دعهم يعلمون - 1
أحيانًا أتساءل..
“هل الأشياء فعلًا بالطريقة التي نراها بها؟”
أيمكن أن تكذب علينا أعيننا؟
أم أن هذه الأشياء ذات مظاهر خادعة؟
أخُدِعنا قصرًا أم طواعية؟
ربما الأشياء ليست بالطريقة التي نراها بها…
ربما نحن من اختار تجاهل علامات التحذير ، ورؤيتها بتلك الطريقة…
غرفة مكتبٍ هادئة حيث لا يُسمع شيء سوى بعض الأصوات الخافتة لقلب الورق ، ووقع الضغط على مفاتيح لوحة الحاسوب ، تُلقي الشمس بآخر خيوط أشعتها المعلنة لرحيلها على الجالس في مكتبه غارقًا بالأوراق ، تارة يقرأ ، وتارة يكتب وتارة أخرى تتراقص أصابعه على لوحة الحاسوب يدون أمرًا ما ، استمر على هذه الحال لفترة… لا أعلم لِكَم من الوقت تحديدًا ، لكن التشنج في أسفل ظهره؛ يؤكد أنه قضى وقتًا طويلًا متصلبًا على كرسيه لإنهاء العمل. أخيرًا أقفل شاشة حاسوبه؛ دليلًا على انهائه ماكان يقوم به وراح يرتب الأوراق يشبكها ببعضها البعض بالمشابك. أنهى ترتيب مكتبه ، وأزال نظّاراته الطبية ثم أخذ قطعة القماش المخصصة لمسح زجاج النظارة ، وراح يمسحها يمرر عليها أنامله الرفيعة في مهل وتأني وكأن لديه كل الوقت في العالم لفعل ذلك ،وضع النظارة في علبتها وأعادها لمكانها ، ثم راح يمسح على وجهه بيديه الحليبيتين ذات العروق البارزة في حركة دائرية وكأنه يدلكه ، ثم خلل أصابعه في شعره ، واستقام أخيرًا من كرسي المكتب ، ووقف أمام النافذة الزجاجية التي تحتل الجدار؛ مما أبرز طوله الفارع وجسده الرياضي.
تأمل منظر الأراضي الممتدة التي تشرف على شارع بياتنكسيا العريق مع غروب الشمس ، كان شارعًا أثريًا مفعمًا بالحياة ، جمع بين التاريخ العتيق والتاريخ المعاصر. لقد كان يشبه صديقنا ذو العيون العسلية ، تاريخ عريق ومستقبل باهر ، هذا ما يمكن أن نختصر به وصفه. صوت فتح باب المكتب قاطع لحظات تأمله وصفائه ، قلب أعينه بملل واستدار؛ فهو يعلم من هذا الذي يدخل دون طرق الباب ، رغم أنه يخبره بفعل ذلك منذ أكثر من عشرين عامًا.
“”يا إلهي! أين اختفيت؟! لقد خفتُ أن تكون ميتًأ
قال الأسمر بطريقة مُمازحة ، فرَدَّ عليه يجاريه:
“لا تقلق ، لن أموت قريبًا يا جونار. أنوي العيش طويلًا”
ورسم ابتسامة بريئة على ثغره مع نهاية كلامه.
“خسارة يا باترِك. أردت أن أتناول عشائي في عزائك..”
هتف جونار بخيبة أمل
“كنتَ تعمل ، أليس كذلك؟”
أردف بتسائل ، يتفحص الأوراق على المكتب
“أجل”
أجاب باترِك الذي عاد لتأمل الشارع الحيوي أمامه
“لحظة..لحظة ، لا تقل لي أنك كنت تعيد العمل على المستندات كعادتك أيها المهووس؟”
نبسَ الآخر بتفاجئ واستنكار
وجّهَ باترِك عيناه العسليتان نحوه ، ويبرر بإزعاج:
“أجل…أنت تعرف الأمر أنه أشبه بوسواس قهري ، لا أتحمل ألا أتأكد من أن الأمور تسير على خيرِ ما يرام بنفسي ، لقد أحرزت تقدمًا حين جعلت أشخاصًا آخرين يقومون بالعمل عني وهذا كاف..”
زفر آخِر كلامه بضيق ، وقد نفخ وجنتيه كالأطفال. هز جونار رأسه بقلة حيلة…صديقه لن يتغير ، هو هكذا منذ الطفولة؛ يحب أن ينجز العمل بنفسه وبمثالية.. حتى أنه كان ينجز المشاريع المدرسية الجماعية لوحده ، ويكتفي بكتابة أسماء رفاقه فقط؛ لكي يكون العمل على هواه ويرضيه ، لقد أحرز تقدمًا بالفعل كما قال حين أوكل العمل لغيره ، واكتفى بالمراجعة والتدقيق.
“حسنًا أيها المهووس. على كلٍّ ، أتيت لأقول لك أني سأخرج لتناول العشاء في الخارج والإستمتاع بآخر يوم اجازة لي ، هل هناك شيء تريده مني؟”
نبس بنبرة اهتمام
“سلامتك”
رد عليه ذو العيون العسلية بابتسامة دافئة ، وهو ينظر في عينيه
أمال جونار جانب شفته باستنكار معترضا:
“سلامتي؟ حتى سلامتي تريدها أيها الطماع! إن كنت متحمسًا لترث سياراتي العتيقة فستنتظر طويلا”
نبس بها الآخر ساخرًا يدّعي الغضب ، ضرب باترِك جبينه بخيبة…غالبًا جونار يظن أنه سيسقط ميتًا إن لم يرمي بتعليق ساخر.
قهقه جونار بمرح معللا:
“إنني أمزح ، إلى اللقاء أخي الصغير… لا تنسى تناول عشائك”
ورسم ابتسامةً أخويةً آخِر كلامه
“ما بك ، أصبحت مهتمًا فجأة. هل تشعر باقتراب أجلِكَ؟”
كان هذا باترِك الذي حان دوره للسخرية
زمَّ جونار شفتيه ، وقلب أعينه الخضراء الناعسة باستنكار:
“أنا المخطئ لأني أهتم بك. لا تقلق ، سأعيش طويلًا ، فأنت لازلت تحتاج للعناية أيها الرضيع. إلى اللقاء أيها الصغير”
رمى كلامه باستفزاز ، وترك الغرفة
“تبًا لك ، أنا لست صغيرًا. الفرق بيننا ثلاث سنوات أيها العجوز”
نبس باترك بصراخ وبغضب مصطنع ، ثم زفر بعمق. كتَّف يديه ، وعاد للتأمل ، لقد تعوَّد على جونار وتصرفاته ، فهو معه منذ فتح عسليتيه على الدنيا
غابت الشمس نهائيًّا ، وحل الظلام ، فتوجه نحو باب المكتب قاصدًا الخروج ، سار في أروقة البيت ، وصل إلى البهو حيث وجد الرفاق قد عادوا من إجازتهم استعدادًا للعمل.
جوزفين في الركن يقرأ كتابًا كعادته ، ريستوس مهووس الطبخ مندمج فيما يفعل ، جيانغ ألدوس يُثرثران بصخب وعشوائية في مواضيع تخص الأطفال المدللين؛ اللذين لا ينتمي إليهم ولا يفهمهم ، كاباليرويناقش أحدهم بحدة كالعادة ، وكأنه يُجري مفاوضات لحل أزمة العلاقات بين السوفييت والغرب…
اتجه إلى جانب جوزفين الصامت ، فهو متعب ولا يستطيع مساعدة ريستوس ، أو المشاركة في الحوارات القائمة
جلس بجانبه ، وأخرج هاتفه ، ووجد أن كلاريسا قد قامت بمراسلته
(مرحبًا باترِك ، هل أنت بخير؟)
(أنا بخير ، ماذا عنكِ يا نجمة الأزياء الصاعدة؟)
رد عليها ، وذهب للتقليب في هاتفه
بعد مدة قصيرة أعادت مراسلته ، فانخرط في مراسلتها متناسيًا ما حوله
“من هذا الذي أنتَ سعيد بمراسلته بهذا القدر ، أيها النبيل الهارب؟”
صوت جوزفين قاطعه فرفع عينيه العسليتين نحوه ، فأعطاه ابتسامة ماكرة ، هذا المخادع يبدو مُنهمكًا في كُتُبِه ، لكن عيناه وأذناه تلعبان هنا وهناك ، تلتقطان الصور والأحاديث.
“التهي بكتابِكَ أيها القارئ المهووس”
صاح به باترِك يَقلِبُ أعينه بملل ، ومن ثم يعيدها للهاتف
“إنني مُلتهٍ بكتابي بالفعل ، لكن هذا لا يمنع أن ألحظ الإبتسامة البلهاء على شفيتك…”
أجاب جوزفين مع ابتسامته الماكرة ، وخضراوتيه المتفحصة
زفر باترِك بملل ، واطفأ شاشة هاتفه ، ثم اعتدل في جلسته مستديرًا إلى
جوزفين
“إنها كلاريسا التي أخبرتك عنها”
“كيف يسير الأمر؟ تذكر لا تحدّ على الخطة..”
نبس جوزفين بتحذير
نظر إليه باترِك بامتعاض يرد
“هذه إهانة! لا أسمح لك بالتفكير بي بهذه الطريقة. أنا شخص عملي ، وأجيد الفصل بين العمل وحياتي الخاصة”
ضحك جوزفين بخفة ، وقال:
“أعلم… لكن مع ذلك ، لا ضَير في تذكيرك”
كان باترِك بصدد أن يفتح ثغره للرد؛ حين قاطعه دخول ديفين الصاخب
“مرحبًا يا رفاق! أرى البيت معتمًا بدوني. لكن لا تقلقوا ، أنهيت إجازتي ، وسأبقى هنا طويلًا لأُنير بيتكم الخاوي هذا”
نبس ديفين بتبجح كالمعتاد ، فسارع كوزموس ، الواقف عند الدَرج ، والذي عاد من اليونان هذا اليوم بالرد عليه
“يا إلاهي! كيف لكتلة بشاعة مثلك أن تنير هذا البيت؟! ألا ترى الغمامة التي تحل على كل مكان تذهب إليه؟ لازلتُ أذكر أول مرة جئت فيها لبيتكم المظلم ، وكيف كان كئيبًا وباردًا. أنا من أنقذكم ، وأضفى على حياتكم المتعة ، أيها المساكين ، وأنت أولهم…”
نبس بها بإسلوبه المسرحي والبطيء الذي يضفي عليه هالة من الجاذبية ، “تشه” ساخرة خرجت من ثغر ديفين الذي سار نحوه مستعدًا للشجار ، وقَبِلَ كوزموس دعوته ، فراح يقترب منه هو الآخر.
كُنا على وشك أن نشهد معركة كلامية ملحمية؛ لولا مقاطعة ريستوس
“الطعام جاهز ، كوزموس وديفين ، ساعداني بتجهيز المائدة”
نبس بها بنبرته الآمرة البعيدة عن المزاح كالمعتاد؛ فاستجاب له الشابان ، وراحا يتقدمان لإنجاز عملهما بملل.
“لحظة! لما نحن دائمًا من يجهز المائدة ويغسل الصحون؟ كما أنني وصلت توا”
نبس ديفين باستفهام وسخط.
“أجل! لمَ نحن من ينجز الأعمال المملة دائمًا؟”
رد عليه كوزموس بحيرة مثله
حَوَّلا نظراتهما إلى رفاقهما بانتظار جواب
“ربما لأنكما لا تجيدان القيام بغير هذه الأعمال مثلًا؟”
كان هذا لوفلايس ، الذي دخل البيت لتوه برفقة ريكاردو
كانا ثنائيًا لا يفترق… منذ تعرفا على بعضهما في المجموعة؛ وهما يلازمان بعضهما. كانا متشابهان بدرجة كبيرة؛ حتى في الشكل ، والملامح ، والذوق ، وكان الرفاق يُسمِّيانهما “الثنائي غريب الأطوار”
“أجل ، أنتما فاشلان في كل شيء؛ عدا تجهيز المائدة ، وغسل الأطباق ، أيها الشابان”
قالها ريكاردو بتأكيد ، فغر كوزموس فاهه بدراماتيكية ، يرد
” ويحي!!! كيف لكما أنتما غريبي الأطوار أن تقولا عن حضرتي هكذا!!! أيها الغيوران الحسودان ، كان ينبغي أن يكون مكاني في خشبة المسرح ، وليس في المطبخ أغسل صحون أشخاص من أمثالكما”
في حادثة غريبة ، وافقه ديفين ، ونبس متابعًا
“معه حق ، أنَّا لكم أن تقارنوا أنفسكم بنا وبمهاراتنا المتعددة؟؟ أنا ديفين ، أفضل خبير في مجالي… كيف انتهى بي الأمر أغسل الصحون؟”
” ربما لأنك تعيش في هذا البيت ، تأكل من طعامه ، وتنام على فراشه ، وليس لدينا خدم؟”
نبس جوزفين بإبتسامته المستفزة ، ونبرته العميقة الهادئة. كان جوابه مُخرِسًا؛ فنظر له الثنائي بسخط ، وتابعا تحضير المائدة بصمت
“تعالوا يا شباب! المائدة جاهزة”
نبس ريستوس بصراخ
اتخذ كلٌّ مقعده ، وجلسوا يتناولون الطعام ، ويتبادلون الأحاديث.
“هاي باترِك ، أين ذلك الصيني الآخر الذي يفترض أن يكون شريك جيانغ بالغرفة؟”
استفهم لوفلايس
“أولًا ، ليس كل شخصٍ لديه عيونٌ صغيرةٌ مسحوبة ، صيني. ثانيًا ، هو ياباني. وأخيرًا ، اسمه كيوكا ، وليس الصيني الآخر”
رد جيانغ بقِلة صبر؛ فهو يعاني مع الرفاق حقًا
هل التفريق بين الصينيين ، اليابانيين ، وغيرهم صعب إلى هذا الحد؟ إنهم يقولون عن أي شخص عيونه مسحوبة صيني وهذا يدفعه للجنون حقا
“”واو!! هل أخبرك باسمه؟ حسبته أبكم
نبس ألدوس بتفاجئ ، وهو يحشوا الأرز في فمه
ضرب جيانغ رأسه بنفاذ صبر ، يجيب:
“طبعًا ليس أبكم ، لكنه لن يطيق شخصًا ثرثارًا مثلك غالبًا”
“هو الخاسر ، فَوَّتَ فرصة الحديث مع أسطورة لن يكرره الزمن ، مثلي”
وهز ألدوس كتفيه بتعالٍ آخِر كلامه.
كان كوزموس و ديفين على وشك أن يهجما على ألدوس ؛ عندها نطق باترِك
“هو يقضي إجازته مع أخته في اليابان ، وسيأتي هنا لتأدية عمله بحلول الغد ، لكنه ينوي الاستقرار رفقة أخته في مكان قريب”
“وأين جونار يا باترِك؟”
سأل ريكاردو باهتمام
“خرج للاستمتاع بآخر يوم إجازة لوحده ، ياله من خائن”
نبس ألدوس بانزعاج لم يبدل أدنى مجهود لإخفائه
“دقيقة من فضلكم ، بالعودة لموضوع ذلك الصيني ، هذا يعني أن جيانغ سيحظى بغرفة لوحده. لما لست أنا من يفعل؟”
نبس كوزموس بانزعاج ، وضرب جيانغ رأسه بالطاولة. عليه الاستسلام وحسب ، يبدو أن رفاقه ثلة من الصم فارغي العقول
“”لأنك لست محظوظا بما فيه الكفاية…
رد عليه باترِك هازًا كتفَيه بلا مبالاة آخِر كلامه
حدجه كوزموس بنظرة قاتلة ، فيما نبس ديفين باستفهام
“لحظة ، لحظة.. مالذي قصدته بالمنحوس؟”
ابتسم له باترك ببراءة ، وجدها الآخر نذالة
“”مسكين أنا…شاب مثل الورد جعلته الحياة يسكن مع أمثالكم
تنهد كوزموس بدرامية ، وزفر آخر حديثه بضيق
“تقصد أمثالنا المساكين الذين اضطرتهم الحياة لمعاشرة شخص قصير النظر ، وفارغ العقل مثلك…”
نبس ألدوس باشمئزاز
“اصمت أيها النبيل المفلس..أنا فارغ العقل ، لكن جمالي يشفع لي ، أما أنت ، فتعازيَّ لأمك ، كيف لمْ تمت حزنًا بعد إنجاب ولد مثلك؟”
قالها كوزموس يقلب عينيه بتكبر
“لمرة واحدة ، دعونا نجلس دون سماع شجاراتكم التافهة”
تحدث جوزفين بهدوئه المعهود
نظر له الشبان بسخط ، فيما قال ألدوس بسخرية
“”خف علينا يا حفيد نابوليون بونابارت
انتهى العشاء ، ورتب الشباب المطبخ ، ثم انصرف كلٌّ إلى عمله. الثنائي غريب الأطوار خرجا مرة أخرى ، فيما صعد جيانغ لغرفته ، وجلس جوزفين يشاهد التلفاز مع ريستوس ، أما كوزموس وألدوس انصرفا للعب البيلياردو ، فيما جلس ديفين وحيدًا في شُرفة البيت يُلمع أدواته. جلس باترِك معه في الشُرفة مقابلًا له ، تأمله وهو يقوم بعمله بتركيز. لقد مر وقت طويل بالفعل على لقائهما ، لكن ديفين لمْ يتغير كثيرًا ، مازال الشاب المغامر المحب للمنافسة ذو العيون الازوردية ذات الجفن الواسع ، والشعر الأشقر الطويل الملامس لرقبته ، أنفه المعظم ، نفخة خدوده ، فكه الحاد ، وشفاهه الممتلئة ، طوله الفارع ، وجسده القوي. قد تحسب هذا سردًا مملًا مطولًا لوصفٍ خارجي لعارض أزياء ، لكن بالنسبة لباترِك ؛ هي ردة فعل طبيعية يمارسها على أي شخص يجلس في مكانٍ يمكنه رؤيته منه. كان شكل ديفين يصرخ بأصوله الروسية الأوكرانية
“”ديفين ، أراك تستعد للعودة للعمل
تكلم باترِك يجذب انتباهه
رفع المعني لازورديتيه نحوه مُهمهِمًا فاستأنف باترك حديثه قائلا
“في السابق سألتك ، لماذا تحب الأسلحة؟ الآن أود سؤالك ، لما أحببت المسدسات والقاذفات الصاروخية أكثر من أي شيء آخر؟ رغم أنها لم تكن بشيء في متناول يدك خلال طفولتك. فكرتُ في أنك ستفضل البنادق كونك متعودًا عليها”
وضع ديفين المسدس بيده في الحقيبة ، يرد
“ولا أنا ، لم أتوقع ذلك… ربما لأن المسدسات عملية أكثر بالنسبة لي ، لكن في الواقع أحب الصوت الذي تصدره القاذفات الصاروخية عند انفجارها ، وفعاليتها في الهجوم…”
أومأ له باترِك بتفهم
“كيف وجدت العمل مع التيتانوبوا؟ هل كان في مستوى تطلعاتك؟ أوجدت غايتك؟”
أضاف بنظرة اهتمام في عينيه.
“فعلت ، كان العمل مخيف في بادئ الأمر ، وفكرت في أني سأدخل السجن في أول صفقة أجريها دون وجودك ، أو أني سأطرد من الحياة؛ لشرائي شحنة أسلحة رديئة ، لكن لم يحدث أي من ذلك…الآن بعد عملي لأكثر من خمس سنوات في المجال ، فأنا أعتقد أنني كنتُ طفلًا مثيرًا للشفقة حينها….”
نبس ديفين ، وقد بدا غارقًا في التفكير بالماضي
“لقد كنتَ بريئًا ونقيًا حينها ، كنتَ ريفيًا نموذجيًا ، ولكن سابقًا لأوانك”
قال باترِك بابتسامة يسترجع صورة ديفين القديمة ، لمعة المغامرة في عينيه ، اصراره وتفاؤله حيال حلمه ، إنه واحد من الأشخاص الإستثنائيين بحق الذين قابلهم خلال حياته واللذين يقدرهم بشدة رغم صغر سنه
“ديفين ، عيناك لازالتا لامعتين بنفس الطريقة التي كانت تلمع بها في أول مرة رأيتكَ بها. أرجو أن تحافظ على لمعانهما للأبد”
توسعت ابتسامته ، وبادله ديفين بابتسامة مماثلة
“حاضر أخي. أعدك أني سأفعل”
“بدأت نسمات الشتاء الباردة بالمجيء ، أظن أن الشتاء سيكون أبرد من المعتاد هذه المرة”
قالها باترِك ، وهو يشدُّ على حضن نفسه لتدفئتها
“أجل ، يبدو الأمر كذلك. على كلٍ ، لقد تأخر الوقتُ بالفعل أخي ، علينا أن ندخل ، فلدينا عمل غدًا. لا أصدق أن إجازتنا مرَّت ، كان ذلك أسرع مما تخيلت…”
رد ديفين بهدوء ودفئ
“أجل ، هكذا الوضع مع الجميع. هيا بنا إلى الفراش…”
استقام باترِك آخِر حديثه ، فيما حَمَلَ ديفين حقيبته ، وتوجه كلٌ لغرفته
أغلق الباب خلفه ، ومد يده لمفتاح الإنارة يديره. غزى نور المصباح المكتب الهادئ الذي يمضي معظم وقته فيه ، لمْ يكن هناك كثير من الأحداث المميزة في يومه
كشخص بلا أصل ولا فصل ، كان من الطبيعي أن يحتل العمل القسم الأكبر من حياته. لمْ توجد مناسبات عائلية ليحضرها ، لمْ يملك عائلة ليزورها في العطل أو يحتفل معها بالأعياد؛ حتى وقت قريب منذ حوالي عشر سنين ، في ذلك اليوم تغير كل شيئ…عندما قابل منقذه.. الآن لديه جماعة يتسامر معهم ، ويعتمد عليهم للقيام بالأعمال ، ولديه منقذه أيضًا ليساعده في حل مشكلاته المستعصية. حياته ستكون مستقرة وهادئة إلى وقت قريب…
جلس على المكتب ، وأخرج حاسوبه. عليه تنظيم جدول أعمال الجماعة ، وإرسال جدول كل منهم إليه مع تغيير التشفير؛ للتأكد من تضييع أي أحد اكتشف شيفرتهم. كان منهمكًا في العمل على الحاسوب حين أضاءت شاشة هاتفه؛ دليلًا على أن أحدهم قام مراسلته. صوَّب نظره لهاتفه ، وأشرق وجهه بابتسامةٍ ساحرة عندما رأى اسم المرسل ، إنه مدين له حقًا ، لقد سهر على حراسة الجماعة ، وأوكارها ، وشحناتها ، والتصدي للهجمات الإلكترونية التي تتعرض لها أنظمتهم طوال فترة الإجازة ، صحيح أن باترك عين الكثير من أفراد الجماعة للقيام بذلك لكن كون أغلب المقربين له من التيتانوبوا في إجازة فهو حقا لم يرتح لفكرة ترك العمل دون رقابة لكن ليس مع وجود صديقه العزيز
(أظن أن عملي انتهى؟)
(لقد انتهى بالفعل. شكرًا جزيلًا لك ، إيف)
رد الأخر ب إيموجي مبتسم
(هل ستكون متفرغًا غدًا؟)
(أجل ، هل من خدمة أخرى أقدمها لك؟)
(أريد دعوتك إلى الغداء. لنتقابل في المطعم المعتاد)
(لحظة يا رفيق ، لَمْ أقل أني أقبل عرضك)
(لكنكَ قلت أنك متفرغ ، وهذا كافي. لا مجال للرفض ، إيف. أراكَ غدًا)(أراكَ غدًا)
وضع إعجابًا على رسالة المدعو إيف ، وعاد للعمل على حاسوبه ، ضحك في قَرارةِ نفسه ، مَن كان يظن أنهما سيتحولان للعمل معًا؟ لقد ظن أن صداقتهما ستنتهي بمجرد أن يستقل في بيت لوحده ، لكنه وجد هذه الصلة تتوطد رغم نُدرة لقائهما.
فكر في أنه يحبه أكثر من جونار ، حتى رغم أن فترة صداقتهم قصيرة وغريبة؛ لكنه سارع بنفض هذه الفكرة ، فجونار معه منذ فتح عينيه ، من اللؤم أن يفضل إيفان عليه ، لكن هذا لا يغير أن إيف حظي بمكانة خاصة عنده بطريقة ما. كان شخصًا مليئًا بالأسرار ، وكان ذلك واضح في عينيه الرماديتين الغزاليتين. تنهد بعمق يصفي ذهنه؛ ليركز على عمله ، وعادت أصابعه للتراقص على لوحة المفاتيح.
دقت الساعة مشيرة إلى منتصف الليل. طقطق الجالس على الكرسي عظامه بتعبٍ ، وقام بحفظ عمله ، ثم أقفل حاسوبه ، واستقام نحو النافذة ، كانت ملامحه متشنجة قليلًا ، ونبضه غير منتظم ، هو لا يحرز تقدمًا كبيرًا ، وهذا مزعج ، عليه الاستعجال؛ فلم يتبقَ أمامه سوى أقل من سنتين لليوم الموعود… لفرصة العمر… بتضييعها؛ هو يضيع تعب خمسة عشرة عامًا…سبع سنوات من التدريب والتخطيط…عليه إما أن ينجح ، أو ينجح ، لا خيار وسط ، ولا قبول لأي تسوية
خرج من المكتب متوجهًا لغرفة نومه ، بمجرد وصوله؛ توجه لأخذ حمام ساخن. أنهى حمامه ، وخرج بمنامته ، وفي يده منشفة يجفف بها شعره. وقف أمام المرآة في غرفته ، ونظر لنفسه ، لعينيه ، للشيئ العميق الذي يقبع في داخله ويريد التحرر ، دمه ، عرقه و دموعها كلها تفنى لأجل أن يحقق حلمه. اتجه نحو التسريحة الخاصة به ، كانت غير مكتظة تقريبًا ، سوى ببعض العطور ، وعلبة إكسسوارات مليئة بالخواتم. أخرج مجفف الشعر من الدرج ، وراح يجفف شعره ، عليه أن يحرص على صحته وألا يمرض في أول يوم من أيام العمل بعد اجازة دامت لأسبوعين. أنهى عمله ، وتوجه للخزانة ذات الأرفف في جانب الغرفة البعيد عن الباب ، فتحها ، وظهرت محتوياتها جلية.. مسدسات يدوية الصنع ، مسدسات برقم تتبع وبلا رقم ، خناجر ، والكثير المشابه.. أخرج مسدسه البلاتيني الذي توسط المجموعة ، وأخذ خرقة ، وراح يمسحه ببطئ يلمعه ، عبأ مخزن الرصاص ، وألقى عليه نظرة أخيرة ، ثم أعاده لمكانه ، وانسحب إلى سريره ، تسطح عليه بتعب ، وأغمض عينيه مستسلمًا للنوم.