نَجْمِ سُهَيْل - 1
– يومُ الأحد ٤ سبتمبر ٢٠١٦ –
– الساعةُ السابعةُ صباحاً –
مع إشراقة صباح يومِ الأحد ، تضجُّ الشوارعُ بالبشرِ المُتَجَهمِين نُعساء يطغو عليهم في هذا اليومِ البائس غَمٌّ وشُؤْم. فـقدومُ يومِ الأحد يعني إنتهاء الإجازة وإلاستيقاظِ بوقتٍ مبكرٍ من الصباحِ للإِنْدِثارِ للعَمَلِ والإنصاتِ بصمتٍ لـ تأنيب مديرك على أشياء تافهةٍ يستطاعُ عليها. لا تستحقُ إصدارَ ضجَّةٍ في الصباحِ المُبَكِّر يُعتِقُها عندَ أسَى مزاجهِ من ذهابهِ للعمل في أَوَّل النَهَار ، فهذهِ “الطائِفَة” من الأَنَام يفضلونَ المقولة المُتداولة مُنذ أزمِنةٍ طِوَال ( إن لم تستطع إسعاد نفسك عكِّر مزاج الأخرين ).
” كالمعتاد تَعجُّ الصحُف بهَرطَقاتِ بطلهم المُختار خالد، ليتهم يتجاوَزُونَ السِّتار ليعلموا ما خُبِّئَ بحرصٍ من الخَبايَا القذرةِ خلفه “.
قالها يزن بوجهٍ متجهم ممسكاً بكأسٍ من الشاي الإنجليزي بينما ينظرُ للشارعِ بقلق وكأنهُ يترقبُ مصيرًا مجهولًا ينتظرهُ ليخطفهُ إلى أبعد مكانٍ يتصورهُ العقل البشري الطبيعي ، التفتَ بيَدِهِ لِيضعَ كأسَ الشايِ على الطاولةِ الواقعةِ بجانبه ثم نهضَ بعيدًا عن الشرفة ، رُغمَ أنها مساحتهُ المفضلةِ للعزلةِ بعيدًا عن البشر ؛ فَهوَ يجلسُ هناكَ على كرسيِّ فاخرٍ مريحِ المقعد جانباهُ مرصعانِ بالألماس والجواهر السَّاميَة، بإطلالةٍ زاهِيَةٍ تَدُلُّ على بِذَخِ المكانِ الجالسِ فيه رِفقةَ نبتةٍ صغيرةٍ رهِيفةٍ يهتمُّ بها بشكلٍ يُلحَظ .
انتَبَهَ يزن لورقةٍ صغيرةٍ مُلقاةٌ أمامَ بابِ غرفتهِ مَوضوعَةٌ بعنايةٍ في ظرفٍ أسود مطليةٌ جوانبهُ باللون الذهبي البرَّاق، دونَ أن يكونَ عليها إسمَ المُرسِل أو إسمَ المُرسَل إليه.
“عَمَلٌ آخرٌ بهذا الصباحِ الباكِر؟ ألن أجِدَ الراحةَ يَومَ الأحَدِ أيضًا؟! ” قالها يزن حانِقًا بنبرةٍ مُشمَئزَّة.
توجه للغرفةِ المجاورة وارتدى رداءًا يكسوهُ السواد ، يغطي رقبتهُ وذراعاهُ بالكامل رغمَ حرارةِ الجوِّ بالخارج ، فَهُمُ في منتصفِ فصلِ الصيفِ أكيد! ، أحَالَ بيدِهِ أسفلَ أريكةٍ مُتواجِدَةٍ بزاويةِ غرفةٍ مظلمة ..فإذ بهِ يُلامِسُ فجوةً صغيرةً أدخلَ يدهُ إليها فأخرج منها حقيبةً تكسوها السواد القامِت و حقيبةٌ طويلةٌ اخرى تحملُ بداخلها أدواتٌ تساعدهُ لتَكوين جريمةٍ مِثالية!.
خرج رجلٌ حادِّ الملامِح بيدهِ سيجارةٌ يدخنُ بها بشِمالِه ، يبدو شعرهُ أشعثًا غيرَ مُصفف يرتدي نظاراتهِ السميكة، مُمسِكًا بيدهِ يَدَ فتاةٍ صغيرةٍ شقراءَ تبدو بالخامسةِ من عُمُرِها تُمسِك بحلوى زَهرِيَّةَ اللونِ من المقهَى المجاورِ لشقةِ يزن، ليلفتَ نظرهُ عدمَ وجودِ يزن في مَجلِسِهِ المُعتاد على الشرفة كَكُلِّ يومِ أحد .
قال بإبتسامةٍ مُرهَقَه “يا إلهي، يبدو بأنني على موعدٍ حافِلٍ مع عُبوسِهِ الثقيلِ الليلة! “.
قالت الفتاةُ المُتَشَبِثةُ بيد الرَّجُل “ماذا؟ ألسنا ذاهبين لزيارةِ عمي الليلةَ يا أبي؟”
رد أبُ الفتاةِ الصغيرة “يمكننا تأجيل زيارةِ عمِّك لوقتٍ آخر، عليَّ لقاءُ يزن اليوم”.
ردَّت الصغيرةُ بإبتسامةٍ هادئة “مفهوم”
- الساعة الرابعة عصرًا بذاتِ اليوم –
بينَ بَلبَلةِ صافراتِ الإنذارْ و ازدحامِ رجالِ الشرطةِ و بعض المارة محيطينَ بالمكانِ محاولينَ استراقَ السمعِ عسى يسمعون شيئاً عن ما يَجرِي بالداخِل .
يدنو يزن بمخرجٍ أعدهُ هو بنفسهِ بالليلةِ السابقةِ لهذهْ يقوده لـِ فتحاتِ المجاري حاملاً بداخلِ حقيبتهِ السوداء الفضّةَ والمجوهراتِ الثمينة المَسروقةَ عِنيَةً.
خرجَ من مخرجِهِ الضيق ليجدَ نفسهُ أمامَ باب بنيٌّ كبير ، يسودهُ جوٌّ من الأفلامِ الكلاسيكية القديمة ، بابٌ مهترئٌ ذو وجهٍ عجوزٍ أهلكهُ شَيْبُ الزمان .
يفتحُ البابَ فجأةً ليصدرَ صوتٌ يشابهُ فحيح الأفعى ، فـ يظهر منه ذاكَ الشابُّ وسيمُ الملامح حادُّ الحاجبَينِ ذو أعيُنٍ عسليةٍ واضحة يرتدي بدلةً رسميةً وكأنه بزفافٍ ما.. متأنق جدًاا . تعلو شفتيهِ إبتسامةٌ عريضة تسودها ثقةٌ عالية ، يقولها وهو مُلقٍ بثقلهِ على جانبِ الباب “بالطبع كما توقعت …. هذهِ أساليبُ الأشرار عديمي الذوق يتسللون من مخارجِ الفئران كأنهم يعلمون بـِ مكانتهم”
. تلت قوله ضحكةٌ عاليةٌ مليئةٌ بالثقةْ
” هذهِ خططكَ أيها الثعلبُ الماكر ”
نَطَقها يزن بهمسٍ وهو ينظرُ لـِ خالد الواقفُ بفخرٍ وكأنهُ على وشكِ أن يُكرم.. تعلو وجههُ نظرةٌ متعشقةٌ للقتل ، على حينِ غفلة من يزن…. أخرجَ خالدٌ مسدسًا أطلقهُ على الحقيبة ، لتنسلَّ منها المجوهراتُ وتتدحرجُ بالمكان حولَ أقدامِ يزن ، كانت تلكَ إشارةٌ لإنسحابِ يزن من المكان…
في تلكَ اللحظة أخرجَ يزن بيدٍ نازِفه من جيبهِ كرةٌ صغيرةٌ رماها على الارضِ وهوَ يبتسمُ ابتسامتهُ الصفراء المعتادة ، في نفس الحين قال خالد وهو يضعُ يده على فمهِ وأنفه موجهًا نظرهُ لرجالِ الأمنِ خلفه
“إحذروا ذاكَ الاسودُ الخسيس رمى شيئاً ما بإتجاهنا قد يكونُ سُمًّا!!”
خرجَ منَ الكرةِ دخانٌ ما يشبهُ الضباب أعاقَ نظر خالد ورجالِ الأمن مِن محاولةِ الإمساكِ بيزن أو كما يلقبونهُ “الأسود” تسللَ يزنٌ هاربًا من المكانِ بنجاح تاركًا إياه المجوهرات والحقيبةُ هناك ليجمعوا رجالُ الأمن المجوهرات والفضة الثمينةِ المتناثرةُ فالأرض و يعيدوها لصاحبِ المحل .
- الساعةُ الخامسةُ والخمسة وأربعين دقيقة بذاتِ اليوم –
حالما خرجوا استُقبل خالدٌ من قِبل الصحفيين وفريقُ التلفاز الذي عيَّنهُ هو بحدِّ ذاتهِ لينالَ كلُّ الشكر لإعادتهُ لتلكَ المجوهرات رغم كونِ تلكَ مخططاتهِ مِن الألفِ إلى الياء وراءَ الكواليس، كما يزعمُ يزن. وقت حينِ مغادرةِ يزن كان قد أعد مكانً مسبقًا ليبدلَ فيهِ ثيابهُ من ذاكَ الهندامِ حالكِ السواد لزيِّهِ المعتاد حتى لا يثيرَ الريبةَ حينَ يمشي في الشارعِ بين المارة ، دخلَ يزن لغرفةٍ صغيرة بالكادِ تتسعُ لثلاثةِ أشخاص واخرجَ من جيبهِ كرةٌ صغيرةٌ منتفخة وسَطَها بقعةٌ خضراءُ اللون باهتَة ، أخرجَ يدهُ من جيبهِ وكانت تنزِفُ دمًا حينها
قال ببرود “هذا مريع لم ألحظها حتى هربتُ من هناك يبدو أنه تعمدَ إصابة يدي بجانبِ الحقيبة …ذاك المُخادِع!”
ضغطَ يزن على تلكَ البقعةُ الخضراءُ الموجودةُ بالكرة حتى تنفجرَ وتتشكلُ على هيئةِ قميصٍ شتويٌّ أحمرُ اللون و بنطالٌ لونُه أزرقٌ داكن ، فخلعَ ما كان يرتديهِ من ثيابٍ حالِكةِ السواد و إرتدى ما خرجَ مِن تلكَ الكرةُ الصغيرة.
في طريقِ عودةِ يَزَن إلى مَسكَنهِ بعد تِلكَ الفَعلة، إصطدَمَ عن طريقِ الخطأ برجلِ شرطةٍ مُتهاوِن الذي غَضِب وصَرَخ بيزن بقوله
“ماهذا الا ترى أمامك يا شقي !!! كيف تتجرأ وتصطدمُ برجلِ شرطةٍ مثلي!…ألا تخشى أن أزُجَّ بكَ بزنزانةٍ حالكةُ الظلمة!”
يزن بسخرية” أنتَ من كانَ مُنشَغِلًا بهاتفهِ متجاهلًا مرورِ شخصٍ ما من أمامك، كلُّ الخطأ يقعُ عليك… وأيضاً ليسَ لديكَ الحقُ بأن تزُجَّ بي بزنزانةٍ لِأنك إصطدمتَ بي بسببِ خراقتك!”
قال رجلُ الشرطةِ بعروقٍ أصبحت ظاهرةً على وجهه من ثورِ الغضب ” أتجرُؤ على مُرادَدَتي؟؟ ستنال جائزتكَ أيُّها الوقح!!!”
لوحَ الرجلُ بقبضتهِ عاليًا مستهدفًا وجه يزن ، وما إن إقتربت قبضتهُ من وجهِهِ حتى وجدَ نفسهُ محلِقًا بالهواء وهو يشعرُ بألمٍ فظيعٍ في أنحاءِ وجهه.
حين سقط أدرك بإن يزن في ثوانٍ معدودة و برشاقةٍ عالية إستطاعَ تفادي قبضتهُ الغاضبة و توجيهِ لكمةٍ لوجهه أُصيب بسببها بنزيفٍ في الأنف وبعضُ الكدمات وهذا كله جرّاءَ لَكمةٍ واحدة كادت أن تحطم له أنفه .
رفع رجل الشرطة وجهه متجاهِلاً الألم يبحث عن ذاك السَّاخر الذي سبب له هذا فإذ به غادر بينما كان الرجلُ يسقط دون أن يلحظ أمر مغادرته، ضرب حينها رجلُ الشرطةِ الأرضَ بقوةٍ مفرغًا غضبهُ بها وهو يَلعن
“تبًا لذلك المُخادِع! أقسم لو رأيتهُ مرةً أخرى!”
مِن مكانٍ آخر
“فَلتَحلُم بلمسي أيُّها البدين” سَخَرَ يزن من رَجُل الشرطة مع إبتسامةٍ ماكِرةٍ كمُكرِ الثعلب.
هِتان “مشهدٌ جديد! عمي تشاجر مع رجل شرطة! أليسَ هذا خطيرًا يا والدي؟”
يامِن ” بالطبع! لذلك يزن سيقعُ بالكثيرِ من المشاكل مُستقبلًا ، إياكِ أن تفعلي مثلَهُ هِتان كوني فتاةً صالحة!”
يزن بعبوس وهو ينظر للجهةِ الأخرى من مكان وقوفِهما “تبًا لكما! ماذا تفعلانِ هنا؟ تظاهرا انكما لم ترايا شيئا الآن!! ”
يامن “أرأيتي شيءً هِتان؟”
هِتان وهي تُومِئُ برأسها إيجابًا “نعم! لقد رأيتُ قبل قليل عمي يزن يَلكمُ رجلَ شرطةٍ ويسقطه أرضًَا ثم يفرُّ هاربًا”
أردف يامن ببرود “أ سمعتَ يزن؟ الأطفال لا يستطيعون الكذب”
يزن وهو يَسلُكُ طريقهُ للمقهى يمشي خلفهُ تِباعًا يامِنٌ وهِتان ” فلتَمُت فحسب يامِن!! “.
– الساعة السابعة مساءًا بذات اليوم-
– في المقهى –
يامن “ما هيَ طلباتِكُما؟ ”
أردفت هِتان بإبتسامةٍ مُتحمسة ” شوكولاتة ساخِنة مِن فضلك! ”
يامن ” أ تهذين؟ شوكولاتة ساخِنة في هذا الصَيفِ الحَار؟!”
هِتان بنفادِ صبر ” إنها ما أستَسِيغُهُ هَذهِ الأيام ”
يامن معَ إبتسامةٍ صغيرة “حسنا لا بأس عليك .. ماذا عنكَ يزن؟”
رد يزن مُتذَمِرََا “أريد العودةَ إلى شقَّتي! ”
دفَعَ يامن مَقعَدهُ بِقوّة ثمَّ توجَّهَ إلى العامِال الواقفِ خلفَ جِهازِ الحساب بخطواتٍ ثقيلة مع إبتسامةٍ مُرغَمَه وأردف ” هل يُمكِنني الحصول على مشروب شوكلاتة ساخِنة وكُوبَين من القهوةِ السوداءِ المُثلَّجة؟ ”
رد عليه ” بالتأكيد هاكَ ادفع الحِساب”
“شكرًا جزيلًا لك ” قالها يامن ثم عادَ إلى الطاولةِ حيثُ يجلس يزن و هِتان.
يزن ” لن أشرَبهُ”
رد يامن بسرعةٍ وكأنهُ توقعَ ما سيقولهُ يزن “على حسابي هذهِ المرة”
تَنَهَّدَ يزن وأدارَ وجهَهُ للجهةِ الأخرى.
رفع يامن معصمهُ ليلقي نظرةً على الساعة ثم ذَكَرَ وهو ينهضُ على استعجال “يا إلهي لقد تأخرت سيفُوتَني القطار” وجَّهَ نظرهُ ليزن وأكمَل ” أعتذرُ لكَ يزن إهتمَّ بهِتان ريثما أعود، لن أتاخر أمهلني بعضَ الوقت”.
غادر يامن ركضًا ويبدو على وجهِهِ ملامحُ القلق
هَمَس يزن بضيق” ماذا يَظُنُّني؟ أنا لم أُدَاعِب ظفلةً بحياتي قط! ”
لحظاتٌ من الصمتِ حلَّت في المكان وجوٌّ متوترٌ ساد بين هذانِ الأثنان، بين برودِ يزن و تجاهلُ هِتان ليزن بالكامِل.
قال يزن وهو ينظرُ للأُفقِ البعيد
“مَهلًا هِتان…”
التفتّْ هِتان منتظرةٌ لما سيقوله بإستغراب..
” ألستِ حزينة ؟ ”
هِتان ” ما مَقصَدُك؟ ”
يزن “الأمرُ جليٌّ جدًا…. بشأنِ والدِك”
نطقت هِتان ببرود ” لِما تَسألُ بشأنِ أبي؟! ”
أدرَكَ يزن لما كانَ سينطِقُ بهِ من هُراء وقرر إعادَةَ بِناء الجدارِ الجلديِّ بَينهُما فقال ” ههه أبيكِ أحمق لتَركِنا هُنا طِوال هذا الوقت!”
قاطعتهُ هِتان بغضبٍ مُحمرّةٍ خدودِها “أبي ليسَ بأحمق!”
يزن بابتسامةٍ ساخِره “لنرى إذاً ما سيأتي به”
غربتِ الشمسُ، ولم يعُد يامنٌ بعد…
*انتهى الفصل الأول