود بعيدًا في دراجته،اطفت ايفا ابتسامةً هادئة و هي تتمتم
“من السهل أن يتم خداعك…شكرا على كل شيء…جاك..”
اخذت بهمةٍ تتقدم امام تلك البناية الضخمة،تحيط بها الحدائق الجميلة
كانت تشق طريقها بلا تردد،حتى اوقفها الحرس،قال لها احدهم
“أين تضنين نفسكِ ذاهبةً أيتهالشابة؟”
اجابته و قد عقدت حاجبيها
“اريد التحدث لرئيسكم!!”
لحظةُ صمت..نظر الحرس الى بعضهم،لينفجرو ضاحكين بإستهزاء!!
استفز تصرفهم ايفا!لتصرخ بعلو صوتها
“ما المضحك في هذا؟!دعوني ادخل!”
امسك احد الحرس بإيفا من قميصها المدرسي!حملها كأنها ريشة خفيفة!ليقوم برميها بعيدًا بلا مبالاة!!
صرخ في وجهها
“عودي الى مدرستكِ و لا تضعي انفكِ هذا في شؤون لا تخصك!”
ثارت تلك الشابة غضبًا،لتنهض و تنفض التراب عن ملابسها،لتركض بأسرع ما لديها في طريقه من جديد!!
لتؤتيه بلكمةٍ جعلت ذلك الرجل الضخم يسقط ارضًا!!
نظر الحرس البقية مذعورين،كأنهم قد شهدو وحشًا لا شابةٌ صغيرة و ضعيفة
التفتت لتبتسم بخبث كما لو كانت تستمتع بنصرها،لتتمتم
“من التالي؟!”
اخرج احد الحرس مسدسًا!!!
هو لم يكن مترددًا في قتلها!إلا ان صوتًا جاء من الخارج!
“انزل هذا المسدس”
جعله ينزل سلاحه بذعر،لتلتفت ايفا باحثةً عن صاحب الصوت الرقيق
انها إمرءة!!امرءةُ بشعر مجعد طويل و بني،عينيها فضيةٌ ساحرة،ببشرةٍ حليبية و نقية،ترتدي فستانها الأبيض كأميرةٍ ليست من هذا العالم
لمع محجري ايفا،مذهولةٌ لجمالها،بالرغم من جمالها،فتلك الإمرءة مقعدة على كرسي،قالت تلك المرءة
“انها ضيفتي،ستدفعني على كرسيّ الى الداخل”
ركضت ايفا مستغلةً الموقف لتمسك بذراع كرسيها و تبتسم لها،نظرت في وجه الحرس بعناد لتقول
“اجل!انا ضيفتها!”
دفعتها الى الداخل،لتبتسم المرءة و تقول
“ادهشتني قوتكِ…”
تسائلت ايفا بتعجب
“شكرا…لكن..لماذا ساعدتني؟”
اجابتها
“رأيتهم يرمونكِ بعيدًا،كنت سأتدخل حتى اسقطت ذلك الرجل بلكمةٍ واحدة،قوتكِ مرعبة كقوة رجلٍ بالغ!أضن بأنكِ تستحقين الدخول و بجدارة!”
احمر وجه ايفا بسبب اطرائها المبالغ به،لتبتسم و تجيب
“سيدتي!لست بتلك القوة حقًا”
التفتت نحوها لتسألها
“سمعتُ بأنكِ تريدين لقاء الرئيس؟…لماذا قد ترغبين بذلك؟”
“لأنني اريد ان اتجند عوضًا عن اخي…”
قالتها و هي تشد على ذراع الكرسي بنظراتٍ جادة و حازمة
ابتسمت و هي تقول بنبرتها الهادئة و الحنونة
“من الجميل ان أشهد اخوين متحابان مثلكما…”
انتهى حوارهما بتلك الجملة،حين وصلت الى بوابةٍ ضخمة،فتحها الحرس لها دون تردد،نظرت ايفا بتعجب لكل ذلك الاهتمام..
يا ترى..من تكون تلك المرءة؟
سؤال جال في خاطرها..
لتدخلان لتلك الغرفة المظلمة،لا يضيئها سوى مصباح قديم برتقالي،تلك الغرفة الكبيرة،توسطها مكتبٌ للرئيس،و رجلٌ يقف كمساعده،لم يلفت انتباه ايفا في تلك الغرفة سوى تلك اللوحة الكبيرة،لوحةٌ للرئيس و في احضانه طفلٌ هزيل و مريض..
ربما قد يكون إبنه او اخوه،فهو يشبهه الى حد كبير
حينها،نطق ذلك الرجل الهزيل و البليد
“ماذا تريدين؟”
برد و ظلام تلك الغرفة،جعل ايفا الواثقة من نفسها ترتعش خوفًا..
اجابته بنبرةٍ هادئة
“سيدي…اريد ان اقدم طلب…تجنيد..بدلًا عن اخي التوأم،انه ذكي..قد يكون اذكى مني لذا تم اختياره،لكنني امتلك القوة الجسدية اللتي يفتقر لها بالتأكيد،اعدك انني سأكون بجانب القاعدة و اخدم بلادي حتى مماتي”
نظر اليها نظرةً دنيوية…ليردف بنبرةٍ صارمة
“انا ارفض هذا الهراء”
Eva:
يتبع..